باب الوقف على الهمز
وهو باب مشكل يحتاج إلى معرفة تحقيق مذاهب أهل العربية ، وأحكام رسم المصاحف العثمانية ، وتمييز الرواية ، وإتقان الدراية . قال الحافظ
أبو شامة : هذا الباب من أصعب الأبواب نظما ونثرا في تمهيد قواعده ، وفهم مقاصده . قال : ولكثرة تشعبه أفرد له
أبو بكر أحمد بن مهران المقرئ - رحمه الله - تصنيفا حسنا جامعا ، وذكر أنه قرأ على غير واحد من الأئمة فوجد أكثرهم لا يقومون به حسب الواجب فيه إلا الحرف بعد الحرف .
( قلت ) : وأفرده أيضا بالتأليف
أبو الحسن بن غلبون ،
nindex.php?page=showalam&ids=12111وأبو عمرو الداني ، وغير واحد من المتأخرين
كابن بصخان ،
والجعبري ،
وابن جبارة ، وغيرهم ، ووقع لكثير منهم فيه أوهام سنقف عليها ، ولما كان
الهمز أثقل الحروف نطقا وأبعدها مخرجا تنوع العرب في تخفيفه بأنواع التخفيف كالنقل ، والبدل ، وبين بين ، والإدغام ، وغير ذلك ، وكانت
قريش وأهل الحجاز أكثرهم له تخفيفا ; ولذلك أكثر ما يرد تخفيفه من طرقهم
كابن كثير من رواية
فليح ،
وكنافع من رواية
nindex.php?page=showalam&ids=17274ورش وغيره ،
وكأبي جعفر من أكثر رواياته ولا سيما رواية
العمري ، عن أصحابه ، عنه ، فإنه لم يكد يحقق همزة وصلا ،
وكابن محيصن قارئ
أهل مكة مع
ابن كثير وبعده ،
وكأبي عمرو ، فإن مادة قراءته عن
[ ص: 429 ] أهل الحجاز ، وكذلك
عاصم من رواية
الأعشى ، عن
أبي بكر من حيث إن روايته ترجع إلى
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، وأما الحديث الذي أورده
nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي وغيره من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=17171موسى بن عبيدة ، عن
نافع ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، قال : ما همز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا
أبو بكر ولا
عمر ولا الخلفاء ، وإنما الهمز بدعة ابتدعوها من بعدهم . فقال
أبو شامة الحافظ : هو حديث لا يحتج بمثله ؛ لضعف إسناده ، فإن
موسى بن عبيدة هذا هو الزيدي ، وهو عند أئمة الحديث ضعيف .
( قلت ) : قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد : لا تحل الرواية عنه ، وفي رواية : لا يكتب حديثه . واعلم أنه من كانت لغته تخفيف الهمز ، فإنه لا ينطق بالهمز إلا في الابتداء ، والقصد أن تخفيف الهمز ليس بمنكر ولا غريب ، فما أحد من القراء إلا وقد ورد عنه تخفيف الهمز ، إما عموما وإما خصوصا ، كما قدمنا ذكره في الأبواب المتقدمة ، وقد أفرد له علماء العربية أنواعا تخصه ، وقسموا تخفيفه إلى واجب وجائز ، وكل ذلك أو غالبه وردت به القراءة ، وصحت به الرواية ، إذ من المحال أن يصح في القراءة ما لا يسوغ في العربية ، بل قد يسوغ في العربية ما لا يصح في القراءة ; لأن القراءة سنة متبعة ، يأخذها الآخر عن الأول ، ومما صح في القراءة وشاع في العربية
الوقف بتخفيف الهمز وإن كان يحقق في الوصل ; لأن الوقف محل استراحة القارئ والمتكلم ; ولذلك حذفت فيه الحركات والتنوين ، وأبدل فيه تنوين المنصوبات ، وجاز فيه الروم والإشمام والنقل والتضعيف ، فكان تخفيف الهمز في هذه الحالة أحق وأحرى . قال
ابن مهران : وقال بعضهم : هذا مذهب مشهور ولغة معروفة ، يحذف الهمز في السكت - يعني الوقف - كما يحذف الإعراب فرقا بين الوصل والوقف . قال : وهو مذهب حسن . وقال بعضهم : لغة أكثر العرب الذين هم أهل الجزالة والفصاحة ترك الهمزة الساكنة في الدرج والمتحركة عند السكت .
( قلت ) : وتخفيف الهمز في الوقف مشهور عند علماء العربية ، أفردوا له بابا وأحكاما ، واختص بعضهم فيه بمذاهب عرفت بهم ونسبت إليهم كما نشير إليه - إن شاء الله تعالى - .
[ ص: 430 ] وقد اختص
حمزة بذلك من حيث إن قراءته اشتملت على شدة التحقيق والترتيل والمد والسكت ، فناسب التسهيل في الوقف ; ولذلك روينا عنه الوقف بتحقيق الهمز إذا قرأ بالحدر ، كما سنذكره إن شاء الله . هذا كله مع صحة الرواية بذلك عنده وثبوت النقل به لديه . فقد قال فيه
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري : ما قرأ
حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر .
( قلت ) : وقد وافق
حمزة على تسهيل الهمزة في الوقف
حمران بن أعين ،
nindex.php?page=showalam&ids=16258وطلحة بن مصرف ،
nindex.php?page=showalam&ids=15639وجعفر بن محمد الصادق ،
nindex.php?page=showalam&ids=13726وسليمان بن مهران الأعمش في أحد وجهيه ،
وسلام بن سليمان الطويل البصري ، وغيرهم ، وعلى تسهيل المتطرف منه
nindex.php?page=showalam&ids=17246هشام بن عمار في أحد وجهيه ،
وأبو سليمان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16810قالون في المنصوب المنون ، وسأبين
أقسام الهمز في ذلك ، وأوضحه ، وأقربه ، وأكشفه ، وأهذبه ، وأحرره ، وأرتبه ، ليكون عمدة للمبتدئين ، وتذكرة للمنتهين ، والله تعالى الموفق .
( فأقول ) الهمز ينقسم إلى ساكن ومتحرك . فالساكن ينقسم إلى متطرف ، وهو ما ينقطع الصوت عليه ، وإلى متوسط ، وهو ما لم يكن كذلك ، أما الساكن المتطرف فينقسم إلى لازم لا يتغير في حاليه ، وعارض يسكن وقفا ، ويتحرك بالأصالة وصلا ، فالساكن اللازم يأتي قبله مفتوح مثل (
اقرأ ) ومكسور مثل (
نبئ ) ولم يأت به في القرآن قبله مضموم ، ومثاله في غير القرآن ( لم يسؤ ) والساكن العارض يأتي قبله الحركات الثلاث ، فمثاله وقبله الضم (
كأمثال اللؤلؤ ،
إن امرؤ ) ومثاله وقبله الكسر (
من شاطئ ، و
يبدئ ، و
قرئ ) ومثاله وقبله الفتح (
بدأ ،
وقال الملأ . و
عن النبإ ) وأما الساكن المتوسط فينقسم إلى قسمين : متوسط بنفسه ومتوسط بغيره . فالمتوسط بنفسه يكون قبله ضم نحو ( المؤتفكة ، و
يؤمن ) وكسر نحو ( بئر ، و
نبئنا ) ومفتوح نحو (
كأس ، و
تأكل ) والمتوسط بغيره على قسمين : متوسط بحرف ، ومتوسط بكلمة . فالمتوسط بحرف يكون قبله فتح نحو (
فأووا ،
وآتوا ) ولم يقع قبله ضم ولا كسر ، والمتوسط بكلمة يكون قبله ضم نحو ( قالوا ايتنا ، والملك ايتوني ) وكسر نحو (
الذي اؤتمن ،
[ ص: 431 ] والأرض ايتنا ) وفتح نحو ( الهدى ايتنا ، وقال ايتوني ) فهذه أنواع الهمز الساكن ، وتخفيفه أن يبدل بحركة ما قبله ، إن كان قبله ضم أبدل واوا ، وإن كان قبله كسر أبدل ياء ، وإن كان قبله فتح أبدل ألفا ، وكذلك يقف
حمزة من غير خلاف عنه في ذلك إلا ما شذ فيه
ابن سفيان ، ومن تبعه من المغاربة
كالمهدوي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13269وابن شريح ،
وابن الباذش من تحقيق المتوسط بكلمة لانفصاله وإجراء الوجهين في المتوسط بحرف لاتصاله ، كأنهم أجروه مجرى المبتدأ ، وهذا وهم منهم وخروج عن الصواب ، وذلك أن هذه الهمزات وإن كن أوائل الكلمات فإنهن غير مبتدآت ؛ لأنهن لا يمكن ثبوتهن سواكن إلا متصلات بما قبلهن ; فلهذا حكم لهن بكونهن متوسطات . ألا ترى أن الهمزة في (
فأووا ،
وأمر ، وقال ايتوني ) كالدال في (
فادع ) والسين في (
فاستقم ) والراء في (
قال ارجع ) فكما أنه لا يقال : إن الدال والسين والراء في ذلك مبتدآت ولا جاريات مجرى المبتدآت ، فكذلك هذه الهمزات ، وإن وقعن فاء من الفعل ، إذ ليس كل فاء تكون مبتدأة ، أو جارية مجرى المبتدأ ، ومما يوضح ذلك أن من كان مذهبه تخفيف الهمز الساكن المتوسط غير
حمزة كأبي عمرو ،
وأبي جعفر ،
nindex.php?page=showalam&ids=17274وورش فإنهم خففوا ذلك كله من غير خلف عن أحد منهم ، بل أجروه مجرى يؤتى ويؤمن ويألمون ، فأبدلوه من غير فرق بينه وبين غيره ، وذلك واضح ، والله أعلم .
والعجب أن
ابن الباذش نسب تحقيق هذا القسم
لأبي الحسن بن غلبون وأبيه
وابن سهل ، والذي رأيته نصا في " التذكرة " ، هو الإبدال بغير خلاف ، والله أعلم .
( واختلف ) أئمتنا في تغيير حركة الهاء مع إبدال الهمزة ياء قبلها في قوله : (
أنبئهم ) في البقرة و ( نبئهم ) في الحجر ، فكان بعضهم يروي كسرها لأجل الياء كما كسر لأجلها في نحو (
فيهم ، و
يؤتيهم ) فهذا مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13492أبي بكر بن مجاهد ،
وأبي الطيب ابن غلبون ، وابنه
أبي الحسن ، ومن تبعهم . وكان آخرون يقرؤنها على ضمتها ; لأن الياء عارضة ، أو لا توجد إلا في التخفيف فلم يعتدوا بها ، وهو اختيار
ابن مهران ،
ومكي ،
والمهدوي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13222وابن سفيان ، والجمهور ، وقال
أبو الحسن بن غلبون : كلا الوجهين
[ ص: 432 ] حسن . وقال صاحب " التيسير " : وهما صحيحان . وقال في " الكافي " : الضم أحسن .
( قلت ) : والضم هو القياس ، وهو الأصح ، فقد رواه منصوصا
nindex.php?page=showalam&ids=14381محمد بن يزيد الرفاعي صاحب
سليم ، وإذا كان
حمزة ضم هاء (
عليهم ، و
إليهم ، و
لديهم ) من أجل أن الياء قبلها مبدلة من ألف ، فكان الأصل فيها الضم : فضم هذه الهاء أولى وآصل ، والله أعلم .