صفحة جزء
فرع .

في مواطن ورد الشرع بالنهي عن الصلاة فيها :

أحدها : المزبلة ، والمجزرة ، والنهي فيهما لنجاسة الموضع . فلو فرش ثوبا أو بساطا طاهرا ، صحت صلاته ، ولكن تكره بسبب النجاسة تحته .

الثاني : قارعة الطريق ، للنهي عنها معنيان . أحدهما : غلبة النجاسة ، والثاني : اشتغال القلب بسبب مرور الناس .

فإن قلنا بالمعنى الأول : جرى النهي في جواد الطرق في البراري ، وإن قلنا بالثاني : فلا ، وفي صحة الصلاة في [ ص: 278 ] الشوارع مع غلبة النجاسة القولان المتقدمان في باب الاجتهاد لتعارض الأصل والظاهر .

فإن صححناها فالنهي للتنزيه ، وإلا فللتحريم . فلو بسط شيئا طاهرا ، صحت الصلاة قطعا وتبقى الكراهة لشغل القلب .

والثالث : بطن الوادي ، والنهي عنه للخوف السالب للخشوع ، بسبب سيل يتوقع ، فإن لم يتوقع سيل فيحتمل أن يقال لا كراهة ، ويحتمل الكراهة لمطلق النهي .

قلت : اتبع الإمام الرافعي الغزالي وإمام الحرمين في إثبات النهي عن الصلاة في بطون الأودية مطلقا ، ولم يجئ في هذا نهي أصلا .

والحديث الذي جاء فيه ذكر المواطن السبعة ، ليس فيه الوادي ، بل فيه المقبرة بدلا منه ، ولم يصب من ذكر الوادي وحذف المقبرة .

والحديث من أصله ضعيف ، ضعفه الترمذي وغيره ، وإنما الصواب ما ذكره الشافعي رحمه الله ، فإنه يكره الصلاة في واد خاص ، وهو الذي نام ( فيه ) رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه عن الصبح حتى فاتت ، وقال : ( اخرجوا بنا من هذا الوادي ) وصلى خارجه . والله أعلم .

الرابع : الحمام . قيل : سبب النهي كثرة النجاسة والوسخ ، وقيل : لأنه مأوى الشيطان ، وفي المسلخ وجهان :

إن قلنا بالسبب الأول لم يكره ، وإلا كره وهو الأصح ، وتصح الصلاة بكل حال في المسلخ والحمام إذا حكم بطهارته .

الخامس : ظهر الكعبة وسبق تفصيله في باب الاستقبال .

السادس : أعطان الإبل ، وفسره الشافعي رحمه الله بالمواضع التي تنحى إليها الإبل الشاربة ليشرب غيرها .

فإذا اجتمعت سيقت فتكره الصلاة في أعطان الإبل ، ولا تكره في مراح الغنم ، وهو : مأواها ليلا ، وقد يتصور في الغنم مثل عطن الإبل .

وحكمه حكم مراحها ، وحكم مأوى الإبل ليلا حكم عطنها . لكن الكراهية في العطن أشد ، ومتى صلى في العطن أو المراح ونجس [ ص: 279 ] بالبول أو البعر أو غيرهما لم تصح صلاته ، وإلا صحت مع افتراقهما في الكراهة .

السابع : المقبرة ، وتكره الصلاة فيها بكل حال . ثم إن كانت غير منبوشة ، أو بسط عليها طاهرا صحت صلاته ، وإن علم أن موضع صلاته منبوش لم تصح .

وإن شك في نبشه ، صحت على الأظهر ، ويكره استقبال القبر في الصلاة .

القسم الثاني : النجاسة الواقعة في مظنة العفو ، وهو أضرب .

الأول : الأثر الباقي على محل الاستنجاء بعد الحجر ، يعفى عنه مع نجاسته . فلو لاقى ماء قليلا نجسه ، ولو حمله مصل بطلت صلاته على الأصح .

ويجري الوجهان فيما إذا حمل من على ثوبه نجاسة معفو عنها ، ويقرب منها الوجهان فيما لو عرق وتلوث بمحل النجو غيره .

لكن الأصح هنا العفو لعسر الاحتراز ، بخلاف حمل غيره ، ولو حمل حيوانا لا نجاسة عليه صحت صلاته ، وإن تنجس منفذه بالخارج فوجهان :

الأصح عند إمام الحرمين ، المقطوع به في ( التتمة ) : لا تصح صلاته ، والأصح عند الغزالي : صحتها .

قلت : الأول أصح ، والله أعلم .

ولو وقع هذا الحيوان في ماء قليل أو مائع آخر وخرج حيا ، لم ينجسه على الأصح ، للمشقة في صيانة الماء والمائع .

ولو حمل بيضة صار حشوها دما ، وظاهرها طاهر ، أو حمل عنقودا استحال باطن حباته خمرا ، ولا رشح على ظاهرها ، لم تصح صلاته على الأصح .

ويجري الوجهان في كل استتار خلقي ، ولو حمل قارورة مصممة الرأس برصاص أو نحوه ، وفيها نجاسة ، لم تصح صلاته على الصحيح .

ولو صممها بخرقة بطلت صلاته قطعا ، ولو صممها بشمع قيل : إنه كالرصاص ، وقيل : كالخرقة ، ولو حمل حيوانا مذبوحا بعد غسل الدم وغيره من موضع الذبح وغيره لم تصح قطعا .

[ ص: 280 ] الضرب الثاني : طين الشوارع . فتارة يعلم نجاسته ، وتارة يظنها ، وتارة لا قطعا يعلمها ولا يظنها . فالثالث : لا يضر .

والمظنون فيه القولان السابقان في باب الاجتهاد ، والنجس يعفى قليله دون كثيره .

والقليل : ما يتعذر الاحتراز منه ، والرجوع فيه إلى العادة ، ويختلف بالوقت وبموضعه في البدن .

وذكر الأئمة له تقريبا ، فقالوا : القليل ما لا ينسب صاحبه إلى سقطة أو كبوة أو قلة تحفظ . فإن نسب فكثيرة ، ولو أصاب أسفل الخف أو النعل نجاسة فدلكه بالأرض حتى ذهبت أجزاؤها ، ففي صحة صلاته فيه قولان :

الجديد الأظهر : لا يصح مطلقا ، والقديم : يصح بشروط . أحدها : أن يكون للنجاسة جرم يلتصق به . أما البول ونحوه فلا يكفي دلكه بحال ، والثاني : أن يدلكه في حال الجفاف ، وما دام رطبا لا يكفي الدلك قطعا ، والثالث : أن يكون حصول النجاسة بالمشي من غير تعمد . فلو تعمد تلطيخ الخف بها ، وجب الغسل قطعا .

والقولان جاريان فيما أصاب أسفل الخف وأطرافه من طين الشوارع - المتيقن النجاسة - الكثير الذي لا يعفى عنه وسائر النجاسة الغالبة في الطرق كالروث وغيره .

الضرب الثالث : دم البراغيث ، يعفى عن قليله في الثوب والبدن ، وفي كثيره وجهان :

أصحهما : العفو ، ويجري الوجهان في دم القمل والبعوض ، وما أشبه ذلك ، وفي ونيم الذباب وبول الخفاش .

ولو كان قليلا فعرق وانتشر اللطخ بسببه فعلى الوجهين .

وفي ضبط القليل والكثير خلاف . ففي قول قديم : القليل : قدر دينار ، وفي قديم آخر : ما دون الكف ، وعلى الجديد وجهان :

أحدهما : الكثير : ما يظهر للناظر من غير تأمل وإمعان طلب ، والقليل دونه ، وأصحهما الرجوع إلى العادة ، فما يقع التلطخ به غالبا ويعسر الاحتراز عنه فقليل .

فعلى الأول لا يختلف ذلك باختلاف الأوقات والبلاد ، وعلى الثاني وجهان :

أحدهما : يعتبر الوسط المعتدل ، ولا يعتبر من [ ص: 281 ] الأوقات والبلاد ، وعلى الثاني وجهان : أحدهما يعتبر الوسط المعتدل ، ولا يعتبر من الأوقات والبلاد ما يندر ذلك فيه أو يتفاحش ، وأصحهما : يختلف باختلاف الأوقات والبلاد ويجتهد المصلي هل هو قليل أم كثير ؟ .

الضرب الرابع : دم البثرات وقيحها وصديدها كدم البراغيث ، فيعفى عن قليله قطعا ، وعن كثيره على الأصح ، ولو عصر بثرة ، فخرج ما فيها ، عفي عنه على الأصح .

ولو أصابه دم غيره من آدمي أو بهيمة أو غيرهما ، فإن كان كثيرا فلا عفو ، وإن كان قليلا فقولان . وقيل : وجهان . أظهرهما : العفو ، ولو أصابه شيء من دم نفسه ، لا من البثرات ، بل من الدماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة فوجهان : أحدهما وهو مقتضى كلام الأكثرين : أنه كدم البثرات ، والثاني : وهو الأولى ، واختاره القاضي ابن كج ، والشيخ أبو محمد وإمام الحرمين : أنه لا يلتحق بدم البثرات . بل إن كان مما يدوم مثلها غالبا ، فهي كدم الاستحاضة ، وسبق حكمه في باب الحيض .

وإن كان مما لا يدوم غالبا ، فهو كدم الأجنبي ، لا يعفى عن كثيره وفي قليله الخلاف .

قلت الأصح أنه كدم البثرات . والله أعلم .

وحكم القيح والصديد حكم الدم في جميع ما ذكرناه .

وأما القروح والنفاطات فإن كان له رائحة كريهة ، فهو نجس ، وإلا فطريقان .

أحدهما : القطع بالطهارة ، والثاني : على قولين .

قلت : المذهب طهارته . والله أعلم .

[ ص: 282 ] الضرب الخامس : إذا صلى وعلى ثوبه أو بدنه أو موضع صلاته نجاسة غير معفو عنها ، وهو لا يدري ، فإن لم يكن علمها وجبت الإعادة على الأظهر .

وإن علمها ثم نسيها وجبت قطعا ، وقيل : على القولين ، وإذا أوجبنا الإعادة ، وجبت إعادة كل صلاة تيقن أنه صلاها مع النجاسة ، وإذا احتمل أنها حدثت بعدما صلى فلا شيء عليه .

الضرب السادس : في أنواع متفرقة ، منها النجاسة التي تستصحبها المستحاضة ، وسلس البول ، ومنها إذا كان على جرحه دم كثير يخاف من إزالته .

ومنها ، إذا تلطخ سلاحه بالدم في صلاة شدة الخوف .

ومنها : الشعر الذي ينتف ولا يخلو عنه ثوبه وبدنه ، وحكمه حكم دم البراغيث .

ومنها : القدر الذي لا يدركه الطرف من البول والخمر وغير الدم ، وفيه خلاف تقدم في أول ( كتاب الطهارة ) .

قلت : إذا كان على جرحه دم كثير زائد على ما يعفى عنه ، وخاف من غسله صلى به وجبت الإعادة على الجديد الأظهر . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية