فصل
قد يعارض القرينة ما يمنع كونها لوثا ، ويعارض اللوث ما يسقط أثره ويبطل الظن الحاصل به ، وذلك خمسة أنواع :
أحدها :
أن يتعذر إثباته ، وإذا ظهر لوث في حق جماعة ، فللولي أن يعين واحدا أو أكثر ويدعي عليه ويقسم ، فلو قال : القاتل أحدهم ولا أعرفه ، فلا قسامة ، وله تحليفهم ، فإن حلفوا إلا واحدا ، فنكوله يشعر بأنه القاتل ، ويكون لوثا في حقه ، فإذا طلب المدعي أن يقسم عليه ، مكن منه ، ولو نكل الجميع ، ثم عين الولي أحدهم وقال : قد بان لي أنه القاتل ، وأراد أن يقسم عليه ، مكن منه على الأصح .
[ ص: 13 ] الثاني :
إذا ظهر لوث في أصل القتل دون كونه خطأ أو عمدا ، فهل يتمكن الولي من القسامة على أصل القتل ؟ وجهان ، أصحهما : لا ، قال
البغوي : لو ادعى على رجل أنه قتل أباه ، ولم يقل عمدا ولا خطأ ، وشهد له شاهد ، لم يكن ذلك لوثا ; لأنه لا يمكنه أن يحلف مع شاهده ، ولو حلف ، لا يمكن الحكم به ; لأنه لا يعلم صفة القتل حتى يستوفي موجبه .
واعلم أن هذا المذكور يدل على أن القسامة على قتل موصوف يستدعي ظهور اللوث في قتل موصوف ، وقد يفهم من إطلاق الأصحاب أنه إذا ظهر اللوث في أصل القتل ، كفى ذلك في تمكن الولي من القسامة على القتل الموصوف ، وليس هذا ببعيد ، ألا ترى أنه لو ثبت اللوث في حق جماعة وادعى الولي على بعضهم ، جاز ، ويمكن من القسامة ، فكما لا يعتبر ظهور اللوث فيما يرجع إلى الانفراد والاشتراك لا يعتبر في صفة العمد والخطأ .
الثالث :
أن ينكر المدعى عليه اللوث في حقه ، بأن قال : لم أكن مع القوم المتفرقين عن القتيل ، أو قال : لست أنا الذي رئي معه السكين المتلطخ على رأسه ، أو لست أنا المرئي من بعيد ، فعلى المدعي البينة على الأمارة التي ادعاها ، فإن لم يكن بينة ، حلف المدعى عليه على نفيها ، وسقط اللوث ، وبقي مجرد الدعوى ، ولو قال : كنت غائبا يوم القتل ، أو ادعى على جمع ، فقال أحدهم : كنت غائبا ، صدق بيمينه ; لأن الأصل براءته ، وعلى المدعي البينة على حضوره يومئذ ، أو إقراره بالحضور ، فإن أقام بينة بحضوره ، وأقام المدعى عليه بينة بغيبته ، ففي " الوسيط " : أنهما تتساقطان ، وفي " التهذيب " : تقدم بينة الغيبة ; لأن معها زيادة علم ، هذا إذا اتفقا أنه كان حاضرا من قبل ،
[ ص: 14 ] ويعتبر في بينة الغيبة أن يقولوا : كان غائبا في موضع كذا ، فلو اقتصروا على أنه لم يكن هنا ، فهذا نفي محض لا تسمع الشهادة عليه ، ولو أقسم المدعي ، وحكم القاضي بموجب القسامة ، ثم أقام المدعى عليه بينة على غيبته يوم القتل ، أو أقر بها المدعي ، نقض الحكم واسترد المال ، وكذا لو قامت بينة على أن القاتل غيره ، ولو قال الشهود : لم يقتله هذا ، واقتصروا عليه ، لم تقبل شهادتهم ، ولو كان محبوسا أو مريضا يوم القتل ، فهل هما كالغيبة حتى يسقط اللوث إذا ثبت الحال بإقرار المدعي أو بينة ؟ وجهان ، وموضعها إذا أمكن كونه قاتلا بحيلة ولو في صورة بعيدة أصحهما : هما كالغيبة .
الرابع :
شهد عدل أو عدلان أن زيدا قتل أحد هذين القبيلين ، فليس بلوث ، ولو شهد أو شهدا أن زيدا قتله أحد هذين ، ثبت اللوث في حقهما على الصحيح ، فإذا عين الولي أحدهما وادعى عليه ، فله أن يقسم ، كما لو تفرق جماعة عن قتيل ، وقيل : لا لوث ، كالصورة الأولى .
الخامس :
تكذيب بعض الورثة ، فإذا كان للميت ابنان ، فقال أحدهما : قتل زيد أبانا ، وقد ظهر عليه اللوث ، وقال الآخر : لم يقتله ، بل كان غائبا يوم القتل ، وإنما قتله فلان ، أو اقتصر على نفي القتل عنه ، أو قال : برأ من الجراحة ، أو مات حتف أنفه ، فهل يبطل تكذيبه اللوث ، ويمنع الأول القسامة ؟ فيه قولان ، أظهرهما : نعم ، وسواء كان المكذب عدلا أو فاسقا ، وقيل : لا تبطل بالفاسق قطعا ، والمنصوص الأصح : أنه لا فرق ، فإن قلنا : لا تبطل ، حلف المدعي خمسين يمينا ، وأخذ حقه من الدية ، ولو قال أحدهما : قتل أبانا زيد ، وقال الآخر : بل قتله عمرو ، وقلنا : لا يبطل اللوث بالتكاذب ، أقسم كل واحد على من
[ ص: 15 ] عينه ، وأخذ نصف الدية ، وإن قلنا : يبطل ، فلا قسامة ، ويحلف كل واحد من عينه ، ولو قال أحدهما : قتل أبانا زيد ورجل لا أعرفه ، وقال الآخر : قتله عمرو ، ورجل لا أعرفه ، فلا تكاذب ، فيقسم كل واحد على من عينه ، ويأخذ منه ربع الدية ، فإن عادا ، وقال كل واحد منهما : قد بان لي أن المبهم هو الذي عينه أخي ، فلكل واحد أن يقسم على الآخر ، ويأخذ منه ربع الدية ، وهل يحلف كل واحد خمسين يمينا ، أم خمسا وعشرين ؟ فيه خلاف يأتي في نظائره إن شاء الله تعالى ، وإن قال كل واحد : المبهم غير الذي عينه أخي ، حصل التكاذب ، فإن قلنا : تبطل القسامة ، رد كل واحد ما أخذ بها ، وإلا فيقسم كل واحد على من عينه ثانيا ، ويأخذ منه ربع الدية ، ولو قال الذي عين زيدا : تبينت أن الذي أبهمت ذكره عمرو الذي عينه أخي ، وقال الذي عين عمرا : تبينت أن الذي أبهمت ذكره غير زيد ، فالذي عين عمرا لا يكذبه أخوه ، فله أن يقسم على عمرو ، ويأخذ منه ربع الدية ، والذي عين زيدا ، كذبه أخوه ، فإن قلنا : تبطل القسامة ، رد ما أخذ ، وحلف المدعى عليه ، وإلا أقسم على من عينه ، وأخذ منه ربع الدية ، ولو قال أحدهما : قتل أبانا زيد وحده ، وقال الآخر : قتله زيد وعمرو ، فإن قلنا : التكاذب لا يبطل القسامة ، أقسم الأول على زيد ، وأخذ منه نصف الدية ، ويقسم الثاني عليهما ، ويأخذ من كل واحد ربع الدية ، وإن قلنا : يبطل ، فالتكاذب هنا في النصف ، وفي بطلان القسامة في كل وجهان ، أصحهما : لا تبطل ، فيقسم الأول على زيد ، ويأخذ منه ربع الدية ، وكذا يقسم الثاني عليه ويأخذ ربعها ، ولا يقسم الثاني على عمرو ; لأن أخاه كذبه في الشركة ، وللأول تحليف زيد ، لما بطلت فيه القسامة ، وللثاني تحليف عمرو .
ولو قال أحدهما : قتل أبانا زيد وعمرو ، وقال الآخر : قتله بكر وخالد ، فإن أبطلنا القسامة بالتكذيب ، لم يقسم واحد منهما ، ولكل واحد
[ ص: 16 ] تحليف اللذين عينهما ، وإن لم يبطلها أقسم كل واحد على اللذين عينهما ، وأخذا من كل منهما ربع الدية .
فرع
لا يشترط في اللوث والقسامة ظهور دم ولا جرح ; لأن القتل يحصل بالخنق وعصر الخصية وغيرهما ، فإذا ظهر أثره ، قام مقام الدم ، فلو لم يوجد أثر أصلا ، فلا قسامة على الصحيح ، وبه قطع
الصيدلاني والمتولي ، فلا بد أن يعلم أنه قتيل ، ليبحث عن القاتل ، ولو وجد بعضه في محلة وتحقق موته ، ثبتت القسامة ، سواء وجد رأسه أو بدنه ، أقله أو أكثره ، وإذا وجد بعضه في محلة وبعضه في أخرى ، فللولي أن يعين ويقسم .