المسألة الثالثة : إذا
تناضلا مبادرة ، وشرطا المال لمن سبق إلى إصابة عشرة من مائة مثلا ، فسبق أحدهما إلى الإصابة المشروطة قبل كمال عدد الأرشاق ، بأن رمى كل واحد منهما خمسين ، وأصاب أحدهما منها عشرة والآخر دونها ، فالأول ناضل وقد استحق المال ، وهل يلزمه إتمام العمل ؟ فيه طريقان ، المذهب وبه قطع الجمهور : لا يلزم ، لأنه تم العمل الذي تعلق به الاستحقاق ، فلا يلزمه عمل آخر ، والثاني : فيه وجهان حكاهما الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي ، ثانيهما : يلزمه لينتفع صاحبه بمشاهدة رميه ويتعلم منه ، ولو
تناضلا محاطة وشرطا المال لمن خلص له عشرة من مائة ، فرمى كل واحد خمسين ، وأصاب أحدهما في خمسة عشر ، والآخر في خمسة ، فقد خلص للأول عشرة هل يستحق بها المال ، أم يتوقف الاستحقاق على استكمال الأرشاق ؟ وجهان ، أحدهما : يستحق بها كالمبادرة ، والثاني وهو الصحيح : لا يستحق ، لأن الاستحقاق منوط بخلوص عشرة من مائة ، وقد يصيب الآخر فيما بقي ما يمنع خلوص عشرة للأول بخلاف المبادرة ، فإن الإصابة بعدها لا ترفع ابتدار الأول إلى ذلك العدد ، فإن قلنا بهذا ، وجب إتمام الأرشاق ، وإن قلنا بالأول وأنه لا حط بعد خلوص العدد المشروط ،
[ ص: 379 ] فهل للآخر أن يكلفه إتمام العمل ؟ فيه الطريقان في المبادرة ، ويجري الخلاف في كل صورة يتوقع الآخر منع الأول من خلوص المشروط أو نصله ، كما إذا شرطا خلوص خمسة من عشرين ، فرمى كل واحد خمسة عشر ، وأصاب أحدهما عشرة والآخر ثلاثة ، لأنهما إذا استكملا الأرشاق ، فقد يصيب الآخر في الخمسة الباقية ، ولا يصيب الأول في شيء منها ، فلا يخلص له عشرة ، فلو كانت الصورة بحالها ، وأصاب الأول في عشرة من خمسة عشر ، ولم يصب الآخر في شيء منها ، فلا يرجو الآخر منع الأول من الخلوص ، فيثبت له استحقاق المال في الحال قطعا ، قال
البغوي وغيره : ولا يلزمه إتمام الأرشاق ، ولا يشك أنه يجيء فيه الخلاف المذكور في المبادرة ، ولو رمى أحدهما والشرط المبادرة في المثال المذكور خمسين ، وأصاب عشرة ، ورمى الآخر تسعة وأربعين ، وأصاب تسعة ، فالأول ليس بناضل ، بل يرمي الآخر سهما آخر فإن أصاب ، فقد تساويا وإلا فقد ثبت الاستحقاق للأول ، ولو أصاب الأول من خمسين عشرة ، والآخر من تسعة وأربعين ثمانية ، فالأول ناضل لأن الآخر وإن أصاب في رميته الباقية لا يساوي الأول ، ويظهر بالصورتين أن الاستحقاق لا يحصل بمجرد المبادرة إلى العدد المذكور بل يشترط مع الابتدار مساواتهما في عدد الأرشاق ، أو عجز الثاني من المساواة في الإصابة ، وإن ساواه في عدد الأرشاق ، ولو خلص لأحدهما في المحاطة عشرة من خمسين ، ورمى الآخر تسعة وأربعين ولم يصب في شيء منها فله أن يرمي سهما آخر فلعله يصيب فيه ، فيمنع خلوص عشر إصابات للأول .
فرع
إذا
قال رجل لرام : ارم خمسة عني ، وخمسة عن نفسك ، فإن أصبت في خمستك ، أو كان الصواب فيها أكثر ، فلك كذا ، أو قال :
[ ص: 380 ] ارم عشرة ، واحدة عنك وواحدة عني ، فإن كانت إصابتك فيما رميت عنك أكثر ، فلك كذا ، لم يجز ، نص عليه في " الأم " لأن المناضلة عقد ، فلا يكون إلا بين نفسين كالبيع وغيره ، ولأنه قد يجتهد في حق نفسه دون صاحبه ولو
قال : ارم عشرة فإن كان صوابك منها أكثر ، فلك كذا ، فظاهر ما نقله
المزني : أنه لا يجوز ، وأشار في تعليله بأنه يناضل نفسه ، فوافقه طائفة من الأصحاب ، وخالفه الجمهور وقالوا : هو جائز ، وحكوه عن نصه في " الأم " ، وعللوه بأنه بذل المال على عوض معلوم ، وله فيه غرض ظاهر ، وهو تحريضه على الرمي ومشاهدة رميه ، قالوا : وليس هو بنضال ، بل هو جعالة ، ثم من هؤلاء من غلط
المزني في الحكم والتعليل ، ومنهم من تأوله على ما لو قال : ارم كذا ، فإن كان صوابك أكثر ، فقد نضلتني ، فهذا لا يجوز ، لأن النضال إنما يكون بين اثنين ، فإن قلنا بالجواز ، فرمى ستة وأصابها كلها ، فقد ثبت استحقاقه ، وللشارط أن يكلفه استكمال العشرة على المذهب ، لأنه علق الاستحقاق بعشرة إصابتها أكثر ، ولو
قال لمتراميين : ارميا عشرة ، فمن أصاب منكما خمسة ، فله كذا ، جاز ، ولو
قال رجل لآخر : نرمي عشرة ، فإن أصبت في خمستك ، فلك كذا ، وإن أصبت أنا ، فلا شيء لي عليك ، جاز أيضا ، وإن قال : وإن أصبت في خمستي ، فلي عليك كذا ، لم يجز إلا بمحلل ، ولو قال : ارم سهما ، فإن أصبت ، فلك كذا ، وإن أخطأت ، فعليك كذا ، فهو قمار .
فرع
لو
كانوا يتناضلون ، فمر بهم رجل ، فقال لمن انتهت النوبة إليه وهو يريد الرمي : ارم ، فإن أصبت بهذا السهم ، فلك دينار ، نص
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رحمه الله - أنه إذا أصاب ، استحق الدينار ، وتكون تلك
[ ص: 381 ] الإصابة محسوبة من معاملته التي هو فيها ، قال الأصحاب : قياسا على هذا ، لو
كان يناضل رجلا والمشروط عشر قرعات ، فشرط أن يناضل بها ثانيا ثم ثالثا إلى غير ضبط ، وإذا فاز بها ، كان ناضلا لهم جميعا ، جاز ، قال الإمام : هذا دليل على انقطاع هذه المعاملة عن مضاهاة الإجارة ، لأنها لو كانت مثلها لما استحق بعمل واحد مالين عن جهتين ، وسبب استحقاق المال فيها الشرط لا رجوع العمل إلى الشارط .