[ ص: 557 ] ومورده : إما النفي ، نحو قوله في القتل بالمثقل : إن التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص ، كالتفاوت في القتل ، فيقول الحنفي : سلمت ، لكن لا يلزم من عدم المانع ثبوت القصاص ، بل من وجود مقتضيه أيضا ، فأنا أنازع فيه .
وجوابه ببيان لزوم حكم محل النزاع مما ذكره إن أمكن ، أو بأن النزاع مقصور على ما يعرض له بإقرار ، أو اشتهار ، ونحوه . وإما الإثبات ، نحو : الخيل حيوان يسابق عليه ، فتجب فيه الزكاة كالإبل ، فيقول : نعم زكاة القيمة .
وجوابه ، بأن النزاع في زكاة العين ، وقد عرفنا الزكاة باللام ، فينصرف إلى محل النزاع ، وفي لزوم المعترض إبداء مستند القول بالموجب خلاف الإثبات ، لئلا يأتي به نكدا وعنادا ؛ والنفي ، إذ بمجرده يبين عدم لزوم حكم المستدل مما ذكره ، والأولى أولى ، وينقطع المعترض بإيراده على وجه يغير الكلام عن ظاهره ، إذ وجوده كعدمه ، فهو كالتسليم ، نحو : الخل مائع لا يرفع الحدث ، فلا يزيل النجاسة كالمرق ، فيقول المعترض : أقول به ، إذ الخل النجس لا يزيل النجاسة ، لأن محل النزاع الخل الطاهر ، إذ النجس متفق على عدم إزالته ، فهو كالنقض العام ، كالعرايا على علة الربا .
قوله : " ومورده إما النفي " ، إلى آخره . أي : ومورد القول بالموجب ، أي : المحل الذي يرد فيه من الأحكام ، أو من الدعاوى ، " إما النفي " ، أو " الإثبات " أي : دعوى المستدل التي يرد عليها القول بالموجب إما أن تكون [ ص: 558 ] نافية ، نحو : " لا يمنع القصاص " أو مثبتة ، نحو : تجب الزكاة .
وأجود من هذا أن يقال : القول بالموجب إما أن يرد من المعترض دفعا عن مذهبه ، أو إبطالا لمذهب المستدل باستيفاء الخلاف مع تسليم مقتضى دليله ، وذلك لأن الحكم المرتب على دليل المستدل إما أن يكون إبطال مدرك الخصم ، أو إثبات مذهبه هو ، فإن كان الأول ، فالقول بالموجب يكون من المعترض دفعا عن مأخذه ، لئلا يفسد ، وإن كان الثاني ، كان القول بالموجب من المعترض إبطالا لمذهب المستدل ، وذلك لأن المستدل والمعترض كالمتحاربين كل واحد منهما يقصد الدفع عن نفسه وتعطيل صاحبه ، وهذا التقسيم لمورد القول بالموجب هو الصحيح المذكور في كتب الأصول .
أما تقسيمي أنا له إلى نفي وإثبات ، فلأني ظننت أن ذلك هو مقصود التقسيم ، ورأيت المثال على وفقه في أصل المختصر . أعني أنه منقسم إلى نفي كما في مثال القصاص ، وإلى إثبات كما في مثال الزكاة ، فقوي الظن بذلك ، ولم أكن عند الاختصار تأملته في كتب الأصول .
مثال الأول : وهو ورود القول بالموجب على إبطال مأخذ المعترض ، فيدفع به المعترض عن مذهبه : أن يقول الحنبلي في وجوب القصاص " بالقتل بالمثقل " : " التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص ، كالتفاوت في القتل " ، فإنه لو ذبحه ، أو ضرب عنقه أو طعنه برمح ، أو رماه بسهم ، أو غير ذلك من صور القتل ، لم يمنع القصاص ، فكذلك إذا كان التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص محددة كانت أو مثقلة . وهذا تعرض من المستدل بإبطال مأخذ الخصم ، إذ الحنفي يرى أن التفاوت في الآلة يمنع القصاص ، لأن المثقل لما [ ص: 559 ] تقاصر تأثيره عن المحدد أورث ذلك شبهة ، والقصاص حد يدرأ بالشبهة ، " فيقول الحنفي " دفاعا عن مذهبه : " سلمت " أن التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص ؛ " لكن لا يلزم من عدم المانع " للقصاص ثبوته ، " بل " إنما يلزم ثبوته " من وجود مقتضيه " وهو السبب الصالح لإثباته والنزاع فيه ، ولهذا يجب القصاص عندي بالقتل بالسيف ، أو السكين أو نحوها من الآلات مع تفاوتها ، لكن لما كانت صالحة للإزهاق بالسريان في البدن بخلاف المثقل .
ومن أمثلة هذا القسم : أن يقول الشفعوي في مسألة استيلاد الأب جارية الابن : إن وجوب القيمة يمنع وجوب المهر ، لأنها بوجوب القيمة على الأب صارت ملكا له ، فلا يلزمه مهر ملكه . فيقول الحنفي : أسلم أنه لا يمنع وجوب المهر ، لكن النزاع في وجوب المقتضي لوجوب المهر ، إذ الحكم ثبت لوجود المقتضي ، لا لانتفاء المانع .
قوله : " وجوابه : ببيان لزوم حكم محل النزاع مما ذكره إن أمكن ، أو بأن النزاع مقصور على ما يعرض له بإقرار ، أو اشتهار ، ونحوه " . أي : وجواب هذا القول بالموجب بطرق :
أحدها : أن يبين المستدل لزوم حكم محل النزاع بوجود مقتضيه مما ذكره في دليله إن أمكنه بيانه ، مثل أن يقول في المثالين المذكورين : يلزم من كون التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص وجود مقتضى القصاص إما بناء على أن وجود المانع وعدمه قيام المقتضي ، إذ لا يكون الوصف مانعا بالفعل إلا لمعارضة المقتضي ، وذلك يستدعي وجوده . ولذلك لما كان الحكم يدور مع [ ص: 560 ] مقتضيه وجودا وعدما ، لم يصح عرفا الاهتمام بسلب المانع إلا عند قيام المقتضي ، وإلا فالاهتمام بسبب المقتضي أولى . أو بأن يقول المستدل : إذا سلمت أن تفاوت الآلة لا يمنع القصاص ، فالقتل المزهق هو المقتضي ، والتقدير أنه موجود . وكذلك في مسألة الاستيلاد إذا سلمت أن وجوب القيمة لا يمنع المهر ، فالمتقضي لوجوب المهر قائم ، وهو الوطء في وقت لم تكن مملوكة له .
ومن هذا الباب أن يقول المستدل في بيع الغائب : عقد معاوضة ، فلا ينعقد على خيار الرؤية كالنكاح ، فيقول المعترض : أقول بموجب هذا الدليل ، فإنه إنما يدل على أن البيع لا يثبت فيه خيار الرؤية فلم قلت : إنه لا يصح ؟ فيقول المستدل : لأن خيار الرؤية لازم لصحة البيع عندك ، فإذا سلمت انتفاء لازمها ، لزمك تسليم انتفائها ، إذ لا بقاء للملزوم بدون لازمه .
ومنها : أن يبين المستدل " أن النزاع " إنما هو فيما " يعرض له " ، إما " بإقرار " أو اعتراف من المعترض بذلك . مثل أن يقول : إنما فرضنا الكلام في صحة بيع الغائب لا في ثبوت خيار الرؤية فيه ، ووقع الاستدلال على ذلك ، أو باشتهار بين أهل العرف أن مثل هذه المسألة إنما جرت العادة أن يقع النزاع فيها في كذا لصحة البيع ههنا ، فلا يسمع من المعترض العدول عنه ، لأنه في الأول إنكار لما اعترف به ، وفي الثاني نوع مراوغة ومغالطة ودعوى جهل بالمشهورات ، كمن نشأ في بلاد الإسلام وشرب أو زنى مدعيا للجهل بتحريم ذلك .
ومن أمثلة هذا أن يقول المستدل : الدين لا يمنع الزكاة ، ووطء الثيب [ ص: 561 ] لا يمنع الرد بالعيب ، فيقول المعترض : أسلم أنه لا يمنع ، لكن لم قلت : إن الزكاة والرد يثبتان ؟ فيقال له : هذا القول بالموجب لا يسمع ، لأن محل النزاع في هذه المسائل ونحوها مشهور ، وهو أن النزاع في الزكاة : هل تجب مع الدين ؟ ووطء الثيب هل يجوز معه الرد ؟ ومع الشهرة لا يقبل العدول عن المشهور ، ولا دعوى خفائه .
قال بعضهم : ويمكن أن يرد هذا التقسيم من القول بالموجب إلى دعوى فساد الوضع ، لكون دليل المستدل فيه يدل على خلاف محل النزاع ، فأشبه اقتضاء العلة خلاف ما علق بها .
قلت : وكذلك الآخر منه إذا صح واستقر .
مثال القسم الثاني من القول بالموجب ، وهو أن يرد من المعترض إبطالا لمذهب المستدل : أن يقول الحنفي في وجوب الزكاة في " الخيل : حيوان يسابق عليه ، فتجب فيه الزكاة كالإبل ، فيقول " المعترض " أقول بموجب ذلك ، وهو أن تجب فيها " زكاة القيمة " إذا كانت للتجارة .
قوله : " وجوابه " . أي : وجواب مثل هذا من القول بالموجب أن يقول المستدل : النزاع إنما كان في زكاة العين وقد عرفت " الزكاة باللام ، فينصرف إلى محل النزاع " المعهود ، وهو زكاة العين ، فالعدول إلى زكاة القيمة لا يسمع ، لأنه ترك لمدلول إلى غيره . وهذا نحو مما سبق من الجواب بشهرة المراد من محل النزاع .
ومن أمثلة هذا أن يقول المستدل في نكاح اليتيمة : صغيرة ، فتثبت الولاية [ ص: 562 ] عليها ، كما لو كان لها أب أو جد ، فيقول المعترض : نعم تثبت الولاية عليها في المال ، فيقول المستدل : اللفظ أعم من المال ، والنزاع إنما وقع في ولاية النكاح .
قوله : " وفي لزوم المعترض إبداء مستند القول بالموجب خلاف الإثبات ، لئلا يأتي به نكدا وعنادا ، والنفي ، إذ بمجرده يبين عدم لزوم حكم المستدل مما ذكره " .
يعني : أن المعترض إذا قال بموجب دليل المستدل هل يجب عليه أن يذكر مستند القول بموجبه ، مثل أن يقول : التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص ، ولكن لا يجب ، لانتفاء السبب ، ووجوب القيمة لا يمنع المهر ، لكن المهر لا يجب لانتفاء المقتضي ، إذ لم يبق محل يجب المهر عنه ، وأسلم أن زكاة القيمة تجب في الخيل ، لكن زكاة العين لا تجب ، ويدل على عدم الوجوب بما عنده ، فهذا فيه قولان :
والقول الثاني : لا يجب ، لا لما ذكرناه في المختصر ، فإنه ليس بجيد ، بل لأن المعترض عدل ، وهو أعرف بمذهبه ومأخذه ، فوجب تقليده في ذلك ، [ ص: 563 ] وإلا كان مطالبته بالمستند تكذيبا له .
قلت : فقد بان أن محل القولين إنما هو في المعترض العدل . أما إذا لم يكن عدلا ، أو كان معروفا بحب الانتصار على الخصم حتى بالاسترسال في الكلام فلا بد من مطالبته بالمستند ، لئلا يفضي إلى إفحام المستدل بغير حق ، وتضييع فائدة النظر ، ونشر الكلام . ثم إذا ذكر مستند القول بالموجب ، لا يجوز للمستدل الاعتراض عليه فيه ، مثل أن يقول المعترض : وجوب القيمة لا يمنع المهر ، لكنه لا يجب ، لأن الأب ملك الأمة ، فلا يلزمه مهرها ، فليس للمستدل أن يعارضه ، ويبين أن الأب لا يملك الجارية ، ويكون منقطعا بذلك ، لأنه حينئذ يناظر الخصم في مذهبه وهو أعرف به .
قوله : " وينقطع المعترض بإيراده على وجه يغير الكلام عن ظاهره ، إذ وجوده كعدمه ، فهو كالتسليم " .
أي : ينقطع المعترض بإيراد القول بالموجب على وجه يغير كلام المستدل على ظاهره ، لأن " وجوده كعدمه " ، ولو عدم القول بالموجب لانقطع ، فكذا إذا أتى به في حكم المعدوم ، وذلك لأنه بتغير الكلام عن ظاهره ، صار كالمناظر لنفسه كما سبق التقسيم فيكون منقطعا .
مثل ذلك أن يقول الحنبلي : " الخل مائع لا يرفع الحدث ، فلا يزيل النجاسة كالمرق ، فيقول المعترض : أقول " بموجبه ، وهو أن " الخل النجس لا يزيل النجاسة " عندي ، فلا يسمع هذا منه ، " لأن محل النزاع " عقلا وعرفا وشرعا إنما هو " الخل الطاهر " ، أما النجس فمتفق على أنه لا يزيل النجاسة ، فصار " كالنقض العام " على العلة ، لأن النجس لما لم يكن بإزالته للنجاسة قائل ؛ صار مرفوضا لا يفرض فيه نزاع ، ولا يوجه إليه نظر ، " كالعرايا على [ ص: 564 ] علة الربا " ؛ لما كان كل واحد من الخصمين يقول بها لم ترد نقضا على واحد منهما ، ولا يجب الاحتراز عنها للعلم بأنها مستثناة بالإجماع ، كذا هذا ، وبيان تغيير المعترض كلام المستدل أنه لما سلم الحكم في الخل النجس ، صار كأنه فهم عن المستدل أنه استدل على أن الخل النجس لا يزيل النجاسة ، فقد قوله ما لم يقل .