الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 557 ] ومورده : إما النفي ، نحو قوله في القتل بالمثقل : إن التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص ، كالتفاوت في القتل ، فيقول الحنفي : سلمت ، لكن لا يلزم من عدم المانع ثبوت القصاص ، بل من وجود مقتضيه أيضا ، فأنا أنازع فيه .

                وجوابه ببيان لزوم حكم محل النزاع مما ذكره إن أمكن ، أو بأن النزاع مقصور على ما يعرض له بإقرار ، أو اشتهار ، ونحوه . وإما الإثبات ، نحو : الخيل حيوان يسابق عليه ، فتجب فيه الزكاة كالإبل ، فيقول : نعم زكاة القيمة .

                وجوابه ، بأن النزاع في زكاة العين ، وقد عرفنا الزكاة باللام ، فينصرف إلى محل النزاع ، وفي لزوم المعترض إبداء مستند القول بالموجب خلاف الإثبات ، لئلا يأتي به نكدا وعنادا ؛ والنفي ، إذ بمجرده يبين عدم لزوم حكم المستدل مما ذكره ، والأولى أولى ، وينقطع المعترض بإيراده على وجه يغير الكلام عن ظاهره ، إذ وجوده كعدمه ، فهو كالتسليم ، نحو : الخل مائع لا يرفع الحدث ، فلا يزيل النجاسة كالمرق ، فيقول المعترض : أقول به ، إذ الخل النجس لا يزيل النجاسة ، لأن محل النزاع الخل الطاهر ، إذ النجس متفق على عدم إزالته ، فهو كالنقض العام ، كالعرايا على علة الربا .

                التالي السابق


                قوله : " ومورده إما النفي " ، إلى آخره . أي : ومورد القول بالموجب ، أي : المحل الذي يرد فيه من الأحكام ، أو من الدعاوى ، " إما النفي " ، أو " الإثبات " أي : دعوى المستدل التي يرد عليها القول بالموجب إما أن تكون [ ص: 558 ] نافية ، نحو : " لا يمنع القصاص " أو مثبتة ، نحو : تجب الزكاة .

                وأجود من هذا أن يقال : القول بالموجب إما أن يرد من المعترض دفعا عن مذهبه ، أو إبطالا لمذهب المستدل باستيفاء الخلاف مع تسليم مقتضى دليله ، وذلك لأن الحكم المرتب على دليل المستدل إما أن يكون إبطال مدرك الخصم ، أو إثبات مذهبه هو ، فإن كان الأول ، فالقول بالموجب يكون من المعترض دفعا عن مأخذه ، لئلا يفسد ، وإن كان الثاني ، كان القول بالموجب من المعترض إبطالا لمذهب المستدل ، وذلك لأن المستدل والمعترض كالمتحاربين كل واحد منهما يقصد الدفع عن نفسه وتعطيل صاحبه ، وهذا التقسيم لمورد القول بالموجب هو الصحيح المذكور في كتب الأصول .

                أما تقسيمي أنا له إلى نفي وإثبات ، فلأني ظننت أن ذلك هو مقصود التقسيم ، ورأيت المثال على وفقه في أصل المختصر . أعني أنه منقسم إلى نفي كما في مثال القصاص ، وإلى إثبات كما في مثال الزكاة ، فقوي الظن بذلك ، ولم أكن عند الاختصار تأملته في كتب الأصول .

                مثال الأول : وهو ورود القول بالموجب على إبطال مأخذ المعترض ، فيدفع به المعترض عن مذهبه : أن يقول الحنبلي في وجوب القصاص " بالقتل بالمثقل " : " التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص ، كالتفاوت في القتل " ، فإنه لو ذبحه ، أو ضرب عنقه أو طعنه برمح ، أو رماه بسهم ، أو غير ذلك من صور القتل ، لم يمنع القصاص ، فكذلك إذا كان التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص محددة كانت أو مثقلة . وهذا تعرض من المستدل بإبطال مأخذ الخصم ، إذ الحنفي يرى أن التفاوت في الآلة يمنع القصاص ، لأن المثقل لما [ ص: 559 ] تقاصر تأثيره عن المحدد أورث ذلك شبهة ، والقصاص حد يدرأ بالشبهة ، " فيقول الحنفي " دفاعا عن مذهبه : " سلمت " أن التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص ؛ " لكن لا يلزم من عدم المانع " للقصاص ثبوته ، " بل " إنما يلزم ثبوته " من وجود مقتضيه " وهو السبب الصالح لإثباته والنزاع فيه ، ولهذا يجب القصاص عندي بالقتل بالسيف ، أو السكين أو نحوها من الآلات مع تفاوتها ، لكن لما كانت صالحة للإزهاق بالسريان في البدن بخلاف المثقل .

                ومن أمثلة هذا القسم : أن يقول الشفعوي في مسألة استيلاد الأب جارية الابن : إن وجوب القيمة يمنع وجوب المهر ، لأنها بوجوب القيمة على الأب صارت ملكا له ، فلا يلزمه مهر ملكه . فيقول الحنفي : أسلم أنه لا يمنع وجوب المهر ، لكن النزاع في وجوب المقتضي لوجوب المهر ، إذ الحكم ثبت لوجود المقتضي ، لا لانتفاء المانع .

                قوله : " وجوابه : ببيان لزوم حكم محل النزاع مما ذكره إن أمكن ، أو بأن النزاع مقصور على ما يعرض له بإقرار ، أو اشتهار ، ونحوه " . أي : وجواب هذا القول بالموجب بطرق :

                أحدها : أن يبين المستدل لزوم حكم محل النزاع بوجود مقتضيه مما ذكره في دليله إن أمكنه بيانه ، مثل أن يقول في المثالين المذكورين : يلزم من كون التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص وجود مقتضى القصاص إما بناء على أن وجود المانع وعدمه قيام المقتضي ، إذ لا يكون الوصف مانعا بالفعل إلا لمعارضة المقتضي ، وذلك يستدعي وجوده . ولذلك لما كان الحكم يدور مع [ ص: 560 ] مقتضيه وجودا وعدما ، لم يصح عرفا الاهتمام بسلب المانع إلا عند قيام المقتضي ، وإلا فالاهتمام بسبب المقتضي أولى . أو بأن يقول المستدل : إذا سلمت أن تفاوت الآلة لا يمنع القصاص ، فالقتل المزهق هو المقتضي ، والتقدير أنه موجود . وكذلك في مسألة الاستيلاد إذا سلمت أن وجوب القيمة لا يمنع المهر ، فالمتقضي لوجوب المهر قائم ، وهو الوطء في وقت لم تكن مملوكة له .

                ومن هذا الباب أن يقول المستدل في بيع الغائب : عقد معاوضة ، فلا ينعقد على خيار الرؤية كالنكاح ، فيقول المعترض : أقول بموجب هذا الدليل ، فإنه إنما يدل على أن البيع لا يثبت فيه خيار الرؤية فلم قلت : إنه لا يصح ؟ فيقول المستدل : لأن خيار الرؤية لازم لصحة البيع عندك ، فإذا سلمت انتفاء لازمها ، لزمك تسليم انتفائها ، إذ لا بقاء للملزوم بدون لازمه .

                ومنها : أن يبين المستدل " أن النزاع " إنما هو فيما " يعرض له " ، إما " بإقرار " أو اعتراف من المعترض بذلك . مثل أن يقول : إنما فرضنا الكلام في صحة بيع الغائب لا في ثبوت خيار الرؤية فيه ، ووقع الاستدلال على ذلك ، أو باشتهار بين أهل العرف أن مثل هذه المسألة إنما جرت العادة أن يقع النزاع فيها في كذا لصحة البيع ههنا ، فلا يسمع من المعترض العدول عنه ، لأنه في الأول إنكار لما اعترف به ، وفي الثاني نوع مراوغة ومغالطة ودعوى جهل بالمشهورات ، كمن نشأ في بلاد الإسلام وشرب أو زنى مدعيا للجهل بتحريم ذلك .

                ومن أمثلة هذا أن يقول المستدل : الدين لا يمنع الزكاة ، ووطء الثيب [ ص: 561 ] لا يمنع الرد بالعيب ، فيقول المعترض : أسلم أنه لا يمنع ، لكن لم قلت : إن الزكاة والرد يثبتان ؟ فيقال له : هذا القول بالموجب لا يسمع ، لأن محل النزاع في هذه المسائل ونحوها مشهور ، وهو أن النزاع في الزكاة : هل تجب مع الدين ؟ ووطء الثيب هل يجوز معه الرد ؟ ومع الشهرة لا يقبل العدول عن المشهور ، ولا دعوى خفائه .

                قال بعضهم : ويمكن أن يرد هذا التقسيم من القول بالموجب إلى دعوى فساد الوضع ، لكون دليل المستدل فيه يدل على خلاف محل النزاع ، فأشبه اقتضاء العلة خلاف ما علق بها .

                قلت : وكذلك الآخر منه إذا صح واستقر .

                مثال القسم الثاني من القول بالموجب ، وهو أن يرد من المعترض إبطالا لمذهب المستدل : أن يقول الحنفي في وجوب الزكاة في " الخيل : حيوان يسابق عليه ، فتجب فيه الزكاة كالإبل ، فيقول " المعترض " أقول بموجب ذلك ، وهو أن تجب فيها " زكاة القيمة " إذا كانت للتجارة .

                قوله : " وجوابه " . أي : وجواب مثل هذا من القول بالموجب أن يقول المستدل : النزاع إنما كان في زكاة العين وقد عرفت " الزكاة باللام ، فينصرف إلى محل النزاع " المعهود ، وهو زكاة العين ، فالعدول إلى زكاة القيمة لا يسمع ، لأنه ترك لمدلول إلى غيره . وهذا نحو مما سبق من الجواب بشهرة المراد من محل النزاع .

                ومن أمثلة هذا أن يقول المستدل في نكاح اليتيمة : صغيرة ، فتثبت الولاية [ ص: 562 ] عليها ، كما لو كان لها أب أو جد ، فيقول المعترض : نعم تثبت الولاية عليها في المال ، فيقول المستدل : اللفظ أعم من المال ، والنزاع إنما وقع في ولاية النكاح .

                قوله : " وفي لزوم المعترض إبداء مستند القول بالموجب خلاف الإثبات ، لئلا يأتي به نكدا وعنادا ، والنفي ، إذ بمجرده يبين عدم لزوم حكم المستدل مما ذكره " .

                يعني : أن المعترض إذا قال بموجب دليل المستدل هل يجب عليه أن يذكر مستند القول بموجبه ، مثل أن يقول : التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص ، ولكن لا يجب ، لانتفاء السبب ، ووجوب القيمة لا يمنع المهر ، لكن المهر لا يجب لانتفاء المقتضي ، إذ لم يبق محل يجب المهر عنه ، وأسلم أن زكاة القيمة تجب في الخيل ، لكن زكاة العين لا تجب ، ويدل على عدم الوجوب بما عنده ، فهذا فيه قولان :

                أحدهما : يجب ، إذ لو لم يجب عليه ذكر مستند القول بالموجب ، لأتى به نكدا وعنادا على المستدل ليفحمه ، وربما لم يكن حقا في نفس الأمر ، فيفضي إلى تضييع فائدة المناظرة . ويصير هذا من باب قوله - عليه السلام - : لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، ولكن البينة على المدعي .

                والقول الثاني : لا يجب ، لا لما ذكرناه في المختصر ، فإنه ليس بجيد ، بل لأن المعترض عدل ، وهو أعرف بمذهبه ومأخذه ، فوجب تقليده في ذلك ، [ ص: 563 ] وإلا كان مطالبته بالمستند تكذيبا له .

                قلت : فقد بان أن محل القولين إنما هو في المعترض العدل . أما إذا لم يكن عدلا ، أو كان معروفا بحب الانتصار على الخصم حتى بالاسترسال في الكلام فلا بد من مطالبته بالمستند ، لئلا يفضي إلى إفحام المستدل بغير حق ، وتضييع فائدة النظر ، ونشر الكلام . ثم إذا ذكر مستند القول بالموجب ، لا يجوز للمستدل الاعتراض عليه فيه ، مثل أن يقول المعترض : وجوب القيمة لا يمنع المهر ، لكنه لا يجب ، لأن الأب ملك الأمة ، فلا يلزمه مهرها ، فليس للمستدل أن يعارضه ، ويبين أن الأب لا يملك الجارية ، ويكون منقطعا بذلك ، لأنه حينئذ يناظر الخصم في مذهبه وهو أعرف به .

                قوله : " وينقطع المعترض بإيراده على وجه يغير الكلام عن ظاهره ، إذ وجوده كعدمه ، فهو كالتسليم " .

                أي : ينقطع المعترض بإيراد القول بالموجب على وجه يغير كلام المستدل على ظاهره ، لأن " وجوده كعدمه " ، ولو عدم القول بالموجب لانقطع ، فكذا إذا أتى به في حكم المعدوم ، وذلك لأنه بتغير الكلام عن ظاهره ، صار كالمناظر لنفسه كما سبق التقسيم فيكون منقطعا .

                مثل ذلك أن يقول الحنبلي : " الخل مائع لا يرفع الحدث ، فلا يزيل النجاسة كالمرق ، فيقول المعترض : أقول " بموجبه ، وهو أن " الخل النجس لا يزيل النجاسة " عندي ، فلا يسمع هذا منه ، " لأن محل النزاع " عقلا وعرفا وشرعا إنما هو " الخل الطاهر " ، أما النجس فمتفق على أنه لا يزيل النجاسة ، فصار " كالنقض العام " على العلة ، لأن النجس لما لم يكن بإزالته للنجاسة قائل ؛ صار مرفوضا لا يفرض فيه نزاع ، ولا يوجه إليه نظر ، " كالعرايا على [ ص: 564 ] علة الربا " ؛ لما كان كل واحد من الخصمين يقول بها لم ترد نقضا على واحد منهما ، ولا يجب الاحتراز عنها للعلم بأنها مستثناة بالإجماع ، كذا هذا ، وبيان تغيير المعترض كلام المستدل أنه لما سلم الحكم في الخل النجس ، صار كأنه فهم عن المستدل أنه استدل على أن الخل النجس لا يزيل النجاسة ، فقد قوله ما لم يقل .




                الخدمات العلمية