الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دعوى تحرير المرأة

دعوى تحرير المرأة

 دعوى تحرير المرأة

منذ زمن بعيد كنا صغارًا..أحداثًا،.. نخطو إلى مرحلة الرجولة في سن المراهقة؛ حيث تتراءى الأشياء في عين الفتى بألوان فاقعة وروائح نفاذة؛ على نحو لم يعهده فيما خلف من أيامه الغضة، حينها كان ينتهي إلى مسامعنا بقية حديث لا نتبينه إلا في غموض، وأصوات تشبه أصوات المتخاصمين...وبينما هي تعتلج كألسنة اللهب، تضيع كأنما سديم سابح، أو تشربها غور سحيق، ثم يمضي موكب الحياة لا يلوي على شيء؛ والناس يركبون؛ كدود على عود !

نعم كانت تعلو وتسفل كلمات لا تخطئها الأذن؛ المرأة، قضية، الحياة، طبيعة، دور، حرية، الرجل، مساواة، واجبات، حقوق...بيد أنه لم يكن يستبد بروعنا من تلك المسموعات سوى اسم واحد؛ المرأة؛ تثور منه في نفوسنا خواطر جمة، وترتسم له في أوهامنا صور شتى، وكان يحوك في صدورنا - والحال تلك - ما نكره أن يطلع عليه الكبار، وربما أُحرجنا فنطرق حياء، أو نغطي أفواهنا خجلاً، أو ننكص على أعقابنا إلى بعض تلك الدروب...حتى إذا تصرمت تلك السنون تكشفت لنا ترجمة تلك الرموز عن حديث ذي شجون يطوي المرأة في فصل وينشرها في أبواب، فإذا هي قضية تنتظم في سلك واحد مع نوازل ذات خطر تملأ الدنيا وتشغل الناس؛ كمعضلة السلام في العالم، والتنمية الاقتصادية، وعالم ما بعد الحرب الباردة، والعولمة، وصدام الحضارات، ومحاربة الإرهاب، ونهاية التاريخ.. وربما كان بخسًا لها أن تطرح ضمن هذه القضايا فهي - في الحقيقة - ترتفع قيمة وخطرًا؛ لأنها قضية الحياة، وقضية الإنسانية، وقضية.. وقضية الرجل!

لكن إن جاز - وربما وجب - للمرأة الغربية مسلكها في المطالبة بحقوقها نتيجة ظروفها التاريخية التي مرت بها منذ أيام الحضارة الإغريقية - الرومانية التي لم تكن المرأة فيها شيئًا يذكر إزاء الرجل، ومرورًا بسلطة الكنيسة الأبوية في إكراهها المرأة على العيش مع رجل واحد طول عمرها - إلا أن يهلك - فإن هي تركته لُعنت، وإن هي بقيت معه بقيت على مثل جدع أنفها ! وانتهاء بالثورة الصناعية وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية وما تخلل كل ذلك وأعقبه من انتكاسات ومظالم في السياسة، والفكر، والقيم الاجتماعية والنفسية، كانت المرأة ضحيتها الأولى.

فهل يجوز للمرأة المسلمة أن تتبنى المقولات نفسها، وتسقطها على واقع لم يشبه واقع المرأة الغربية - بحال - في ماضيه أو حاضره، سوى هَنَاتٍ سببها الوجود الاستيطاني الغربي في بلاد المسلمين، وقد كان مادة لها أولئك الذين انخلعوا - وهم قليل - من عهدة دينهم وأصلهم.

أما المرأة المسلمة الملتزمة فقد كانت تستريح من دينها في هالة من العناية، والرعاية تضيع دونها دعوى الظلم كما يضيع حجر يقذف باتجاه كوكب دُرّي.. على أن النتائج المختلة هي صنائع المقدمات المختلة، وقديمًا قيل:

إذا اعتلت الأفعال جاءت عليلة كحالاتها أسماؤها والمصادر

وهكذا الشأن بالنسبة لقضية المرأة - عندنا - فقد ولدت خطأ؛ إذ لم تدعُ إلى ولادتها أزمات اجتماعية خانقة كانت المرأة حلقتها الأضعف، ولا مظالم كهنوتية جعلت حظ المرأة الأخس الأوكس، وعولجت خطأ حينما حبست نفسها في أطر ثانوية جعلت همها لباس المرأة، وزينتها وخروجها للرجل، فكان أن ثارت الأخطاء - في التفسير والتنفيذ - من بين يديها ومن خلفها للتحول إلى خطأ غريب في تاريخ الأمم حين تستورد "أخطاء" من أمم أخرى ثم لا تلتمس الحلول لذلك فيما لديها من تجارب، بل تلجأ إلى استيراد "الحلول" أيضًا!

والحق أن حديثًا مادته المرأة فحسب؛ لا قبل لمجتمعنا الإسلامي به، لأنه فرغ من شيء كهذا منذ زمن بعيد حينما تمايزت الأنصباء فيه بين الرجل والمرأة في صناعة الحياة - لكل حظة - تمايزًا قانونيًّا تحرس تخومه مواعظ التقوى في ضمير المؤمن، وتحول دون انتهاكه عزائم الحق في ردهات القضاء، حتى إذا تسلطت هذه المدنية السفيهة على حياة الناس "لا تدع أحدًا إلا لطمته"[1] طفق الناس يفتحون أعينهم وآذانهم على منكر من القول.

ورغم أن السعي في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أرفع خصائص هذه الأمة بعد الإيمان بالله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110) وقال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}(الحج:41).

ومن المعايير الدقيقة في قياس مدى تحقق المسلم أو دعواه في الانتساب إلى شرعة الإسلام قال الله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (آل عمران:104)وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر أو ليخالفنَّ الله بين قلوبكم" .

حتى إن فردًا - أو جماعة - من غير المسلمين لو قام بهذه المهمة - مهمة الإصلاح - لبارك الإسلام ذلك وأشاد به وأثاب عليه. قال الله تعالى:{ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (آل عمران:114-115).

وقد تقرر في نظام الإسلام في السلطة والحكم أن الأمة العادلة يرحمها الله ولو كانت كافرة؛ هذا وإن جريمة اغتيال الذين يأمرون بالقسط من الناس هي في نفس درجة اغتيال الأنبياء، والجريمتان تقترنان بجريمة أكبر هي الكفر بآيات الله، قال الله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } (آل عمران:21) .

رغم كل هذا فإن ظلالاً من الريب تطيف بهذه الدعوة العريضة التي ينهض (أنبياؤها) صادعين بالأمر وقد هالهم ما نزل بالمرأة، وما حلَّ بدارها من قوارع !

ومن عجب أن هذا الغرب الذي لم يكن له نسب بهذه المنحة الربانية (أعني النبوة) رغم تاريخها الطويل وتاريخه، أراد أن يصطنعها لنفسه على فترة وغفلة من الدهر غير مُرْسَلٍ ولا مُوحىً إليه من رب العالمين، فتكشف (أنبياؤه) عن كذبة، وبان (دعاته) عن دجاجلة ومشعوذين ..

فليس صحيحًا أن الإنسان - رجلاً كان أو امرأة - يعثر على حريته الكاملة حين ينخلع من كل ما يسمى التزامًا أو قيدًا في السلوك أو الاعتقاد؛ فالحرية المطلقة، عبودية مطلقة! والأخذ بحروف القضايا وأطرافها ليس سبيل المصلحين، وإنما سبيلهم "النمط الأوسط الذي يلحق به التالي ويرجع إليه الغالي"[2].

ولئن صح أن دعوى تحرير المرأة تهدف إلى أن تعيد لها إنسانيتها السليبة وحقها المهضوم، فإن من الصحيح أيضًا أن ما كانت فيه قبل ظهور هذه الدعوة في ديارنا - بل وفي ديار الغرب - لم يكن شرًا كله وظلمًا وعسفًا وعدوانًا ؟! لأنه حتى الأنبياء - وهم سادة المصلحين والمؤيدون بالوحي الأعلى - لم يكن دأبهم الانقضاض على كل ما وجدوا عليه أقوامهم، فلا ريب أن بعض ما كان عليه القوم كان ينطوي على حق أو شيء من حق لا يصادم شرعة المصلحين !

أما هذه الدعوى - وهي تستعلن بحمل قضية المرأة - فإنها تكشف عن ثأر طويل الذيل بينها وبين ما ضمن الإسلام لصاحبة القضية، حتى إنها لا ترفع ليتًا[3] بالبحبوحة من الحقوق التي حظيت بها - المرأة - في ظلال الإسلام مما لا يتأتى لذي نهية لبيب أن يعده قصورًا بها عمَّا ينبغي لها، أو تمويهاً على حقيقة ما تستأهله، بل الأشد من ذلك أن أفضال الإسلام ونعمه تنقلب عند هؤلاء مساوئ وذنوبًا يستغفرون للمرأة منها..ويطيلون الاستغفار.

وفي دخان هذه النازلة تتراقص شياطين الإنس - في سفه - تلغو في بيضاء ذلك النهار لتجعله كالليل، ولم يكن عجب أن تجيب النفوس إلى ذلك، وفي طباعها هذا الميل إلى الانحدار مع أهوائها، كالماء الجاري يطلب الهبوط غير مفتقر إلى رياضة، ولو ذهبتَ ترفعه إلى أعلى لما أمكنك إلا بشق النفس !

هذا إلى أن مباشرة الهدم أيسر من معالجة البناء في عالمي القيم والمادة سواء، وليس ذلك إلا لأن البناء عملية إيجابية باهظة التكاليف، وهي من حجر وطين، فكيف إذا كانت من خلق ودين {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}(الصافات:106) أما الهدم فعملية سلبية يقوض فيها هادم واحد جهد ألف بنَّاء، وإنما الشأن كما قيل:

لو ألف بانٍ خلفهم هادم كفى فكيف ببان خلفه ألف هادم

وقد كان السلب - ولا يزال - أغلب صفتي النفس عليها في جنس الآدمية: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}(يوسف:103) {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} (الأعراف:102) {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (ص:24) وقد قال صلى الله عليه وسلم :" الناس كإبل مائة ليس فيها راحلة" .

وقال الشاعر:

ما أكثر الناس بل ما أقلهمُ الله يعلم أني لم أقل فندا

إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدًا

ولعمري إن كنت قلت ذلك، فإن نساء هذه الأمة لم يزلن بخير؛ فهن أكثر نساء الأرض إخلاصًا لزوج ووفاءً له وأرعى بنات حواء لبيت وأحناهنَّ على ولد في صغره، وأعظمهنَّ عفة عن حرام ومكروه وأجملهنَّ صبرًا على نائبة، وإن إحداهنَّ لتنظر إلى الدنيا حولها تتخطر في دلال، وتغمز بعينها كغانية لعوب، وهي عاكفة على دين وحياء تشد يديها على جمرها دون أن يطرف لها جفن أو يختلج لها عرق !

ولو أن أحدنا قال في تحدٍ: أي نساء العالمين يطقن ما تطيق نساء هذه الأمة من القنوت والحفاظ ؟ لكان الرهان من نصيبه مهما علا !

وليت شعري ما تبلغ المقارنة من نساء ولدن الأنبياء، وأرضعن الأولياء، وحضنَّ الصديقين، وربين الشهداء.

"نساء عليهنَّ طابع النفس الجميلة، ينشرن في كل موضع جو نفوسهنَّ العالية، فلو صارت الحياة غيمًا ورعدًا وبرقًا لَكُنَّ فيها الشموس الطوالع، ولو صارت الحياة قيظًا وحرورًا واختناقًا لكُنَّ فيها النسائم الساريات. نساء لا يبالين إلا أخلاق البطولة وعزائمها؛ لأن جداتهنَّ ولدن الأبطال"[4] .

وهكذا لا يصعب تبيُّنُ ما تنطوي عليه هذه الدعوة من سوء نية مبيّتة وجفاء عريض، ليس تجاه الإسلام وشرعته للمرأة فحسب؛ بل تجاه الإنسانية وخير الإنسانية في حالها ومآلها.

فالاحتكام إلى الأهواء العاتية، ورعونات النفس، وبوارق الشهوات في مسألة من أخطر المسائل الإنسانية وأبعدها أثرًا في الاجتماع عدوان صارخ على إرادة الإنسان، وابتزاز غير شريف لمفهوم الحرية عنده، واحتيال على وظيفة العقل في تقديره للمصلحة والمفسدة، بل إن ذلك افتيات على ميراث جليل من القيم والمبادئ جهدت الأديان في إرسالها والحفاظ عليها، مهتدية بالوحي، مسترشدة بالعقل، مستنصرة بالفطرة، والغاية: حراسة الفضيلة من بدوات الحيوان الكامن في جوف ابن آدم!

وإن الناظر ليرى كيف أخضعت هذه المسألة للدعاية الرخيصة كأي سلعة من هذه السلع المستهلكة ولم تحفل بالعلم شأن المبادئ السامية والأفكار المجتهدة، وخبطت على شطط الثورة لإحداث أكبر قدر من الفزع والفوضى شأن خطط اللصوص، وأهل الغدر.. ولا غرو أن كان من يتولى كبرها منذ أن ذر قرنها قوم تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، سعارًا ونزقًا وهوسًا.. وهم مع ذلك كل مغموط النسب، مطعون الخلق، منحرف الطبيعة، شاذ، خاسر.. جيش من المومسات يقال: عارضات أزياء، وفتيات إعلان، وبقية سدوم[5]، ممن يدعون بمصممي الأزياء و"الموضة" لا يزالون تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبًا من دارهم !

لقد عمدت هذه الدعوة، أول ما عمدت، إلى لباس المرأة؛ فجعلت تفتل لها الذروة والغارب حتى حملتها على التقلل منه، بل على خلعه.. في خطة تذكر بما فعله "إبليس" في الزمن الغابر حينما خدع حواء وآدم ودلاهما بغرور، مقاسمًا، لينزع عنهما لباسهما.. فهل قامت هذه الدعوة وصية على ذلك التراث تعيده وتحيي ما اندرس من أعلامه؟! حتى تصل إلى ما وصلت إليه مما لو رآه بعض " أهل القرون الغابرة" بعثته الأقدار في مدينة من هذه المدن اللاهية التي تكتسي النساء فيها بعريهنَّ.. لظن أن في الناس أزمة قماش! وإلا فلماذا ثياب النساء بهذا القصر ؟! أو أن فيهم أزمة مروءة ! وإلا فلماذا يطيلون ثيابهم ونساؤهم يضعن على سوءاتهنَّ خرقًا ؟! أليس على الرجل الكريم كسوة امرأته ؟!

ثم ثنَّت بشهوة المرأة فلم تزل تدفعها وتثيرها من شغاف الأفئدة، وتلافيف الأدمغة، وثنايا الأعصاب حتى جعلتها في كفها تطوح بها حيث شاءت، وفي قدمها تسعى بها إلى حيث تريد، فغدت تلك الشهوة سافرة مستعلنة، وقد كانت خفية مستترة.. وإذا الحياء الذي طُبعت عليه بنات آدم وكان "شُعبة" في النفوس تمضي رخاء طيبة، قد اندلقت إليه أقنية تحمل أحماضًا ومجونًا ودعارة؛ فغدا الأمر أشبه بما يحصل في بعض البلاد المتخلفة حين يجهدها العجز والحماقة في صرف مياه المجاري، فتعمد إلى النهر الذي يشق المدينة فتشرعها إليه! فإذا النهر - وقد كان مرتفقًا فيه جمال للناس وراحة - يتجشأ بسخائم الناس، وريحه تلك الريح ! ولونه ذلك اللون !

على أن الأيام لا تزيد هذه الدعوة إلا وقاحة في ضلالها وضراوة في وقاحتها؛ ففي مؤتمر السكان الذي عُقد بالقاهرة عام 1994م جرت محاولة لتمرير وثيقة ترفع الحظر عن الإجهاض دون قيد، وتبيح الزواج بين مثليِّ الجنس (زواج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء) وتزيل الرقابة عن الأولاد في السلوك الجنسي، وتعترف بالإنجاب خارج إطار الزواج الشرعي. وتلا ذلك مؤتمر آخر هو مؤتمر المرأة الذي عُقد في بكين عام 1995م، وكان تكريسًا لما دعا إليه مؤتمر القاهرة، مع ملاحظة مهمة هنا وهي أن الحشود المرتدة في الشرق وفي الغرب تمارس كل تلك الموبقات غير آبهة بمن شرع وبمن منع !

ورغم كل هذا المنكر - الظاهر منه والخفي - فإن حقائق الأشياء أسباب موضوعية تقلب مجرى الأحداث المصطنعة رأسًا على عقب !

ومعنى كونها موضوعية أنها تتجاوز إرادة صانعي تلك الأحداث، وتُقبل من خارج الوعي تكتسح ما يُعدُّ في حال كهذه - وسائل تمويه وتغطية للعورات المكشوفة - فتكنس كنس الريح العقيم، وتشق الأديم شق الزلزلة، وتدك السدود كأنها سيل العرم !

هذا وإن تكن تلك الحقائق في أنفسها ضعيفة محتقرة.. "فإن البرعم النامي يحطم قلب الحجر"[6] فها هي ذي تلك المرأة - الغربية والمتغربة - التي " عاشت في دنيا أعصابها، محكومة بقانون أحلامها"[7] وأبت - مراغمة - على أنوثتها أن تكون "حالة نفسية طبيعية، بل حالة عقلية تشك وتجادل"[8].. تقف اليوم على قارعة الزمن تقرأ كتاب مأساتها ومخزاتها بشمالها - وكلتا يديها شمال - فترجف بوادر الأيام فزعًا، وينخلع فؤاد البحر فرقًا...

جموع لاهثة في كرب يلفها صيُّور الفناء .. وخضم من العذاب، وحالك من الظلمة !

وأما جنة الحرية الموعودة فقد استحالت إلى صيف قائظ تذيب! وشتاءٍ قارس! وأما قلائد السلطة الهزيلة التي نالتها "حواء" فقد غدت حيات تلتف حول جيدها.

وأما المصنع الذي فتح ذراعية لاحتضانها فقد ألفته مذأبة تعاني فيها من أنياب التمييز في الأجر وحقوق العمل وتلاحقها خائنة الأعين والألسن تحرشًا وإيذاءً .. وأما الاجتماع فرسوم ظريفة وشارات غزلة وانتهاء بالمرأة في منتهى الأناقة إلى العار أو الانتحار.. وأما الفن فصاحب مكس ضريبته المفضلة، حياء المرأة وحشمتها، يأخذ كل ذلك فضلاً ونسيئة، ويبقى من لسان العبرة هذا البيان:

إن الذي أطب بدعوته زكامًا، قد أحدث بها جذامًا!

وإن الذي بنى في صبحها قصرًا، قد هدم في مُسيِْهَا مِصرًا!

"وإن الذي قام يسعى، قد أتلف في مسعاه تِسْعَة" !

"وإن التفاحة التي تروع بمنظرها، يسرح الدود في مخبرها " !

....................................

سليمان اليعقوبي/كاتب وباحث من الجزائر (بتصرف)

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

ثقافة و فكر

من وظائف الأدب

كان ولا يزال للأدب دور محوري في حياة الشعوب، فالأدب أحد أعمدة البناء في المجتمعات كلها، فقد عرف الإنسان الحداء،...المزيد