الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بطل من غرناطة

بطل من غرناطة

بطل من غرناطة

حوالي سنة (1240م) كانت أسبانيا الإسلامية (الأندلس ومملكاتها) تموج في بحر من الفوضوية ، يتنازعها أكثر من حاكم ، ويتزعمها كل من يجد في نفسه مطمحـًا لجاه أو رغبة في سلطان .

على هذا النسق الهمجي سارت أمور مملكة العرب في الأندلس حتى آل أمرها إلى النتيجة الطبيعية لتلك الحالة ، فغدت بعد أن كانت مملكة إسلامية متحدة تسيطر باسم الإسلام وتحت رايته على بقعة كبيرة ممتدة واسعة الأطراف ، ممالك متنابذة متنافسة ، كل هم ملوكها ألقاب طنانة وحاشية منافقة ، وبهرجة وزخرفة ثم لا يعنيهم بعد ذلك أُخذلت النصرانية أم نجحت ، أُهزم الإسلام أم انتصر .
هذه حال المسلمين في الأندلس خلال القرن الثاني عشر الميلادي - السادس الهجري - !

بيد أن حكم الله في الأندلس لم يكن قد حان بعد ، فقضت عنايته بأن دولة الإسلام في الأندلس مازال في عمرها بقية ، وأن هناك تاريخـًا آخر سيمتد ويظهر في الأفق ويسطع في سماء الأمة الإسلامية .

في وسط هذا الجو القائم الذي ذكرناه آنفـًا ظهر بطل الأندلس العظيم " محمد بن يوسف " المعروف بـ " محمد بن الأحمر " ، وكان على قدر محمود من الشجاعة والنبوغ ، مما جعله يفكر في حال الأندلس ، وما آلت إليه ، وبدأ " ابن الأحمر " يفكر ويشغل فكره ويتعب ذهنه ليجد جوابـًا لسؤاله الحائر . كيف يستطيع إنقاذ الأندلس من الهوة السحيقة التي هي على شفا حفرتها ؟ وفكّر " ابن الأحمر " وقدّر ، وخرج بالنتيجة ، وهي أنه لابد وأن يترقب الفرصة ويتحين الوقت الملائم .

وحانت الفرصة ، وجاء الوقت الملائم ، فلقد مات حاكم غرناطة - أكبر إمارات الأندلس - وترك أمرها بدون خلف أو وريث ، فبادر " ابن الأحمر " بمساندة أعوانه إلى الإمساك بزمام الحكم في غرناطة ، وفي إمارة صغيرة أخرى تدعى " المرية " ، وتطلع الناس وداعبتهم الأحلام وعقدوا جسام آمالهم على هذا الشاب الذي يتوسمون فيه الخير وتبدو عليه سيما الصلاح والعبقرية .

في يوم من أيام عام 1244م وردت إلى ملك قشتالة " فرديناند الثالث " النصراني أخبار عن " محمد بن الأحمر " وعن مدى حب الشعب له وتعلقهم به ، وعن مدى طموح "ابن الأحمر " ونبوغه ، وأسرها " فرديناند " في نفسه وساورته الشكوك ، وخيل إليه أن آماله وأطماعه في بلاد المسلمين قد بدأت تتبدد باستيلاء هذا الطموح البطل على مقاليد الأمور ، وعاهد " فرديناند " نفسه أن لا بد من القضاء على " ابن الأحمر " والنيل منه ، وقام على الفور فأرسل جيشـًا كبيرًا لحصار غرناطة ، واحتلالها ، ولكن لأمر يعلمه الله لم يكن الحظ معه بالرغم من ضعف المسلمين في غرناطة ، فما كادت قواته تشرف على أسوار غرناطة حتى أصابها وابل من السهام ردها على أعقابها خاسرة .

ووردت الأنباء إلى " فرديناند " الثالث بهزيمة جيشه ، فتأكد من أن الأمر جد خطير ، وعقد العزم على القيام بنفسه لمحاربة " ابن الأحمر " وأسرع فأعد الجيوش والعتاد واستعان بشعبه فأعانه حتى تم لديه ما أراده .

وهنا نقف لحظة لنرى كيف تصرف " ابن الأحمر " حين علم بما دبره " فرديناند " الثالث ، فأين له بمواجهة هذه الجيوش الجرارة ؟ ووجد " ابن الأحمر نفسه في مأزق حرج يتطلب الحكمة والحذر ؛ لأن دولة صغيرة ناشئة كدولته لا يمكن أن تقف أمام دولة راسخة الأقدام كدولة قشتالة التي يحكمها " فرديناند الثالث " .

صمم " ابن الأحمر " على شيء وعقد عزمه عليه ‍‍!! إنه سيستسلم لـ "فرديناند " وسيعلن له طاعته وولاءه ، وسيوهمه بأنه سيدفع له الجزية صاغرًا ، حتى تنقشع هذه الظلمة ويعود "فرديناند " بجيوشه ، وبعدها يكون ما يكون ، وفعلاً .. فعل " ابن الأحمر " كل ذلك بحذافيره ، وأوهم " فرديناند " بالصلح ، وقبل شروطه وودعه في سلام ، وعاد "فرديناند " إلى بلاده مزهوًا بالنصر الذي حققه وبغرناطة التي استسلمت له بدون تعب ، ولو علم " فرديناند " بأن هذه المصانعة من " ابن الأحمر " إن هي إلا كسب للوقت وتحقيق للنصر من أقرب طريق لكان له بدل هذا الفرح حزن وكرب عظيم .

بعد مضي حادثة مصانعة " ابن الأحمر " لـ " فرديناند " السابقة بعشرة أعوام ينظر الناظر إلى غرناطة وممتلكاتها فيكاد من شدة ذهوله أن يكذب ما يراه ، وأن يجزم بأنه ليس في غرناطة ؛ لأن عين الناظر هذه ستقع على نوع جديد من الحياة غير التي كانت فيها من قبل ، ستقع أول ما تقع على حصون منيعة ، وجيوش قوية لها من العتاد فوق ما كانت عليه في الماضي عشرات المرات ، وإذا دقق الناظر جيدًا وأمعن النظر في الحياة التي حوله فإنه سيجد شعبـًا غير الذي كان من قبل ، فهذا شعب متحد متساند ، ليس همه أن ينال منصبـًا أو جاهـًا ، وإنما كل همه الاتحاد والأمل في لقاء أعدائه وأعداء دينه النصرانيين .

ولم يطل انتظار هذا اليوم ، فما إن رأى " محمد بن الأحمر " القدرة من نفسه ، والتضحية من شعبه ، حتى رفض دفع الجزية لـ"فرديناند " وأعلن الخروج من طاعة النصارى ، وسرعان ما أعد " ابن الأحمر " جيشـًا قويـًا استعان في تكوينه بأصدقائه " بنو مرين " وكثير من ملوك المغرب ، وقام بتحصين مملكته على خير ما يكون ، واستعد استعدادًا تامـًا للمعركة الفاصلة ، وأقبلت جيوش النصرانيين تتهادى ، مختالة متبخترة ، وكأني بها قد ظنت أن كل الأيام لها أو أنها قد أخذت على الشيطان عهدًا بالنصر في كل المعارك .

ودارت المعركة ، واشتد القتال ، وتقدم " ابن الأحمر " الصفوف ، وهو يضرب بقوة ، ويجهز على صفوف الأعداء ، يضرب فيها ذات اليمين وذات الشمال ، ومضى الوقت ساعة تلو الساعة ، و" ابن الأحمر " لا يدري كم مضى وكم بقي ، وإنما الذي يعيه جيدًا أن أمامه عدوًا لابد من القضاء عليه .

ومضى في المعركة مسترسلاً فيها فما أوقفه إلا صوت يصيح به : كفى يا سيدي القائد فما بقي منهم أحد ، فصاح به " ابن الأحمر " : هل انجلت المعركة حقـًا ، أيها الجندي ؟ نعم يا سيدي القائد ، وانتصرنا ، والحمد لله ، ولقد ولى الكفار الأدبار ، فصاح القائد من شدة فرحه : انتصرنا ، انتصرنا ، حقيقة لقد انتصرنا ، الله أكبر ، الله أكبر ، فهتف المسلمون وراءه : الله أكبر ، الله أكبر .

فسجل التاريخ أن عمر الإسلام في الأندلس قد كتب له امتداد جديد ، وفتحت له صفحة جديدة ، صفحة امتدت أكثر من قرنين من الزمان !! صفحة " ابن الأحمر " في غرناطة .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

من ذاكرة التاريخ

أبو المعالي الجويني إمام الحرمين

الإمام الجويني أحد كبار أئمة المذهب الشافعي، مجمع على إمامته متفق على غزارة علومه وتفننه فيها. قضى معظم حياته...المزيد