الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مثل من أعرض عن آيات الله

مثل من أعرض عن آيات الله

مثل من أعرض عن آيات الله

إن أسمى المراتب التي يبلغها الفكر الإنساني هي العلم، وإن أسمى مراتب العلم هو العلم بآيات الله القرآنية، التي أودعها كتابه، وآياته الكونية التي بثها في أكوانه، إذ العلم الذي يهدي إلى الله، هو العلم النافع حقًا للبشرية، الذي يصوب مسارها، ويضيء دربها، ويهدي أفكارها، وينظم أوضاعها...

وقد وردت في القرآن الكريم بعض الأمثال الحسية، التي تمثل حالة الذين يعرضون عن آيات الله، ولا يلتفون إليها، بل ولا يكترثون بها، بحيث لا يكون لها حضور في حياتهم، ولا يكون لها اعتبار في سلوكهم؛ ففي أمثال هؤلاء ضرب الله سبحانه المثل الآتي، الذي نقف على معالمه في السطور التالية .

يقول سبحانه في كتابه الكريم: { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } (الأعراف:175-176) .

تذكر كتب التفسير، أن ذلك الرجل الذي أخبرنا القرآن خبره في هذا المثل، هو أحد علماء بني إسرائيل، بل إن كتب التفسير تذكر اسمه أيضًا؛ وليس ثمة كبير فائدة في معرفة اسم ذلك الشخص، إذ لو كان في ذلك فائدة ترجى، لذكر لنا القرآن اسمه، فعُلِم أن التعلق بذلك ليس من مقصود القرآن، وإنما المطلوب مضمون ذلك المثل، والاعتبار بما جاء فيه .

وكما أشرنا، فإن المثل الذي بين أيدينا، يتحدث عن أحد علماء بني إسرائيل، فطلب منه قومه - بعد أن أغروه بمبلغ من المال - أن يدعوَ على نبي الله موسى عليه السلام بالهلاك، ويصفه بما ليس فيه. وبدل أن يتصدى ذلك العالم لطلب قومه ويرفضه، انصاع لهم، وانساق وراء شهواته وأهوائه، بإغراء من الشيطان، ووسوسة منه، فضلَّ بعمله ذلك عن طريق الهداية، وكان عاقبة أمره خسرًا .

وقد مثَّل لنا القرآن حالة ذلك الرجل أروع تمثيل؛ فجعل مثل حاله - بعد أن أعرض عن آيات الله - كمثل الكلب الذي إن تطرده بعيدًا عنك يلهث، أو تتركه في مكانه يلهث، فهو في كلا الحالتين، لا تفارقه حالة اللهاث؛ إذ من المعلوم أن الكلب اختص دون غيره من الحيوانات بصفة اللهاث، فهي صفة ملازمة له على كل حال، وفي كل أوان .

يقول الشيخ رشيد رضا في (تفسير المنار): "اللهث هو النَّفَس الشديد، مع إخراج اللسان، ويكون لغير الكلب من شدة التعب والإعياء والعطش؛ وأما الكلب فيلهث في كل حال، سواء أصابه ذلك أم لم يصبه، وسواء حملت عليه تهدده بالضرب، أم تتركه آمنًا وادعًا" .

وقد أثبتت الدراسات العلمية، أن الغدد العرقية في جسم الكلب قليلة، بحيث لا تكفي لتنظيم درجة حرارة جسمه؛ لذلك فهو يعوض ذلك النقص في الغدد باللهاث في حال .

ومن هنا ندرك دقة هذا المثل القرآني، حين شبه الذين لا يستفيدون من آيات الله، ولا يترجمونها سلوكًا على أرض الواقع، بمثل الكلب اللاهث، الذي يعيش بالهم الدائم، وتحت وطأة الإعياء الثقيل، والتعب الشديد، والقلق المخيف .

وقد أجاد العلماء في الحديث عن هذا المثال، ولعل خير من فعل ذلك من المتقدمين - فيما نحسب - ابن القيم ، ومن المتأخرين سيد قطب . ونحن نذكر لك خلاصة ما جاء في كلامهما:

شبه سبحانه حال من آتاه آياته، فلم ينفع بها نفسه، ولم ينتفع بها غيره، بأمرين؛ أحدهما: بحال المنسلخ من جلده والمتنكر لأصله؛ فكما أن الجلد وقاية لكيان الإنسان من الآفات، وحماية له من الأعراض، فكذلك الهدى الذي جاء به القرآن، فيه حماية للإنسان من النكبات، التي تحل به في كل زمان ومكان، وفيه وقاية له من الأزمات، التي تعصف به بين حين وآخر. فإذا أعرض الإنسان عن آيات ربه، واتبع هواه، وانساق وراء ما يوسوس له به الشيطان، كان كمثل المنسلخ عن جلده، التارك لما فيه وقايته وحمايته وأمنه؛ وهكذا المعرض عن آيات الله، ضال في هذه الحياة، وسائر على غير بصيرة، ومتوجه إلى غير هدف، يسير خبط عشواء هنا وهناك، لا يدري أين المفر، ولا يعلم أين المستقر .

وثانيًا: شبه سبحانه حال من آتاه آياته فأعرض عنها، وأدار لها ظهره، بحال الكلب اللاهث على كل حال؛ فهو لاهث وراء طعامه وشرابه، وهو لاهث وراء شهوته وغريزته، لا يصده عنها صاد، ولا يمنعه منها مانع؛ وهكذا حال المعرض عن آيات الله، فهو لاهث وراء متاع الحياة الدنيا، ومؤْثِر لها على ما عند الله، لا يشبعه منها شيء، فهو لاهث وراء المال، ولاهث وراء الجاه، ولاهث وراء النساء، ولاهث وراء الشهرة، ولاهث وراء الشهوة، ولاهث وراء أشياء وأشياء ... هنا وهناك .

هذا محصل ما جادت به قريحة هذين العالمِيَن حول هذا المثل. ثم ها هنا وقفات تتعلق بهذا المثل القرآني:

أولها: أن الله سبحانه قال: { آتيناه آياتنا }، فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته، فإنها نعمة من الله، أنعم بها عليه؛ ثم قال: { فانسلخ منها }، أي: خرج منها بالكلية، كما تنسلخ الحية من جلدها، وفارقها فراق الجلد، ينسلخ عن اللحم؛ ولم يقل: فسلخناه منها؛ لأنه هو الذي تسبب في ترك آيات الله، والعمل بها؛ اتباعًا للهوى، واستجابة للشيطان .

ثانيها: أن قوله سبحانه: { فأتبعه الشيطان }، أي: لحقه وأدركه، كقوله تعالى في قوم فرعون: { فأتبعوهم مشرقين }، فكان قبل انسلاخه من آيات الله، محفوظًا محروسًا بآيات الله، محمي الجانب بها من الشيطان، لا ينال منه شيئًا؛ فلما انسلخ من آيات الله، ظفر به الشيطان، ظفر الأسد بفريسته، فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه، كعلماء السوء في كل عصر، وفي كل حين .

ثالثها: أنه سبحانه قال: { ولو شئنا لرفعناه بها }، فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده، ليست بمجرد العلم فحسب، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره، وقصد مرضاة الله تعالى، فإن هذا الغوي، كان من أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه، ولم ينفعه به؛ لأنه آثر اتباع الهوى على اتباع الحق، وآثر الخضوع لوسوسة الشيطان على مرضاة الله. فأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء، بما آتاه الله من العلم، وإن لم يرفعه الله فهو موضوع؛ فإن الرافع والخافض هو الله سبحانه، ولا رافع ولا خافض سواه .

رابعها: أن حقارة الكلب وخسته، لم تكن مانعة من ضربه تعالى المثل به، فقد ضرب المثل بالذباب؛ وضرب المثل ببيت العنكبوت؛ وضرب المثل بالحمار؛ إذ المقصود بضرب المثل في نهاية المطاف إيصال الفكرة بأكبر قدر من الوضوح والبيان، والأمثال وسيلة لتحقيق ذلك .

خامسها: أن (الحمل) على الكلب في المثل المضروب: { إن تحمل عليه }، ليس المقصود منه المعنى المتبادر، من حمل المتاع ونحوه، وإنما معناه في المثل هنا: المهاجمة والمطاردة؛ يقال: حمل فلان على فلان، أي: شن عليه حملة شعواء، سواء بالكلام أو بالقتال .

وحاصل هذا المثل القرآني، أنه تمثيل لحال المتلبس بالنقائص والكفر بعد الإيمان والهداية، وتصوير لحال من كان مرتفعًا في علياء من الأرض، فهبط بعد إلى سافل من أسافلها، واستقر به المقام في ذلك السفل بين الأقذار والأوحال.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة