الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الهدي النبوي في المجالس

الهدي النبوي في المجالس

الهدي النبوي في المجالس

جرت عادة الناس على اللقاء في المجامع والمنتديات للنقاش حول شؤون الحياة ومجرياتها واستعراض ما يُثار من القضايا والأخبار ، ويحلو السمر ويطيب اللقاء بذكر القصص والطرائف والذكريات .

والإسلام يعلم حاجة الناس إلى مثل هذه اللقاءات ولا يمنع منها ، لكنّه يسعى من خلال تعاليمه ومبادئه إلى الرقيّ بها ، وتصحيح مسارها ، وتنظيم شؤونها ، وتخليصها من مساوئ الأخلاق ورذائل الأفعال ، حتى تكون أنموذجاً تسود فيه ألوان القيم والفضائل.

وإذا كان الناس يتفاوتون في طبائعهم وأخلاقهم وإيمانهم ضعفاً وقوّة ، فقد جاء التوجيه النبوي باختيار الأفاضل من الناس ، من العلماء والصالحين وذوي المروءة ، ففي مجالسة أمثال هؤلاء حياة للقلوب وتنوير للعقول وتهذيبٌ للأرواح ، ويضرب لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثلاً للجليس الصالح وجليس السوء في قوله : ( مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك : إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد ريحا خبيثا ) متفق عليه .

وحرصاً على البعد عن معاني اللهو والغفلة جاءت النصوص الشرعيّة لتحذّر من المجالس التي تخلو من ذكر الله ، ونلمس هذا في قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( ما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله فيه الا رأوه حسرة يوم القيامة ) رواه أحمد ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله ، إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار ، وكان ذلك المجلس عليهم حسرة ) رواه أحمد .

وخير المجالس هي التي تكون قائمةً على ذكر الله وتلاوة القرآن ، وكفى بهذه المجالس فضلاً أن يُذكر أصحابها في الملأ الأعلى كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيّارة يتبعون مجالس الذكر ، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم ، وحفّ بعضهم بعضاً بأجنحتهم ، حتى يملؤا ما بينهم وبين السماء الدنيا ، فإذا تفرّقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء ، فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم : من أين جئتم ؟ ، فيقولون : جئنا من عند عباد لك في الأرض ، يسبّحونك ويكبّرونك ، ويهلّلونك ويحمدونك ويسألونك ، قال : وماذا يسألوني ؟ ، قالوا : يسألونك جنتك ، قال : وهل رأوا جنّتي ؟ ، قالوا : لا أي رب ، قال : فكيف لو رأوا جنّتي ؟ ، قالوا : ويستجيرونك ، قال : ومم يستجيرونني ؟ ، قالوا : من نارك يا رب ، قال : وهل رأوا ناري ؟ ، قالوا : لا ، قال : فكيف لو رأوا ناري ؟ ، قالوا : ويستغفرونك ، فيقول : قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا ، وأجرتهم مما استجاروا ، فيقولون : رب فيهم فلان ، عبد خطّاء ، إنما مرّ فجلس معهم ، فيقول : وله غفرت ؛ هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) رواه مسلم .

وليس معنى ذلك النهي عن مجالس الأنس المباح وأحاديث الدنيا على العموم ، فإن النفس لا غنى لها عما يسلّيها ويعيد لها نشاطها ، ومواعظ النبي – صلى الله عليه وسلم – لم تكن على الدوام بل كانت بين الحين والآخر خشية السآمة والملل ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يمتنع عن مجالسة أصحابه حينما كانوا يتذاكرون أمور الجاهليّة ، ويمزحون في أوقات راحتهم ، فإذا كان وقت الجدّ رأيت الرجولة والهمّة والنشاط ، والعبادة والذكر والطاعة ، يقول بكر بن عبد الله رضي الله عنه : " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ – أي يترامون به - ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال " رواه البخاري في الأدب المفرد .

والمقصود هو الابتعاد عن مقارفة الآثام والمعاصي كالاستماع إلى الغناء المحرّم ، أو النيل من أعراض الناس بالغيبة والنميمة ، والسخرية والاستهزاء ، وغيرها من الأخلاق الذميمة التي جاء الوعيد الشديد عليها ، فإذا طهّرت المجالس من تلك الآفات فقد تحقّق مراد الشارع .

ولأن مجالس الناس لا تخلو - عادة - من الغفلة أو وقوع الزلّة ، شرع النبي – صلى الله عليه وسلم – كفّارة المجلس حيث قال : ( من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك ) رواه الترمذي ولنا في نبيّنا عليه الصلاة والسلام أسوةٌ حسنة فقد كان يستغفر الله تعالى في المجلس الواحد أكثر من مائة مرّة .

ومن الأدعية المأثورة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله في ختام مجالسه : ( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا ، ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ) رواه الترمذي .

وقد وضع النبي – صلى الله عليه وسلم – جملةً من الآداب التي ينبغي مراعاتها في المجالس ، منها الإفساح للقادمين وتوسيع المكان لهم ، وهو أدبٌ قرآني رفيع كما في قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا } ( المجادلة : 12) ، وخير المجالس أوسعها كما جاء في الحديث الصحيح .

ومن محاسن الآداب التي جاء الأمر بها : السلام عند القدوم وعند الذهاب ، فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم ، فإن بدا له أن يجلس فليجلس ، ثم إذا قام فليسلم ؛ فليست الأولى بأحق من الآخرة ) رواه الترمذي ، وكذلك الجلوس حيث ينتهي المجلس ، وهكذا كان حال الصحابة في مجالس النبي – صلى الله عليه وسلم – كما روى ذلك أبو داود في سننه .

وقد أرشد الهدي النبوي بخصوص آداب المجلس إلى أن من قام من مجلسه فهو أحق بالعودة إليه ، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم – : ( إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به ) رواه مسلم .

وليس في الجلوس على الطرقات مانعٌ إذا تمّت مراعاة حقوق الطريق ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إياكم والجلوس بالطرقات ) فقالوا : يا رسول الله ، ما لنا من مجالسنا بدٌّ نتحدث فيها ، فقال : ( فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه ) ، قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ ، قال : ( غض البصر ، وكفّ الأذى ، وردّ السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ) متفق عليه .

وهناك عدد من الأمور التي جاء النهي عنها مما يكون في مجالس الناس ، كالنهي عن إقامة الرجل من مجلسه ليجلس فيه آخر ، وذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم – ( نهى أن ُيقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر ) متفق عليه ، كذلك النهي عن التفريق بين الجالِسيْن في قوله – صلى الله عليه وسلم - : ( لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما ) رواه الترمذي ، والنهي عن الجلوس بين الظل والشمس في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقعد بين الظل والشمس رواه الحاكم .

ومما جاء في آداب المجالس – علاوة على ما تقدّم – النهي عن تبادل الجالسين الحديث سرّاً دون أحدهم إلا بإذنه ، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما ؛ فإن ذلك يحزنه ) متفق عليه واللفظ لمسلم .

وحفاظاً على خصوصيّات الناس جاء النهي عن الاستماع إلى الآخرين من غير إذنهم ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرّون منه ، صُبّ في أذنه الآنك يوم القيامة ) رواه البخاري ، والآنك هو الرصاص المذاب ، وجاء من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كان اثنان يتناجيان فلا تدخل بينهما ) رواه ابن عساكر .

وللمرء أن يجلس على الوضعية التي يرتاح لها ، فإن شاء جلس متربّعاً ، وإن شاء جلس متكئاً ، وكلّ ذلك ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم - ، إلا أنه قد جاء النهي عن جلساتٍ بعينها ، فجاء النهي عن الاعتماد على اليد اليمني وجعل اليُسرى خلف الظهر لأنها تشبه جلسة المغضوب عليهم ، فقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أحد الصحابة وقد وضع يده اليسرى خلف ظهره ، واتكأ على ألية يده اليُمنى فقال له : ( أتقعد قعدة المغضوب عليهم ؟ ) رواه أبو داود .

كما نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الاحتباء ، وهو أن يقعد الرجل على أليتيه وينصب ساقيه ويلفّ عليه ثوباً لا يكون ساتراً لعورته ، وجاء النهي عنه في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اشتمال الصمّاء ، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء ، متفق عليه.

وبمثل هذه الآداب قدّم النبي – صلى الله عليه وسلم - للناس صورة مثاليّةً في مضمونها وطبيعتها وما تحقّقه من التوازن بين متطلّبات الدنيا وأمور الآخرة .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة