الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ربانيـة التربيـة

ربانيـة التربيـة

ربانيـة التربيـة

جاء عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قول الله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين) أنه قال: "هم الفقهاء المعلّمون"، وفسر مجاهد قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في الربانيين فقال: "هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره". قال ابن حجر معلقا: "والمراد بصغار العلم: ما وضح من مسائله، وبكباره: ما دق منها". وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده".

فالربانية تعليم وتربية، والربانيون: "منسوبون إلى التربية". وما كان العلم يُطلب إلا لتزكية النفوس وتهذيبها، والارتفاع بها عن سفاسف الأمور ودنيئها.

فوظيفة الرباني التدرج في تبليغ العلوم ونشر المعارف، فلا يٌُعلّم الطالب من العلوم ما لا يبلغه عقله، ويكون عليه فتنة، فنضره من حيث أردنا نفعه. قال الماوردي ـ رحمه الله ـ: "واعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائقها، فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها، وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها، ولا يطلب الآخر قبل الأول، ولا الحقيقة قبل المدخل فلا يدرك الآخر، ولا يعرف الحقيقة؛ لأن البناء على غير أُسٍّ لا يُبنى، والثمر من غير غرس لا يُجنى".

وعند تربية الأجيال فالرباني يجتهد في تأكيد صغار الفضائل والأعمال في المتربي، كما يبدأ المعلم في تعليمة بصغار العلوم وأوائلها. ولا نطلب بذلك ترك الأهم على حساب المهم، وإنما نفترض في المجتمع أنه قد أقر بفرائض الإسلام، وأن فئة المتربين منهم قد أدركوا أهمية الفرائض والقيام بها؛ فنحن نستفيد من النوافل والفضائل في حفظ الفرائض على ما سيأتي الحديث عنه لا حقا.

إن من الناس من يقول بلسان مقاله أو بلسان حاله: إن الأمة مشغولة بما هو أهم وألزم عليها من هذه "الفروع"!! فيقع التقصير فيها من هذا الجانب، وقد نسي أولئك أن السلف لم يكونوا يَدَعُون السنة ـ ما استطاعوا إليها سبيلا ـ حتى وهم يصارعون الأهوال في المعارك الفاصلة.

ذكر الإمام الطبري: أنه لما نزل رستم النجف بعث منها عينا إلى عسكر المسلمين، فانغمس فيهم بالقادسية كبعض من ند منهم، فرآهم يستاكون (يستعملون السواك) عند كل صلاة ثم يصلون فيفترقون إلى مواقفهم، فرجع إليه فأخبره بخبرهم، وسيرتهم، حتى سأله: ما طعامهم؟ فقال: مكثت فيهم ليلة، لا والله ما رأيت أحدا يأكل شيئا إلا أن يمصُّوا عيدانا لهم حين يُمسون، وحين ينامون، وقبيل أن يصبحوا. فلما سار فنزل بين الحصن والعتيق وافقهم وقد أذّن مؤذّن سعد لصلاة الغداة، فرآهم يتحشحشون؛ فنادى في أهل فارس أن يركبوا، فقيل له: ولم؟ قال: أما ترون إلى عدوكم قد نُودي فيهم فتحشحشوا لكم! قال عيْنُهُ: ذلك إنما تحشحشهم هذا للصلاة.

فتأمل كيف لم يتركوا السواك للصلاة ولا عند النوم والاستيقاظ منه! وانظر كيف ألقى الله في قلوب الفُرس الفزع ببركة هذه السنة.

ومن الناس من ساء فهمه للسنن والآداب حتى رأى أنها قشور! وهذا من احتقار المعروف، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن من المعروف شيئا" أي: لا تحقرن أجره ولا أثره؛ فقد يكون الفارق بين النجاة والهلكة حسنة واحدة.

وهناك من الناس من يرى أنها قضية بدهية واضحة لا تحتاج إلى مزيد عناية ومتابعة ـ وكأنما المقصود هو المعرفة الذهنية فحسب ـ فيستكثر الجهود المصروفة لها، ويطلب الانشغال بغيرها.

إن التوجيه القرآني يلقي في روع المسلم ضرورة العناية بما يزيد في ميزانه يوم القيامة، والحذر مما ينقصه، وعدم الاستهانة ولو بمثقال ذرة من الخير أو الشر، قال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).

ويؤكد العناية وعدم الاستهانة حيث يخبر بالمضاعفة له أضعافا كثيرة: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:40).

وقد جرى حال السلف على تعظيم الأمر وإن كان سنة والمبادرة إليه دون تأخير؛ لأنه أمر الله أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وكفى، كما قال الشافعي ـ رحمه الله ـ عن رفع اليدين في الصلاة قال: "فعلته إعظاما لجلال الله، واتباعا لسنة رسول الله، ورجاء لثواب الله".

بل إن من أهل العلم من لا يرى تقسيم الأوامر إلى سنة وواجب؛ فكل ما جاء عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم فهو لازم الفعل قدر الإمكان: "ويسلموا تسليما".

نقل إسحاق بن منصور عن إسحاق بن راهويه أنه أنكر تقسيم أجزاء الصلاة إلى سنة وواجب، فقال: كل ما في الصلاة فهو واجب، وأشار إلى أن منه ما تُعاد الصلاة بتركه ومنه ما لا تُعاد. قال ابن رجب: وسبب هذا ـ والله أعلم ـ أن التعبير بلفظ السنة قد يفضي إلى التهاون في فعل ذلك، وإلى الزهد فيه وتركه، وهذا خلاف مقصود الشارع من الحث عليه والترغيب فيه بالطرق المؤدية إلى فعله وتحصيله؛ فإطلاق لفظ الواجب أدعى إلى الإتيان به، والرغبة فيه.

وقد ورد إطلاق الواجب في كلام الشارع على ما لا يأثم بتركه، ولا يعاقب عليه عند الأكثرين، كغُسل الجمعة، وكذا ليلة الضيف عند كثير من العلماء أو أكثرهم، وإنما المراد المبالغة في الحث على فعله وتركه".(جامع العلوم والحكم 525).

ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "ليس من الأدب مع الله ورسوله إذا أمر الله بشيء أن تقول: هو للوجوب أو للاستحباب؟ أو نهى الله عن شيء تقول: هو للكراهة أو التحريم. وهكذا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ هل كان الصحابة يقولون هذا؟ هل يقولون إذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: أنت عازم؟ ولكن عند وقوع المخالفة حينئذ ينظر الإنسان هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ هل النهي للكراهة أو التحريم؟ وهذه مسألة مهمة. تمام التعبد أنك إذا سمعت الله يأمرك تقول: سمعنا وأطعنا، ما تقول: ما هذا أمر وجوب أو استحباب".(شرح الكافي الشريط السابع وجه1)

كم يغفل بعض المربين عن التربية على كثير من شُعب الإيمان؛ كإماطة الأذى عن الطريق، ورد السلام، وتشميت العاطس، ودلالة الأعمى، والإفراغ في دلو المستسقى....إلخ. وهو الشيء الذي لم يٌُغفله النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يربي عليه أصحابه؛ فعن أبي جري الهجيمي ـ رضي الله عنه ـ قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنّا قوم من أهل البادية، فعلّمنا شيئا ينفعنا الله ـ تبارك وتعالى ـ به. قال: لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تُفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وتسبيل الإزار فإنه من الخيلاء، والخيلاء لا يحبها الله عز وجل، وإن امرؤ سبك بما يعلم فيك فلا تسبه بما تعلم فيه؛ فإن أجره لك ووباله على من قاله".

إن التربية على صغار الأمور حصن حصين من تضييع كبارها؛ فالمحافظة على السنن القبلية للصلاة سبيل للمحافظة على الصلاة المكتوبة، وإماطة الأذى عن الطريق مانع من الاعتداء على الناس وداع إلى الإحسان إليهم؛ بل هو أول خطوة في ذلك، والصدقة النافلة تربية للنفس وتطهير لها عن البخل والطمع؛ وهي مع ذلك استعداد مبكر لإخراج الزكاة بطيب نفس، ولعل هذا ما أشار إليه ابن المبارك ـ رحمه الله بقوله: "من تهاون بالأدب عُوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عُوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عُوقب بحرمان المعرفة".

ثم التربية على صغار الأمور اتصال مستمر للتربية في ضمير المتربي تنديه بالإيمان، وتجنّبه الغفلة واستحواذ الشيطان، وتبعد عنه قسوة القلب لطول الأمد: (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)(الحديد: من الآية16).

ثم التربية على صغار الأمور والدعوة إليها تؤثر في صلاح الناس وتزيد من رصيد الخيرية فيهم؛ حتى وإن لم نشعر بذلك، فحين نلتزم في تربيتنا صغار الآداب والفضائل فإنها تبني في الناس صورة للخير يزداد حبهم لها، وتفعل في نفوسهم فعلها: "فإن الكلمة الصغيرة، والفعلة الهامشية لهما تأثير ترسّبُي ثقافي وأخلاقي ما يفتأ يكثر، حتى يزداد الراسب الإسلامي تدريجيا، فيكون وعي الناس آنذاك لدقائق الفكرة أوفر".
ـــــــــــــــــــــــ
إبراهيم الدحيم: البيان: 249

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة