الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تواضع الحبيب صلى الله عليه وسلم

تواضع الحبيب صلى الله عليه وسلم

تواضع الحبيب  صلى الله عليه وسلم

حاز نبينا وحبيبنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأخلاق أعلاها وأكملها. حُمِّل أعظم رسالة وكُلف بتبليغها، فحملها وبلغها، وأوذي في سبيلها فما وهنت عزيمته. وأما الأخلاق فمن ذا الذي يقدر على وصف خُلقه، وقد كان خلقه القرآن، كما قال الله تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (القلم:4)، ومهما تكلم المتكلمون، ووصف الواصفون خُلقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلن يعطوه حقه، ولن يدركوا وصفه .

والتواضع، وخفض الجناح، ولين الجانب، كانت أوصافا له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، تخلَّق بها مع الكبير والصغير، والقريب والبعيد، امتثالا لأمر الله تعالى حين خاطبه بقوله سبحانه: { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } (الحجر:88 )، قال أهل التفسير: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي: ألِن لهم جانبك، وفي ذلك كناية عن التواضع لهم والرفق بهم .

ولقد أوصى جبريل ـ عليه السلام ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتواضع، كما جاء في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( جلس جبريل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنظر إلى السماء، فإذا ملَك ينزل فقال له جبريل : هذا الملَك ما نزل منذ خُلِق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك : أمَلِكا أجعلك أم عبدا رسولا؟، قال له جبريل : تواضع لربك يا محمد، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بل عبدا رسولا ) ( أحمد ) .

فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر الناس تواضعا، وأخفضهم جناحا، وألينهم جانبا، وسيرته وحياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ مليئة بالمواقف والعبر في هذا الخلق العظيم .

فأخبار تواضع الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرة، وسيرته العطرة مليئة بها، وما حفظ عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه تكبر على أحد، أو فاخر بنفسه أو مكانته، وقد نال أعلى المنازل، وحظي عند ربه بأكبر المقامات، فهو صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والمقام المحمود، وأُسري به إلى السموات العلى حتى بلغ سدرة المنتهى، وبلغ مقاما لم يبلغه مخلوق قبله ولا بعده، وأنعم الله عليه بالمعجزات، وأيده بالآيات ... وما حكى شيئا من ذلك على وجه الفخر أو المدح لنفسه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولا تعالى به على الناس، بل كان التواضع صفته، وخفض الجناح سمته .. فكان إذا أخبر عن منزلته تلك يقرن إخباره بها بنفي الفخر، تواضعا لله تعالى .

عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي ـ يومئذ آدم فمن سواه ـ إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ) ( الترمذي ) .

ومعنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا فخر : أي لا أقوله تكبرا وتفاخرا وتعاظما على الناس، بل أقوله تواضعا وشكرا لله .

ومن تواضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كره أن يُفضل على الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مع أنه خاتمهم وأفضلهم، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن متى ) ( البخاري ) .

وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ متواضعا في لباسه ومركبه، فيلبس ما تيسر من اللباس، ولا يأنف من ركوب البغال والحمير، ولو شاء ـ صلى الله عليه وسلم ـ للبس الديباج والحرير، ولما ركب إلا أصيلات الخيل، كيف لا؟، وأغنياء الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يفدونه بأنفسهم وأموالهم، وقد منَّ الله عليه بالفتوح، وساق إليه أموال اليهود والمشركين، ولكن تواضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأبى عليه أن يسير سيرة الملوك، أو يتزيا بزيي أهل الدنيا، وهو الذي اختار أن يكون عبدا رسولا.

وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ متواضعا مع أسرته وفي داخل بيته، يعمل أعمالا يأنف منها كثير من الرجال، وسئلت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصنع في البيت؟، قالت: كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج ) ( البخاري ).

وعن عروة ـ رضي الله عنه ـ قال : سأل رجل عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( هل كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعمل في بيته ؟، قالت : نعم . كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخصف نعله ، ويخيط ثوبه ، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته )( أحمد ).

وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ متواضعا مع الناس، ومن شدة تواضعه أنه لا يُعرف من بين أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ، فلا يتميز عليهم بملبس أو مركب أو مجلس، كما هي عادة الكبراء والأغنياء، وإذا جاء الغريب ما عرفه من بينهم حتى يسأل عنه، كما روى أبو ذر وأبو هريرة ـ رضي الله عنهما ـ فقالا: ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجلس بين ظهري أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل .. ) ( أبو داود ).

ومن تواضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يكره أن يقوم الناس له كما هو شأن أهل الدنيا .

قال أنس ـ رضي الله عنه ـ : ( ما كان شخص أحب إليهم رؤيةً من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك ) ( أحمد ) .

ومن تواضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه يجيب دعوة من دعاه ولو كان فقيرا، ويقبل من الطعام ما كان يسيرا، ولا يشترط في ذلك، أو يغضب من دعوة يراها أقل من حقه، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول:( لو دعيت إلى ذراع أو كُرَاع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كُرَاع لقبلت ) ( البخاري ). و الكُراع من الدابة ما دون الكعب .

وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يمل من ذوي الحاجات، بل يستمع إليهم، ويقضي حاجاتهم، فيجيب السائل، ويعلم الجاهل ، ويرشد التائه ، ويتصدق على الفقير، ولا يرد أحدا قصده في حاجة .

وكان أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ يتبركون بالماء يغمس يده الشريفة فيه، فما يردهم، ولا ينزعج من كثرة طلبهم . قال أنس ـ رضي الله عنه ـ: ( كان إذا صلى الغداة جاءه أهل المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه ) ( البخاري ).

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ : ( أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت:يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان، انظري أيَّ السكك شئت حتى أقضيَ لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها ) ( مسلم ) .

قَالَ النووي :( خَلا معها في بعضِ الطرق ) " أي وقَف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية، فإنَّ هذا كان في ممر الناس ومشاهدتهم إياه وإياها، لكن لا يسمعون كلامها لأنَّ مسألتها مما لا يظهره " أهـ .

وفي ذلك بيان لتواضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوقوفه مع المرأة الضعيفة ..

وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا ينزع يده ممن يصافحه حتى ينزعها الذي يسلم عليه، ويزور الضعفاء والفقراء من المسلمين، ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم .

ولما هابته الرجال فارتعدوا أمامه هَوَّن عليهم، وسكن من روعهم، وأزال ما في قلوبهم .

روى أبو مسعود البدري ـ رضي الله عنه ـ: ( أن رجلا كلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الفتح فأخذته الرعدة، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ) ( الحاكم )، والقديد هو اللحم المجفف في الشمس .

وفي المجامع الكبيرة التي قد تدفع النفس إلى نوع من الكبر والتميز على الناس، كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يزداد فيها إلا تواضعا إلى تواضعه .

وأعظم جمع حضره في حياته، وخطب الناس فيه كان يوم عرفة، وقد توجهت إليه جموع الحجيج، ومع ذلك برز للناس على ناقته بكل تواضع وذل لله ـ عز وجل ـ .

ومواقف النصر والفتوح تستبد بالقادة والفاتحين، وتستولي على نفوسهم، فيكون فيها فخرهم وعلوهم، ولا يقدر على التواضع فيها إلا أقل الرجال، وما حفظ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم - رغم كثرة فتوحاته وانتصاراته، أنه تعالى أو اغتر بنصر، ولا استبد به فتح، بل ازداد تواضعا إلى تواضعه .

ويوم الفتح الأكبر حين دخل مكة منصورا مؤزرا، دخلها وقد طأطأ رأسه تواضعا لله تعالى، حتى إن رأسه ليمس رحله من شدة طأطأته .

ومع علو منزلته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدنيا والآخرة كان يقول: ( لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا : عبد الله ورسوله ) ( البخاري )، والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح ..

هكذا كان تواضع الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولا يملك من يقرأ سيرته، ويطلع على أخلاقه إلا أن يمتلئ قلبه بمحبته، فالناس مفطورون على محبة المتواضعين وبغض المتكبرين ..

ونبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو سيد الخلق، وخاتم الرسل، وأعلى الناس مكانة في الدنيا والآخرة، وهو أيضا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد الناس تواضعا لله تعالى، فحري أن يملك القلوب، وحري بأتباعه أن يكونوا من المتواضعين، اتباعا لهديه، واقتداء بأخلاقه، وتمسكا بسنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة