الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مَثَلُ دعاء الكافر

مَثَلُ دعاء الكافر

مَثَلُ دعاء الكافر

الدعاء صلة روحية بين العبد وبارئه، وتوجُّه نحو المعبود القادر، واستعانة بالمولى العزيز، وابتهال من المخلوق الضعيف إلى الخالق القوي، يرجوه المغفرة والعفو، ويطلب منه الرحمة والنصر، ويسأله التوفيق والسداد.
والإيمان قطب الرحى الذي يدور حوله عمل المؤمن، وركيزة الاستجابة، ومن تعرى عن الإيمان، وكفر بمدبر الأرض والسماء، فمن يدعو؟ وأنى يُستجاب له؟!

هذه المعاني وغيرها عبَّرت عنها آية كريمة أصدق تعبير، ذلك قوله عز وجل: {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} (الرعد:14).

فقد قررت هذه الآية الكريمة حقيقة مهمة من حقائق الإيمان، لا تستقيم حياة الإنسان عموماً، وحياة المؤمن خصوصاً إلا بالاعتقاد بها، والتسليم لها، والخضوع لمقتضياتها، تلك الحقيقة تقول: إن الدعاء وطلب العون، وقضاء الحاجة، إنما يكون من الله القادر الوهاب، ولا يليق بالعبد المؤمن أن يتوجه إلى غيره سبحانه، مهما أوتي هذا الغير من قوة وجبروت، ومهما حاز من سطوة وملكوت.

وقد شبهت الآية الكريمة الذين يتوجهون بالدعاء لآلهة الأرض، من الأصنام أو البشر، بالذي يبسط كفيه إلى الماء، والمراد بـ (باسط كفيه) مَنْ يغترف ماء بكفين مبسوطتين غير مقبوضتين؛ إذ الماء لا يستقر فيهما. وهذا كما يقال: هو كالقابض على الماء، في تمثيل إضاعة المطلوب. والماء جماد لا يشعر ببسط كفي طالبه، ولا بعطشه، وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه، ويبلغ فاه، فكذلك ما يدعونه - من دون الله لا يَحُس بدعائهم، ولا يستطيع إجابتهم، ولا يَقْدُر على نفعهم.

وكذلك الكفار الذين يدعون مع الله آلهة أخرى، لا يستجيبون لهم بشيء، ولا ينفعونهم في أشد الأوقات إليهم حاجة؛ لأنهم فقراء، كما أن مَن دَعوهم فقراء، كما قال تعالى: {لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} (سبأ:22). ولذلك ختم سبحانه هذا المثل بقوله: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} أي: إلا في ضياع، لا منفعة فيه؛ لأنهم إن دعوا الله لم يُجِبْهم وذلك لأنهم أشركوا به، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم لأنها لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً.

وقد أجاد سيد قطب رحمه الله في توصيف هذا المثل؛ حيث اعتبره مشهداً ناطقاً متحركاً يمثل حال ملهوف ظمآن، يمد ذراعيه ويبسط كفيه، وفمه مفتوح، يلهث بالدعاء، يطلب الماء ليبلغ فاه، فلا يبلغه، وما هو ببالغه، بعد الجهد واللهفة والعناء. وكذلك دعاء الكافر بالله الواحد حين يدعون من دون الله ما لا يملك له مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وفي أي جو لا يبلغ هذا الداعي اللاهف قطرة من ماء؟ في جو البرق والرعد والسحاب الثقال، التي تجري هناك بأمر الله الواحد القهار!

وعلق الشيخ السعدي على هذا المثل بقوله: وتشبيه دعاء الكافرين لغير الله بالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه من أحسن الأمثلة؛ فإن ذلك تشبيه بأمر محال، فكما أن هذا محال، فالمشبَّه به محال، والتعليق على المحال من أبلغ ما يكون في نفي الشيء، كما قال تعالى: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} (الأعراف:40).

والمقصود من هذا التمثيل، بيان عدم استحقاق الأصنام - وما في معناها من المعبودات والمقصودات - أن يدعوها الداعون، وأن الدعاء الحق، الحريَّ بالإجابة إنما هو دعاء الله سبحانه، والتوجه إليه وحده دون غيره، لكشف الضر، وتفريج الكروب، كما قال سبحانه: {أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله} (النمل:62).

نعم، إن كل من دعا صنماً أو حجراً لا يسمع ولا يشفع، أو دعا بشراً لا يضر ولا ينفع، فإنما يتوجه بدعائه إلى ضعيف عاجز، لا يملك من أمره شيئاً، فضلاً عن أن يتصرف في أمور الآخرين. ولا غرو، فهو إنما يدعو أوهاماً أو أوثاناً من دون الله، فكيف يستجيب سبحانه لدعائه، فلا ريب أن يكون دعاؤه هباء وخسراناً، ولا عجب كذلك أن يكون عمله ضياعاً لا جدوى منه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة