الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ما لي ولِلدّنيا

ما لي ولِلدّنيا

ما لي ولِلدّنيا

من دلائل نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ زهده في الدنيا وإعراضه عنها، وإيثار الآخرة عليها، مع أن الدنيا كانت بين يديه، ومع أنه أكرم الخلق على الله، ولو شاء لأجرى الله له الجبال ذهباً وفضة، وقد خُيِّر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أن يكون ملِكاً نبياً أو عبداً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( جلس جبريل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنظر إلى السماء فإذا ملَك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك، قال: أفملكا نبيا يجعلك أو عبدا رسولا؟، قال جبريل: تواضع لربك يا محمد: قال: بل عبدا رسولا ) رواه أحمد .

ذكر ابن كثير في تفسيره عن خيثمة أنه قيل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبياً قبلك، ولا نعطي أحداً من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله، فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله ـ عز وجل ـ في ذلك : { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً }(الفرقان:10) .
وعن أبي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما أبصر جبل أُحدٍ فقال لأصحابه: ( ما أحب أنه تَحوَّل لي ذهباً، يمكث عندي منه دينارٌ فوق ثلاث، إلا ديناراً أرصدُه لدَين، ثم قال: إن الأكثرين هم الأقلون إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ، وقليل ما هم ) رواه البخاري .

طعام وشراب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

كان غالب طعامه وشرابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ التمر والماء، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ( ما شبع آل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خُبز البُرِّ ثلاثًا حتى مضى لسبيله ) رواه مسلم . وقالت: ( إن كنا آل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنمكث شهرًا ما نستوقد بنار، إنْ هو إلا التمر والماء ) رواه مسلم .
وعن عروة ـ رضي الله عنه ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تقول: ( والله يا ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال - ثلاثة أهِلَّة في شهريْن - وما أُوقِد في أبيات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم نار، قال: قلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جيران من الأنصار وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه ) رواه البخاري .

بل ما شبع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خبز الحنطة حتى فارق الدنيا، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يشير بإصبعه مرارًا يقول: ( والذي نفس أبي هريرة بيده، ما شبع نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأهله ثلاثة أيام تباعًا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا ) رواه مسلم .
وعنه أيضا ـ رضي الله عنه ـ أنه مرَّ بقومٍ بين أيديهم شاةٌ مَصْلِيَّة فدعوه، فأبَىَ أن يأكل وقال: ( خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير ) رواه البخاري .
وقد أدركت فاطمة ـ رضي الله عنها ـ حال أبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعرفت زهده في الدنيا، فأتته ذات يوم بكِسْرةِ خبزِ شعير، فأكلها ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ وقال: ( هذا أول طعام أكله أبوكِ منذ ثلاث ) رواه أحمد .

فراشه وثيابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

أما فراشه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فكان الحصير الذي يؤثر في جنبه، ويصف هذا الفراش عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فيقول: (إنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدمٍ حشوها ليفٌ، وإن عند رجليه قَرَظًا مصبوبًا، وعند رأسه أَهَبٌ معلَّقة، فرأيت أثرَ الحصير في جنبه فبكيت، فقال ـ صلى الله عليه وسلم: مَا يُبْكِيكَ ؟، فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله، فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ) رواه البخاري .

وأما وسادته التي يتكئ وينام عليها ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتصفها عائشة ـ رضي الله عنها ـ فتقول: ( كان وسادة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي يتكئ عليها من أدَم (جلد)، حشوها ليف ) رواه البخاري .
ودخلت امرأة أنصارية بيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرأت فراشه مثنية، فانطلقت، فبعثت بفراش فيه صوف إلى بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما رآه قال: ( رُدِّيه يا عائشة، فوالله لو شئتُ لأجرى الله عليَّ جبال الذهب والفضة، قالت عائشة: فرددته ) رواه أحمد .
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه ـ قال: ( اضطجع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حصير فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه، فقلت: يا رسول الله ألا آذنتنا فبسطت شيئا يقيك منه، تنام عليه، فقال: ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فقال (نام) تحت شجرة ثم راح وتركها ) رواه أحمد .

ولم يكن حاله في ثيابه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بأحسن مما سبق، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كنت أمشي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية ) رواه مسلم .
وعن أبي بردة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( دخلت على عائشة ـ رضي الله عنها ـ فأخرجت إلينا إزارا غليظا، مما يصنع باليمن، وكساء من تلك التي تدعى الملبدة، فأقسمت بالله لقد قُبِضَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذين الثوبين ) رواه البيهقي .

ميراثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

حين غادر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدنيا لم يترك عند موته درهما ولا دينارا، فعن أمِ المؤمنين جويرية ـ رضي الله عنها ـ قالت: (ما ترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمَة ولا شيئاً، إلا بغلتَه البيضاء وسلاحَه، وأرضاً جعلها صدقة ) رواه البخاري .
وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( تُوفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما في رفِّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفٍّ لي، فأكلتُ منه حتى طال عليَّ ) رواه البخاري .
ومات ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودرعه مرهونة عند يهوديّ مقابل شيءٍ من الشعير، فعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( قُبِضَ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ودرعه مرهونة عند رجل من يهود على ثلاثين صاعا من شعير، أخذها رزقا لعياله ) رواه أحمد .

ستظل هذه الأخبار الدالة على زهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ شاهد صدق على نبوته وإيثاره الآخرة وما عند الله ـ عز وجل ـ

وَرَاوَدَتْهُ الجِالُ الشُّمُّ مِنْ ذَهبٍ عَنْ نَفْسِهِ فأراها أيُّما شَمَمِ

وفي زهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونظرته للدنيا دعوة للأمة للحذر منها وفتنتها، ومعرفة قيمتها وقدرها، فلو كانت الدنيا دليل محبة الله لصاحبها، لفاز بها خير الخلق وأكرمهم على الله، ويكفي في وصف حقيقتها وقيمتها تشبيهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها بالجَدْي الميت، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - : ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ بالسوق، داخلاً من بعض العالية، والناس كنفتيه (عن جانبيه) فمر بجدي أسك (مقطوع الأذنين) ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟!، قال: أتحبون أنه لكم؟، قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه، لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟، فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ) رواه مسلم .

توازن مطلوب:

الزهد في حقيقته متعلق بالقلب وليس بما في اليد فقد يكون الإنسان ممن وسع الله عليه في الرزق وهو مع ذلك زاهد لعدم تعلق قلبه بما في يده ، وقد يكون فقيرا ليس عنده شيء وقلبه معلق بما في أيدي الناس ، والمال لا يُمْدح أو يُذم لذاته، وإنما لاعتبارات خارجة عنه، فقد يكون المال نعمة، وهذا في حق من كسبه من الحلال وأنفقه في الحلال، وعرف حق الله تعالى فيه، وقد كان أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان، وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال والغِنى، لكنهم أنفقوا هذا المال في نصرة الإسلام، وتجهيز المجاهدين في سبيل الله .

ورغم زهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلاَّ أن نظرته للدنيا كانت نظرة متوازنة، توجه الأُمَّة أن تَزْهَدَ في الدنيا دون أن تترك إعمارها، فليس الزهد وعدم التعلُّق بالدنيا داعيًا إلى خرابها، بل يعمرها المسلم دون أن يُفْتَنَ بها، لذلك يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل ) رواه أحمد .
فهذه النظرة النبوية للدنيا نظرة توازن، وهذه من عظمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تدلل على صدق نبوَّته، وربانية دينه ودعوته ..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة