الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الشفاعة والطريق إلى تحصيلها 1-2

الشفاعة والطريق إلى تحصيلها 1-2

الشفاعة والطريق إلى تحصيلها 1-2

من مقتضيات الشفاعة، أن يتجاوز الله سبحانه وتعالى عن عبده فيغفر له الذنوب، أو ينجيه من النار بعد استحقاقها، أو يخرجه منها بعد دخولها، أو يرفع له درجته في الجنّة، ولا شك أن هذه الأمور مما يتمنّى المرء تحقّقها والظفر بها، الأمر الذي يدفعه عن السؤال عن السبيل إلى ذلك.

وسوف نستعرض جملةً من الأسباب المحقّقة للشفاعة، مع التنبيه إلى أننا لا نعني شفاعة الرسول –صلى الله عليه وسلم- بخصوصها، إنما نقصد الشفاعة بمعناها العام، والتي تكون للأنبياء، والصالحين، وشفاعة الأعمال الصالحة للعبد، فنقول وبالله التوفيق:

أولاً: سلامة المعتقد والخلوص من الشرك: وهذا أمرٌ متفقٌ عليه، فالشفاعة إنما تكون في أهل الإخلاص، الذين تخلّصوا من عوالق الشرك المحبط للعمل، ومن أدران الكفر، فهي خالصةٌ لهم دون العالمين، وكلّما كمل توحيد أكمل العبد كان أولى بالشفاعة من غيره، ويدلّ على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سأل النبي –صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّلُ منك؛ لما رأيتُ من حرصكَ على الحديث: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه، أو نفسه)، وفي روايةٍ أخرى: (خالصاً من قِبَلِ نفسه)، ومعنى: (أوّلُ منك)، ألا يسبقك إلى هذا السؤال أحد.

والمقصود أن أوفر الناس حظّاً بالشفاعة هم أهل التوحيد، فأمّا أهل الكفر والشرك فليس لهم من الشفاعة نصيب، كما قال الله تبارك وتعالى: { فما تنفعهم شفاعة الشافعين} (المدثر: 48)، ولا يُستثنى من ذلك إلا الشفاعة الخاصة للنبي –صلى الله عليه وسلم- في حق أبي طالب، والتي يكون بها تخفيف العذاب عنه، كما صحّ بذلك الحديث.

والسعادة بشفاعة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام تتفاوت مراتبها بتفاوت الشفاعات النبويّة، فمن الناس من تناله الشفاعة فتقيه من دخول النار بعد أن يستوجب دخولها، ومنهم من يُعذّب في جهنّم ثم تدركه الشفاعة فتخرجه من النار، ومنهم من تناله الشفاعة بدخول الجنة بغير سابقة حسابٍ ولا عذاب، ومنهم من تُرفع له درجته في الجنة بالشفاعة، فكلّ هؤلاء مشتركون في مطلق السعادة، لكن أهل التوحيد الخالص هم أسعد الناس بتلك الشفاعات النبويّة.

وثمّة حديثٌ آخر يؤكّد اختصاص أهل التوحيد بالشفاعة، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجّل كلُّ نبيٍ دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ –أي: حاصلة- إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً) رواه مسلم.

ولنا في الشفاعة ما يدلّ على رحمة النبي عليه الصلاة والسلام ورأفته بالخلق، فقد خُيّر بين دخول نصف أمته الجنّة، وبين قيامه بالشفاعة العامّة، فاختار الثانية؛ لأنها تعمّ العديد من أهل التوحيد وتشملهم، فقد روى عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أتاني آتٍ من عند ربي، فخيّرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً) رواه الترمذي وابن ماجه.

ثانياً: قراءة القرآن والعمل به: وهاتان العبادتان من أعظم ما يُتوصّل بهما إلى الشفاعة، والتجاوز عن الذنوب وغفرانها، والعلوّ في الجنة والترقّي فيها، وقد دلّت جملةٌ من النصوص النبويّة على فضل القرآن وقيامه بالشفاعة لصاحبه، ومن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي شفيعاً يوم القيامة لصاحبه، اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غيايتان، أو كأنهما غمامتان، أو كأنهما فرقانٌ من طيرٍ صوافّ، يحاجّان عن أصحابهما) رواه مسلم، و(الزهراوين) جمع أزهر، وهو ما كان شديد الإضاءة؛ وسمّيت البقرة وآل عمران بذلك لعظيم نورهما وهدايتهما، ومعنى الغمامة والغياية: كل ما أظل الرأس من سحابةٍ أو غيره، والفرقان من الطير الصوافّ: المجموعتان من الطيور التي بسطت أجنحتها، والمتّصلة ببعضها، حتى إنها تُظلّ من يوجد تحتها، والمحاجّة: الدفاع عن صاحبهما.

والمقصود أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قد بيّن في السياق السابق استحقاق قاريء القرآن للشفاعة يوم القيامة، وهذا الفضل يتأكّد عند من كان من أصحاب سورتي البقرة وآل عمران فإنهما تتولّيان الدفاع عن قارئهما يوم القيامة.
وقد جاء في حديث آخر ما يدلّ على شفاعة سورة الملك لصاحبها حتى تُغفر ذنوبه، وهو ما أخبر به أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي سورة: {تبارك الذي بيده الملك}) رواه أصحاب السنن.

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: (القرآن شافعٌ مشفَّع، وماحلٌ مُصَدَّق، من جعله إمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار) رواه ابن حبان في صحيحه. ومعنى قوله (ماحلٌ مًصَدّق): مجادلٌ ومدافعٌ عن صاحبه.

ومن شفاعات القرآن الثابتة ما ورد من إكرامه لأهل القرآن القارئين له، العاملين بمقتضاه، والمتدبّرين لآياته، كرامةً خاصّة ليست لأحدٍ سواهم، ونجد مظاهر هذه الكرامة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب! حلِّه. فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب! زده. فيُلبس حُلَّة الكرامة، ثم يقول: يا رب! ارض عنه. فيرضى عنه، فيُقال له: اقرأ وارق. ويزاد بكل آيةٍ حسنة) رواه الترمذي وصحّحه.

والوصول إلى شفاعة القرآن يتطلّب ممن يريدها دوام القراءة والتدبّر والعمل به والأخلاص في ذلك كله، ويُفهم هذا من عموم حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اعملوا بالقرآن، وأحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه، واقتدوا به، ولا تكفروا بشيء منه، وليسعكم القرآن وما فيه من البيان؛ فإنه شافعٌ مشفّع) رواه الحاكم في المستدرك وصحّحه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة