الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تنوّع الجُملة في الحديث النّبويّ الشّريف

تنوّع الجُملة في الحديث النّبويّ الشّريف

تنوّع الجُملة في الحديث النّبويّ الشّريف

عندما قام بعض الباحثين اللّغويين بدراسة بناء الجُملة في الحديث النّبويّ الشّريف، وجدوا أنفسهم أمام مجموعة فريدة من الخصائص اللُّغويّة الّتي استنبطوها - بعد إمعان النّظر والتّدقيق على مائدة البحث اللُّغويّ -، حتّى إنّهم قد خلصوا إلى أنَّ هذه الخصائص الّتي تميّز الحديث النّبويّ الشّريف من غيره يمكن أن تُكوِّن معيارًا جديدًا، ومقياسًا لُغويًّا يُسهم في تعيين الحديث الصّحيح، والكشف عن الحديث الموضوع بكل جلاء؛ نظرًا لتفرّد كلام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن غيره بجملة من الخصائص.

وكان ممّا جذب انتباههم في دراستهم اللُّغويّة لجملة الحديث هو: تنوّع جملة الحديث الشّريف، وتشكّلها بحسب الموقف الحيّ.

وهذا ما سمّاه علماء اللّغة المعاصرون "التّحليل إلى المؤلّفات المباشرة"، وهو أصل من أصول التّحليل الّتي أفرزتها البنيويّة وعُرِفت بها، ويُقصد بها: تعيين ما تضمنته الجملة الواحدة من مؤلّفات مباشرة، أو ما تتضمنه العبارة من جُمل عدّة تُسهم كلّها في أداء المعنى.

ولا بدّ لفهم المعنى من تحليل الجملة، أو العبارة إلى مؤلفاتها المباشرة، ومعرفة عناصرها الرّئيسة، وعلاقة كلّ منها بغيرها حسب قواعد نظم الكلم المعروفة.

فاللّغويّون الّذين فحصوا الحديث النّبويّ الشّريف على مائدة الّدرس اللّغويّ وجدوا أنَّ الحديث الشّريف - حسب هذه المزيّة - تتشكّل فيه بُنى الجملة حسب مقتضيات الموقف، أو مقتضيات الحُكم التّشريعيّ؛ ومن أمثلة ذلك:

الأول: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل يستأذن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الجهاد، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (أحيٌّ والداك)؟ قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهِد) متّفق عليه.

الثاني: عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (ثلاثٌ من كنّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النّار) متّفق عليه.

الثالث: عن عبد الله بن الزّبير رضي الله عنهما أن رجلًا من الأنصار خاصم الزّبير عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في شَراج الحَرَّة الّتي يسقون بها النّخل، فقال الأنصاريّ: سَرِّح الماء يمرُّ، فأبى عليه، فاختصما عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للزّبير: (اسقِ يا زبير ثمّ أرسل الماء إلى جارك)، فغضب الأنصاريّ فقال: أنْ كان ابنَ عمّتك، فتلوّن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: (اسق يا زبير ثمّ احبس الماء حتّى يرجع إلى الجَدْر) متّفق عليه.

الرابع: عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمّا اشتكى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة، يُقال لها: مارية - وكانت أمّ سلمة وأمّ حبيبة أتتا أرض الحبشة - فذكرتا من حُسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه صلى الله عليه وسلّم وقال: (أولئك إذا مات فيهم الرّجل الصّالح بنوا على قبره مسجدًا، ثمّ صوّروا فيه تلك الصّور، أولئك شرار الخَلْق عند الله) متّفق عليه.

الخامس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (استوصوا بالنّساء خيرًا فإنّهنّ خُلقن من ضِلْع، وإنّ أعوج شيء في الضّلع أعلاه، فاستوصوا بالنّساء خيرًا) متّفق عليه.

السادس: عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (إذا كان أحدكم يصلّي فلا يَدَع أحدًا يمرّ بين يديه، وليدْرَأَه ما استطاع، فإنْ أبى فليقاتله فإنّما هو شيطان) متّفق عليه.

السابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ) متّفق عليه.

ففي هذه الأمثلة من الأحاديث النّبويّة الشّريفة تتنوّع أنماط الجملة، ففي المثال الأوّل جملة استفهاميّة، وجملة أمريّة، وفي جملة الاستفهام سدّ الفاعل مسدّ الخبر، وفي المثال الثّاني جُملٌ تداخلت فيما بينها لتكوّن الدّلالة المقصودة من الحديث الشّريف، وفيه وقعت الجملة الشّرطيّة موقع الخبر، وفي الحديث الثّالث موقف حيّ، وحوار مشهود، تمثّلت في جمل تلاقت في حديث واحد، في بناء متّصل.

وفي الحديث الرّابع ابتدأ بجملة اسميّة، جاء المبتدأ فيها اسم إشارة (أولئك)، وخبره جملة شرطيّة (إذا مات فيهم الرّجل الصّالح...)، وهذا لا يكون إلا إذا كان الكلام تصويرًا لحُكم محدّد، معتمدًا على موقف آخر، ومرتبطًا بمعنى بعده، وهكذا يكون القول في الأمثلة الأخرى من الأحاديث، وفي كلّ حديث عنصر جديد من عناصر التّركيب اللّغويّ، يُشكّلها حُكم من أحكام التّشريع، أو يُمليها وصف لمشهد من مشاهد الموقف.

هذا التّعدّد في أنماط التّركيب اللّغويّ في أثناء الحديث الواحد، يكاد يتمثّل في معظم الأحاديث النّبويّة الشّريفة، ما عدا تلك الأحاديث الّتي تتّسم بالإيجاز الشّديد، وما كان منها في جملة الجواب خاصّة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة