لا يزال الحديث موصولًا عن الظّواهر اللُّغويّة الّتي وقف عليها بعض الباحثين في نحو الأحاديث النّبويّة الشّريفة، حينما أخضعوا بناء الجُملة في كلام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للبحث والتّدقيق على مائدة الدّرس اللّغويّ، من خلال فحص الأحاديث المخرّجة في الصّحيحين، وكان من جملة ما وقفوا عليه من ظواهر لُغويّة في الأحاديث النّبويّة:
حذف المبتدأ
تحدّث النّحاة عن حذف المبتدأ في الجملة الاسميّة - جوازًا، ووجوبًا - إذا كان في الكلام دلالة على المحذوف، والباحثون اللّغويّون الذين فحصوا لُغة الحديث النبوي وجدوا أنّ المبتدأ يُحذف جوازًا في السّياقات الآتية:
الأوّل: إذا كان جوابًا لاستفهام: ومثاله حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: (الإيمان بالله)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (حجّ مبرور) متفق عليه وهذا لفظ مسلم، وفي رواية: (إيمانٌ بالله ورسوله).
فقوله: (إيمانٌ بالله ورسوله) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أفضل العمل إيمانٌ بالله ورسوله، وقد تكرّر مثل هذا الأسلوب في أحاديث الصّحيحين مرّات كثيرة.
الثّاني: إذا كان المبتدأ بعد القول: ومثاله: حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً أصاب من امرأة قُبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود:114)، فقال الرجل: ألي هذا يا رَسُول اللَّه؟ قال: (لجميع أمّتي كلّهم) متّفق عليه.
وتقدير القول: هو لجميع أمّتي كلّهم، وواضح أنّ هذا التّركيب يشبه التّركيب الأوّل، وأنّه يمكن أن يعدّ هذا مثالًا على حذف المبتدأ بعد الاستفهام أيضًا.
الثّالث: إذا كان المبتدأ ضميرًا مستترًا يعود على مذكور في سياق الكلام السّابق؛ وذلك من أجل الإيجاز: ومثاله: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان معاذ بن جبل يصلّي مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ يرجع فيؤمُّ قومه، فصلّى العشاء فقرأ بالبقرة، فانصرف الرّجل، فكأنّ معاذًا تناول منه، فبلغ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: (فتّان، فتّان، فتّان) - ثلاث مرار - أو قال: (فاتنًا، فاتنًا، فاتنًا)، وأمره بسورتين من أوسط المفصّل، قال عمرو: لا أحفظهما. متّفق عليه.
وتقدير القول: هو فتّان، هو فتّان، هو فتّان.
الرّابع: إذا كان المبتدأ ضميرًا لمتكلّم، أو مخاطب: ومثاله: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا قفل من الحج أو العمرة - ولا أعلمه إلا قال: الغزو - يقول كلما أوفى على ثَنِيّة أو فَدْفَد كبَّر ثلاثًا ثمّ قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) متّفق عليه.
فقوله: (آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون) هي أخبار متعدّدة لمبتدأ محذوف تقديره: نحن.
الخامس: إذا كان المبتدأ اسم إشارة مقدّرًا سبقه في الكلام اسم إشارة آخر يُفسّره، ويدلّ عليه: ومثاله: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا)، فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ) متّفق عليه.
فقوله عليه الصّلاة والسّلام: (شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ) هو خبر مرفوع لمبتدأ محذوف تقديره (هذا)، ردًّا على الجملة السّابقة: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فكأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: بل هذا شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ.
حذف الخبر جوازًا
أجاز النّحاة حذف الخبر إذا دلَّ عليه دليل في سياق الكلام، وحذف الخبر في سياق الحديث النّبويّ الشّريف أقلّ من حذف المبتدأ، بل هو لم يَرِد - كما أشار الباحثون - إلا في مواضع محدودة في مجال الجملة الاسميّة الخبريّة.
ومن أمثلة ذلك: حديث سِنَان بن أبي سنَان الدُّؤَليِّ أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبره: أَنَّهُ غَزَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاةِ، فَنَزَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاة يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم تَحْتَ سَمُرَةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، قَالَ جَابِرٌ: فَنِمْنَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِذَا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يَدْعُونَا فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا)، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: (الله)، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ، ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم. متّفق عليه.
ففي قوله: فقلت: (الله) يُعرب لفظ الجلالة مبتدأ مرفوعًا، وخبره محذوف جوازًا تقديره: يمنعني منك، ويكون تقدير الكلام، وقال: مَن يمنعك منّي؟ قلتُ: الله يمنعني منك.