الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من سمات الحوار القرآني مع المعاندين

من سمات الحوار القرآني مع المعاندين

من سمات الحوار القرآني مع المعاندين

لم يكتف القرآن الكريم بجعل الحوار مبدأ رئيسياً من مبادئه في دعوة الآخرين إلى دين الإسلام, وقاعدة أساسية من قواعده في إقناع الناس بوحدانية الله سبحانه، وألوهيته، واستحقاقه وحده العبادة والطاعة والاستسلام ؛ بل وسع القرآن الكريم نطاق الحوار ليشمل كافة المحاورين، ومختلف الأصناف.
والحقيقة أن من يستقرئ مادة الحوار في القرآن الكريم يجدها مادة واسعة وحاضرة, حتى في الملأ الأعلى، فقد ورد في القرآن الكريم حوار الله مع ملائكته: (وإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا ويَسفِكُ الدِّمَاءَ ونَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعلَمُ مَا لَا تَعلَمُونَ) البقرة:30.

وحوار الأنبياء مع الملائكة، كما في قصة إبراهيم -عليه السلام-: (ولَمَّا جَاءَت رُسُلُنَا إِبرَاهِيمَ بِالبُشرَى قَالُوا إِنَّا مُهلِكُوا أَهلِ هَذِهِ القَريَةِ إِنَّ أَهلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحنُ أَعلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وأَهلَهُ إِلَّا امرَأَتَهُ كَانَت مِنَ الغَابِرِينَ) العنكبوت: 31- 32.
وحوار الأنبياء مع أقوامهم, سواء بشكل عام -كما في حوارات نوح وهود وصالح وغيرهم من الأنبياء مع أقوامهم؛ أو بشكل خاص مع الطغاة والمتجبرين –كحوار إبراهيم مع النمرود، وحوار موسى مع فرعون؛ أو خاص من ذلك مع الأقرباء والأرحام -كحوار نوح مع ابنه, وحوار إبراهيم مع أبيه.
هذه النماذج المعروضة في القرآن الكريم تؤكد أن الحوار ليس أمراً عرضياً في المنهج الإسلامي, بل هو سبيل متبع في كافة القضايا، ومع جميع الخلائق.
وفي هذا المقال سأحاول تتبع آيات القرآن الكريم الحوارية مع نوعية معينة من البشر, ألا وهي نوعية المعاندين من الطغاة والجبابرة والمتعنتين، ممن تعالوا على الحق، رغم استيقان قلوبهم وعقولهم به، تماماً كما وصف الله تعالى في كتابه العزيز: (وجَحَدُوا بِهَا واستَيقَنَتهَا أَنفُسُهُم ظُلمًا وعُلُوًّا فَانظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الـمُفسِدِينَ) النمل: 14، لأحاول استخراج سمات هذا الحوار القرآني مع هذه النوعية من الناس, لعل ذلك يدفع المسلمين إلى تتبع آثار طريقة القرآن وأسلوبه في حوار هذه الفئة خصوصاً.

ولعل أولى سمات الحوار القرآني مع هذه الفئة هو استخدام الحكمة والموعظة الحسنة، وأسلوب التي هي أحسن في حوارهم, وهو الأصل العام في الدعوة إلى الله في القرآن الكريم, قال تعالى: (ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ والـمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ...) النحل: 125.
فالقرآن الكريم لم يخرج في دعوته الطغاة والمعاندين إلى الحق عن الأصل العام في دعوة الناس أجمعين, ولم يستثن هذه الفئة من المدعوين من سمة اللطف واللين في دعوة الآخرين؛ رغم ما تنطوي عليه هذه الفئة من الناس من عناد واضح, وتعال ومكابرة على الحق ظاهرة, وإضمار الشر لأهله وأتباعه.
إن من يستقرئ آيات دعوة نبي الله موسى -عليه السلام- لأشد الطغاة، وأكثر المعاندين للحق, يمكنه ملاحظة عدم حدوث أي تغير في أسلوب الدعوة, أو طريقة عرض الحق بالكلمة الطيبة واللين، فإذا كانت بداية دعوة نبي الله موسى -عليه السلام- لفرعون كما وصف الله: (اذهَبَا إِلَى فِرعَونَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَولًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَى...) طه: 43- 44.

إن من يتابع هذا الحوار مع أشد المعاندين للحق والطغاة المتكبرين على وجه الأرض فرعون, يمكنه ملاحظة أن أسلوب اللين والحرص على إيمان المدعو لم يطرأ عليه أي تغيير, رغم إظهار فرعون بوادر العناد، وأمارات التعالي على الحق, بل ومواجهته ومقارعته: (قَالَ فِرعَونُ ومَا رَبُّ العَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ ومَا بَينَهُمَا إِن كُنتُم مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَن حَولَهُ أَلَا تَستَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُم ورَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرسِلَ إِلَيكُم لَمَجنُونٌ * قَالَ رَبُّ الـمَشرِقِ والـمَغرِبِ ومَا بَينَهُمَا إِن كُنتُم تَعقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذتَ إِلَهًا غَيرِي لَأَجعَلَنَّكَ مِن المـَسجُونِينَ * قَالَ أَوَلَو جِئتُكَ بِشَيءٍ مُبِينٍ) الشعراء: 23- 30.
بل لم يقابل تهديد فرعون باستخدام العنف والبطش ضد نبي الله وأتباعه بالمثل, بل كان ترك الظالم وهجره هو غاية ردة فعل موسى وأتباعه: (فأُلقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وهَارُونَ * قَالَ آمَنتُم لَهُ قَبلَ أَن آذَنَ لَكُم إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحرَ فَلَسَوفَ تَعلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُم وأَرجُلَكُم مِن خِلَافٍ ولَأُصَلِّبَنَّكُم أَجمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطمَعُ أَن يَغفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الـمُؤمِنِينَ * وَأَوحَينَا إِلَى مُوسَى أَن أَسرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ) الشعراء: 46- 52.

والحقيقة أن العذاب والهلاك لم ينزل بالمعاندين والطغاة والمتكبرين على الحق إلا بعد وصول عنادهم إلى مرحلة إرادة إفناء وإهلاك المؤمنين, في محاولة لوأد كلمة الحق في مهدها, وهو ما حل بفرعون وجنوده عند ملاحقتهم موسى وبني إسرائيل: (وأَوحَينَا إِلَى مُوسَى أَن أَسرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ * فَأَرسَلَ فِرعَونُ فِي الـمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وإِنَّهُم لَنَا لَغَائِظُونَ... فَأَتبَعُوهُم مُشرِقِينَ فلَمَّا تَرَاءَى الجَمعَانِ قَالَ أَصحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهدِينِ * فَأَوحَينَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضرِب بِعَصَاكَ البَحرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرقٍ كَالطَّودِ العَظِيمِ * وأَزلَفنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وأَنجَينَا مُوسَى ومَن مَعَهُ أَجمَعِينَ * ثُمَّ أَغرَقنَا الآخَرِينَ) الشعراء: 52- 66.

لم تكن هذه السمة خاصة بحوار نبي الله موسى -عليه السلام- مع المعاند "فرعون", بل هو أيضا سمة حوار خليل الله إبراهيم مع أبيه, حيث يبدو اللين واضحاً في دعوته لأبيه، رغم إظهار الأخير العناد والتكبر على الحق: (واذْكُر فِي الكِتَابِ إِبرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعبُدُ مَا لَا يَسمَعُ ولَا يُبصِرُ ولَا يُغنِي عَنكَ شَيئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَد جَاءَنِي مِن العِلمِ مَا لَم يَأتِكَ فَاتَّبِعنِي أَهدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعبُدِ الشَّيطَانَ إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلرَّحمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِن الرَّحمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيطَانِ وَلِيًّا) مريم: 41- 45.
وعلى الرغم من مقابلة والد إبراهيم لين ابنه ولطفه في دعوته إلى الحق بالتهديد والوعيد بالرجم، واستخدام العنف لإسكاته عن قول الحق، وإيقاف دعوته إياه إلى الخير, إلا أن ذلك لم يُقابل من خليل الرحمن إلا بالسلام والاعتزال والوعد بالاستغفار: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَن آلِهَتِي يَا إِبرَاهِيمُ لَئِن لَم تَنتَهِ لَأَرجُمَنَّكَ واهجُرنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيكَ سَأَستَغفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وأَعتَزِلُكُم ومَا تَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وأَدعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) مريم: 46- 48.

من سمات الحوار في القرآن أن يكون هادفا ومنصفا وعادلا؛ ولم يقطع القرآن الكريم باستحالة هداية المعاندين منذ البداية, ولم يكن توجيهه للحوار مع هذه الفئة من الناس توجيه اليائس من قبولهم للحق أو خضوعهم له؛ بل كان الحوار صادقا في الرغبة بهدايتهم, ومخلصا في إسداء النصح لهم, وعادلا من خلال محاورتهم رغم غياب حجتهم وتهافت مبرراتهم، حتى تنقطع حججهم الواهية, ويصبح العنف والقهر ملاذهم الأخير للتغطية على هزيمتهم أمام الحق.
لقد عرض القرآن في حوارات المعاندين أساليب الاستدلال العقلية بكافة أشكاله وألوانه. وإذا كانت دعوة الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- لأقوامهم اتسمت باستخدام الحكمة والموعظة الحسنة والبراهين العقلية والاستناد للفطرة الإنسانية، فإن حوار القرآن للمعاندين لم يجتزئ من هذه الأساليب شيئا, بل ربما احتل الحوار القرآني للمعاندين اهتماماً أعظم كمّاً وكيفاً.

ومن أجلى صور سمة العدل في الحوار القرآني مع المعاندين أنه أكد أن الحق في قضية الإيمان بالرسل واحد لا محالة, وأنه لا يمكن أن يتعدد, ومع أن جميع الأدلة تشير إلى أن الحق هو ما جاؤوا به من عند الله, إلا أن القرآن عرض الاحتمالين معاً, حيث قال تعالى: (وإِنَّا أَو إِيَّاكُم لَعَلَى هُدًى أَو فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُل لَا تُسأَلُونَ عَمَّا أَجرَمنَا ولَا نُسأَلُ عَمَّا تَعمَلُونَ) سبأ: 24- 25. قال ابن كثير: "هذا من باب اللف والنشر، أي: واحد من الفريقين مبطل، والآخر محق، لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد، فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله".
ومن سمات الحوار القرآني -كذلك- مع المعاندين استخدامه أسلوب مجاراة المعاند، وعدم الانجرار معه لجدال لا طائل منه, والالتفات على الحجة التي لا يستطيع معها الجدال والمراوغة. تماما كما فعل إبراهيم -عليه السلام- مع النمرود الذي حاول حرف المفاهيم عن حقيقتها، حين زعم أنه يحي ويميت لا على الحقيقة التي أرادها نبي الله إبراهيم، بقوله: (إِذ قَالَ إِبرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحيِي ويُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحيِي وأُمِيتُ) البقرة: 258.
فلم يسترسل نبي الله إبراهيم معه في مغالطته للحقيقة, بل التف على ذلك بعرض دليل لا يستطيع المعاند المراوغة منه أو الجدال فيه: (قَالَ إِبرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأتِي بِالشَّمسِ مِن الـمَشرِقِ فَأتِ بِهَا مِن الـمَغرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ واللَّهُ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ) البقرة: 258.

إن الحوار في القرآن الكريم منهج أصيل, وسماته كثيرة متنوعة. لكني حاولت التركيز على حوار المعاندين, واستقراء السمات والخصائص التي امتاز بها, لعل ذلك يكون دافعا لمزيد من العناية بكنوز القرآن الكريم التي لا تنفد, ويكون عبرة لنا ودرسا في طريقة عرض الحق على الناس في هذه الأيام؛ وذلك بانتهاج أساليب القرآن في دعوته للناس كافة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

ثقافة و فكر

كيف نقف خلف اللغة العربية؟!

إنَّ المتتبِّعَ لكلِّ من كتَبَ عن وقائعِ أمَّتنا في العصْرِ الحديث، يدركُ أنَّ الأمَّةَ العربيَّةَ لم تَعرِفْ...المزيد