الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قُلْ لا تمُنُّوا عليَّ إسْلامَكم

قُلْ لا تمُنُّوا عليَّ إسْلامَكم

قُلْ لا تمُنُّوا عليَّ إسْلامَكم

من الصفات المذمومة التي نهانا نبينا صلى الله عليه وسلم عنها وحذرنا منها: المنّ. والمنُّ: هو ذِكر الإنسان إحسانه ومعروفه إلى غيره، وتعداده والفخر به، قال القرطبي: "المَنُّ: ذِكْرُ النِّعْمَة على معنى التعديد لها والتقريع بها، مثل أن يقول: قد أحسنتُ إليك، ونعشتك، وشبهه. وقال بعضهم: المنُّ: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه، والمنُّ من الكبائر".
والمنُّ يُبْطِل الصدقات، ويضيع الحسنات، وفيه إيذاء للمسلم، وجرح لشعوره، وإدخال للحزن إلى قلبه، وقد قال الله تعالى محذراً من المنِّ: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}(البقرة:264:263)، قال ابن كثير: "يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات مَنَّاً على مَنْ أعطوه، فلا يمنون على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل.. ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى". وقال القرطبي: "قال جمهور العلماء في هذه الآية: إن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمُنُّ أو يؤذى بها فإنها لا تُقْبَل". وقال البغوي: "وهو أن يمنّ عليه بعطائه، فيقول: أعطيتُك كذا، ويعدّ نعمه عليه فيُكَدِّرها".

والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأحاديث في النهي عَنِ المَنِّ والتحذير منه، ومن ذلك:

ـ عن عبد الله بن أبي أوْفي رضي الله عنه: (إن أناساً من العرب قالوا: يا رسول الله أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأنزل الله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(الحجرات:17)) رواه الطبراني وحسنه السيوطي وغيره. قال ابن كثير: "قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة. وقال قتادة: نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحيح الأول، أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يحصل لهم بعد، فأُدِّبُوا وأُعْلِموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد ..{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} يعني: الأعراب الذين يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول، يقول الله رداً عليهم: {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ}، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم، ولله المنة عليكم فيه، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: في دعواكم ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن) رواه البخاري".
ـ وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (قدِم وفد بني أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلموا، فقالوا: قاتلتك مضر، ولسنا بأقلهم عددا، ولا أَكَلِّهِمْ (أضعفهم) شوكة، وصَلْنا رحِمَك، فقال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: تكلموا هكذا؟ قالوا: لا، قال: إن فقه هؤلاء قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم، قال: فأنزل الله عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(الحجرات: 17)). رواه البزار والنسائي. وفي رواية للطبراني: (فالتَفَت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكرٍ وعُمَر فقال: أتقولانِ هكذا؟ فقالا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ فِقْهَهم قليل، وإنَّ الشَّيطان يقول على ألسنتهم). قال ابن حجر في فتح الباري: "وبنو أسد كانوا فيمن ارتدَّ بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتبعوا طليحة بن خويلد الأسدي لما ادَّعى النبوة، ثم قاتلهم خالد بن الوليد في عهد أبي بكر وكسرهم ورجع بقيتهم إلى الإسلام، وتاب طليحة وحَسُنَ إسلامه، وسكن معظمهم الكوفة بعد ذلك".

والأحاديث التي نهانا فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن المَنِّ وحذرنا منه كثيرة، ومنها:

ـ عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، المَّنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره (المرخي له، الجارُّ طرْفه خُيَلاء)، وفي رواية: ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) رواه مسلم.
ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنَّان بما أعطى) رواه أحمد وصححه الألباني.
ـ عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثةٌ لا يَقبلُ اللهُ مِنهمْ يوم القيامة صرْفًا ولا عَدْلًا: عاقٌّ، ومَنّان، ومُكَذِّبٌ بِالقدَر) رواه الطبراني وحسنه الألباني.
قال النووي: "قال القاضي: قال المازري: اختلفوا في تفسيرهما، فقيل: الصرف: الفريضة، والعدل: النافلة، وقال الحسن البصري: الصرف: النافلة، والعدل: الفريضة، عكس قول الجمهور". وقال الخطابي: "المنان يتأول على وجهين، أحدهما: من المنة وهي إن وقعت في الصدقة أبطلت الأجر، وإن كانت في المعروف كدرت الصنيعة وأفسدتها. والوجه الآخر أن يراد بالمن النقص يريد النقص من الحق والخيانة في الوزن والكيل ونحوهما".
وقال النووي في المجموع: "يستحب دفع الصدقة بطيب نفس، وبشاشة وجه، ويحرم المن بها، فلو من بطل ثوابه".
وقال العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري": "فإذا كان المن مبطلاً للصدقات يكون من الأشياء الذميمة. قال ابن بطال: الامتنان مبطل لأجر الصدقة. قال تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}(البقرة: 264). وقال القرطبي: لا يكون المن غالبا إلا عن البخل والكبر والعجب ونسيان مِنَّة الله تعالى فيما أنعم الله عليه، فالبخيل تعظم في نفسه العَطِيَة، وإن كانت حقيرة في نفسها، والعُجْب يحمله على النظر لنفسه بعين العظمه وأنه منعم بماله عن المعطي، والكِبْر يحمله على أن يحقر المُعْطَىَ له وإن كان في نفسه فاضلا، وموجب ذلك كله الجهل ونسيان منة الله تعالى فيما أنعم عليه، ولو نظر مصيره لعلم أن المنة للآخذ لما يزيل عن المعطي من إثم المنع وذم المانع ولما يحصل له من الأجر الجزيل والثناء الجميل".

لقد نهانا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المن، وحذرنا منه تحذيرا شديدا، وذلك لأنه يحْرم صاحبه من نعمة نظر الله عز وجل إليه، وكلامه معه يوم القيامة، ومن دخول الجنة ابتداء، كما أنه يضيع الحسنات، ويوغر الصدور، ويقطع الأواصر والصلات بين الناس، ومن ثم فالمسلم إذا بذل معروفاً فإن عليه أن يبتغي به وجه الله تعالى، وأن يستقل ما بذل، ولا يرى لنفسه في ذلك فضلاً، ولا يمن على أحد بمعروف فعله معه، وذلك لأن المن يبطل العمل ويضيع الأجر والثواب، قال الله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}(البقرة: 264)، وقال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(الحجرات:17). والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى) رواه أحمد وصححه الألباني.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة