
ما مِنْ خُلُقٍ من الأخلاق العظيمة، وما مِنْ خصلة مِنْ خصال الخير، إلا ولنبينا صلى الله عليه وسلم منها أوفر الحظ والنصيب، ويكفيه شهادة ربه عز وجل له بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4)، وقد سُئِلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن). قال النووي: "معناه: العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبره وحسن تلاوته ". وقال القاضي عياض: "وأما الأخلاق المُكتسَبة مِنَ الأخلاق الحميدة، والآداب الشريفة التي اتفق جميع العقلاء على تفضيل صاحبها، وتعظيم المتصف بالخُلق الواحد منها فضلا عما فوقه، وأثنى الشرع على جميعها، وأمر بها، ووعد السعادة الدائمة للمُتخِلق بها، ووُصِف بعضها بأنه جزء من أجزاء النبوة، وهي المسماة بحُسْنِ الخُلق، فجميعها قد كانت خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم".
وهذه باقة وقطوف من جميل وعظيم روْضة أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم:
1 ـ الصدق:
عُرِفَ النبي صلى الله عليه وسلم في قومه قبل بعثته بخلال عذبة، وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأصدقهم حديثاً، وأعفهم نفساً، وأوفاهم عهداً، وأشهرهم أمانة حتى سماه قومه: "الصادق الأمين". وكانت حياته أفضل مثال للإنسان الذي اتخذ مِنَ الصدق خطاً ثابتاً لا يحيد عنه، وكان ذلك بمثابة الطبع، وقد شهد له بذلك العدو والصديق، والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف الدالة على شهادة المشركين له صلى الله عليه وسلم بالصدق.
شهد الأنام بصدقه حتى العِدَا والحق ما شهدت به الأعداء
وكان أبغضَ الخلُق إليه الكذب كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
2 ـ الرحمة:
مِنْ أخلاق نبينا وسماته التي اتصف وتحلى بها الرحمة، التي شملت الصغير والكبير، والمؤمن والكافر، والطائع والعاصي، تلكم الرحمة التي كانت لا تنفك عنه أبدًا، لا في سِلم ولا في حرب، ولا في حَضر ولا في سفر، وقد سماه ربُّه رَؤوفاً رَحِيماً فقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128)، وقال عنه وعن رسالته وبعثته: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107). وكان صلوات الله وسلامه عليه شديد الرحمة بالأطفال (الأولاد والبنات)، فعن أنس رضي الله عنه قال: (والله ما رأيتُ أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم. ولما أُتِيَ له برجل قد شرب الخمر، فقال بعض القوم: أخزاك الله! قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا هكذا! لا تعينوا عليه الشيطان، ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) رواه أبو داود وصححه الألباني. ولما قيل له ـ لشدة الإيذاء الذي وقع عليه من المشركين ـ: يا رسول الله ادْعُ على المشركين! قال: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّاناً، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رحمة) رواه مسلم. وبلغ من رحمته بالحيوان أن قال: (والشاةَ إنْ رَحِمْتَها رَحِمَك اللهُ، والشاةَ إنْ رَحِمْتَها رَحِمَك الله) رواه أحمد وصححه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع الرّحمة إلّا من شقيّ)، وقال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء).
3 ـ الرفق واللين:
عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم الرفق وتمثل به في سائر أحواله وشؤون حياته، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (ما خُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه) رواه البخاري. والرفق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم عام يدخل في تعامل الإنسان مع نفسه وأهله، وأقاربه وأصحابه، ومع من يشاركه في مصلحة أو جوار، وحتى مع أعدائه وخصومه، ومع من أخطأ أو وقع في المعصية، بل تجد رفق النبي صلى الله عليه وسلم يشمل الحيوان.
4 ـ معاملته لأهله:
الناظر في سيرته صلى الله عليه وسلم يجد أنه كان يحسن معاملة أهله، ويُولِيهم عناية فائقة ومحبَّة لائقة، فكان مع زوجاته حنوناً ودوداً، تجلّت فيه العواطف والمشاعر اللطيفة في أسمى مظاهرها وأجملها، فكان يُكرم ولا يهين، يُوجِّه وينصح، ولا يعنِّف ويَجْرَح، يواسي ويخفف عن زوجته حين حزنها وبكائها، ويرقيها حين مرضها. ومِن حُسْن معاملته صلى الله عليه وسلم لأهله مَدْحُهنَّ، والثناء عليهنَّ، وبيان فضلهنَّ، وحفظ ودّهنَّ، واعترافه بِجَمِيلهنَّ حتى بعد وفاتهنَّ، وإحسانه معاملة أهل زوجته والمقرَّبين منها. وكان يستمع لهن، وربما يعاتِبْنَه ويغِرْن عليه، ويقابل ذلك بالصبر والإحسان، وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وجعل حُسْنَ معاملة وعشرة الزوجة معياراً من معايير خيرية الرجال، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). قال ابن كثير: "وكان من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه".
5 ـ معاملته لأصحابه:
في معاملته صلى الله عليه وسلم لأصحابه من حُسن الخُلق والحُب ما لا يخفي، فكان يتواضع معهم، ويجيب دعوتهم، ويزور مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويدعو لهم ولأبنائهم، ويبتسم دائما في وجوههم ويمازحهم، ويشفق عليهم ويشاركهم في مشاعرهم، ويشعر بآلامهم وآمالهم، ويقف معهم في أحزانهم وأفراحهم، ويسعى في قضاء حوائجهم، ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويعطى كلَّ مَنْ جالسه نصيبه من العناية والاهتمام، حتى يظن جليسه أنه ليس أحدٌ أكرم منه، وكان ولا يواجه أحداً منهم بما يكره. عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسع الناس صدرا، وألينهم عريكة (أسهلهم وأحسنهم طبعا)، وأكرمهم عشيرة، وكان يمازح أصحابه، ويخالطهم ويحادثهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحرّ والعبد، والأَمَة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة". وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم".
6 ـ أدبه صلى الله عليه وسلم:
الأدب هو استعمال ما يُحمد من الأقوال والأفعال، والأخذ بمكارم الأخلاق، قال ابن حجر:" الأدب: استعمال ما يُحمد قولاً وفعلاً"، وقال ابن القيم: "الأدب اجتماع خصال الخير في العبد"، ومن المعلوم أن نبينا صلى الله عليه سلم أفضل الناس خُلُقاً، وأجملهم أدباً، ولم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا لعاناً ولا صخاباً في الأسواق، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحّشاً، ولا صخّاباً في الأسواق). قال المباركفوري: "(لم يكن فاحشا) أي: ذا فحش في أقواله وأفعاله، (ولا متفحشا) أي: متكلفا فيه ومتعمدا كذا في النهاية، قال القاضي: نفت عنه تولي الفحش والتفوه به طبعا وتكلفا، (ولا صخابا) أي: صياحا".
7 ـ تواضعه:
حاز نبينا صلى الله عليه وسلم من الأدب أعلاه وأكمله، وكان تواضعه مظهراً من مظاهر أدبه وحُسن خلقه، فكان أكثر الناس تواضعاً، وألينهم جانباً، وكان لا ينزع يده ممن يصافحه حتى ينزعها الذي يسلم عليه، ويزور الضعفاء والفقراء من المسلمين، ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم، والسيرة النبوية مليئة بالمواقف في ذلك، وما حُفِظ عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه اغتر بنصر أو قوة، أو أنه تكبر على أحَد، أو فاخر بنفسه ومكانته، مع أنه انتصر في غزوات كثيرة، وحظي عند ربه بأعلى المقامات، فهو صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والمقام المحمود، وأُسْرِيَ به إلى السماوات العُلى حتى بلغ سدرة المنتهى، ومع ذلك كان يقول: (لا تُطروني (لا تجاوزوا الحدَّ في مدحي) كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) رواه البخاري. ولما جاءه رجل ترعد فرائصه خوفاً قال له: (هوِّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد (اللحم المُجفف في الشمس وليس الطازج)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
8 ـ عفوه صلوات الله وسلامه عليه:
لقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم مِنَ العفو كما له مِنْ كل خُلق أعظمه وأكمله، ومع ذلك كان يغضب للحق إذا انتهكت حرماته، وفيما عدا ذلك فهو أحلم الناس وأعفاهم عن جاهل لا يعرف أدب الخطاب، أو مسيء لا يعرف قدْرَه ومنزلته، أو كافر يريد إيذاءه وقتله، وكان عفوه دائماً عجيباً يفوق الحد الذي يتصوره الإنسان، خاصة وأن عفوه كان مع القدرة على البطش والانتقام ممن أساء إليه. وكثيرا ما كان لأسلوب وخُلُق العفو الذي كان يتحلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآثار الإيجابية التي تغير من اتجاه النفسية التي جاء بها من يريد إيذاءه، فقد كان يأتي الكافر وفي نيته قتله فيعود وليس على وجه الأرض أحب إليه منه، وكان يأتي أحدهم وليس على وجه الأرض مَنْ هو أبغض له مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم ويعود وليس على وجه الأرض مَنْ هو أحب إليه منه، لِمَا يراه من عفوه وإحسانه. وكان من وصفه وصفاته كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها: (ولا يجزى بالسّيّئة، ولكن يعفو ويصفح)، قال القاضي عياض: "ولا يجزي بالسيئة السيئة، بل بالحسنة، (ولكن يعفو) أي: في الباطن، (ويصفح) أي: يعرض في الظاهر عن صاحب السيئة لقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}(المائدة:13)".
السيرة النبوية زاخرة بالمواقف المضيئة التي تبين عظيم خُلُق نبينا صلى الله عليه وسلم، ومِنْ ثم ستظل أخلاقه منهجا ونبراسا للأمة الإسلامية حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها، ولئن انتقل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه، فإن سيرته وحياته وتعاليمه باقية وشاهدة على سمو ورفعة أخلاقه، فينبغي علينا اتباعه والاقتداء به كما قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(الأحزاب:21). قال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله".