الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحَشْرُ يوم القيامة

الحَشْرُ يوم القيامة

الحَشْرُ يوم القيامة

الحَشْر يوم القيامة يأتي بعد البعث، فالناس يُبعَثون أولا، ثم يُحْشَرون. والحشر لغة: الجَمْع. وشرعا واصطلاحا: جمْع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم.. قال الأصفهاني: "الحشر: إخراج الجماعة مِنْ مقرهم، وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها". وعرفه القرطبي في "التذكرة" بأنه الجمع. وقال الأزهري في "تهذيب اللغة" نقلاً عن الليث: "الحشر: حشر يوم القيامة". ثم ذكر أن من معانيه وروده بمعنى الجمع الذي يحشر إليه القوم. وقال ابن حجر في "فتح الباري" في بيان معنى الحشر: أنه "حشر الأموات من قبورهم وغيرها بعد البعث جميعاً إلى الموقف قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}(الكهف:47)".
وقال السفاريني الحنبلي في "لوامع الأنوار البهية": "الحشر في اللغة الجَمْع، تقول حشرْتُ الناسَ إذا جمعتُهم، والمراد به جمع أجزاء الإنسان بعد التفرقة ثم إحياء الأبدان بعد موتها. واعلم أنه يجب الجزم شرعا أن الله تعالى يبعث جميع العباد ويعيدهم بعد إيجادهم بجميع أجزائهم الأصلية وهي التي من شأنها البقاء من أول العمر إلى آخره ويسوقهم إلى مَحْشَرِهِم لفصل القضاء، فإن هذا حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.. وتقدم أن الأنبياء تأتي بما تدركه العقول أو تتحير فيه ولا تأتي بما تحيله العقول أبدا، فتأتي بمحارات العقول لا بمحالات العقول، وإمكان المعاد لأنه إما إيجاد ما انعدم أو جمع ما تفرق أو حيي بعد ما أميت، وهذه كلها ممكنة لا إحالة في شيء من ذلك أصلا مع ما تواتر من أخبار الأنبياء والكتب السماوية ولا سيما في القرآن العظيم والذكر الحكيم.. والآيات في ذلك كثيرة جدا. وأما الأحاديث فكثيرة جدا".
وقال الشيخ ابن عثيمين: "والحشر لغة: الجمع، وشرعًا: جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم.. والبعث والحشر حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين".

مِنْ أعظم وأشد أهوال يوم القيامة التي يجب الإيمان بها والاستعداد لها موقف الحشر، حيث يجمع الله عز وجل الخلائق جميعا إلى مكان الحساب الذي فيه يحاسبون، ويعرف كل مصيره، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}(الواقعة:50:49). قال الطبري: "يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء إن الأوّلين مِنْ آبائكم والآخرين منكم ومن غيركم، لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم، وذلك يوم القيامة". وقال السعدي: "أي: قل إن متقدَّم الخَلْق ومتأخرهم، الجميع سيبعثهم الله ويجمعهم لميقات يوم معلوم، قدره الله لعباده، حين تنقضي الخليقة، ويريد الله تعالى جزاءهم على أعمالهم التي عملوها في دار التكليف".
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على حشر الخلائق جميعا يوم القيامة كثيرة، ومن ذلك:

أولا: الآيات قرآنية:
1 ـ قال الله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}(الحجر:25:23). قال السعدي: "أي: هو وحده لا شريك له الذي يحيي الخلق من العدم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا ويميتهم لآجالهم التي قدرها {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} وليس ذلك بعزيز ولا ممتنع على الله فإنه تعالى يعلم المستقدمين من الخلق والمستأخرين منهم، ويعلم ما تنقص الأرض منهم وما تفرق من أجزائهم، وهو الذي قدرته لا يعجزها معجز فيعيد عباده خلقا جديدا ويحشرهم إليه".
2 ـ قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(البقرة:203). قال ابن كثير: "أي: تجتمعون يوم القيامة، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(المؤمنون:79)".
3 ـ وقال تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}(الكهف:47). قال السعدي: "يخبر تعالى عن حال يوم القيامة، وما فيه من الأهوال المقلقة، والشدائد المزعجة فقال: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} أي: يزيلها عن أماكنها، يجعلها كثيبا، ثم يجعلها كالعهن المنفوش، ثم تضمحل وتتلاشى، وتكون هباء منبثا، وتبرز الأرض فتصير قاعا صفصفا، لا عوج فيه ولا أمتا، ويحشر الله جميع الخلق على تلك الأرض، فلا يغادر منهم أحدا، بل يجمع الأولين والآخرين، من بطون الفلوات، وقعور البحار، ويجمعهم بعدما تفرقوا، ويعيدهم بعد ما تمزقوا، خلقا جديدا، فيعرضون عليه صفا ليستعرضهم وينظر في أعمالهم، ويحكم فيهم بحكمه العدل، الذي لا جور فيه ولا ظلم".
4 ـ وقال عز وجل: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}(ق:44). قال ابن كثير: "أي: تلك إعادة سهلة علينا، يسيرة لدينا". وقال الطبري: "{ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} يقول: جمعهم ذلك جمع في موقف الحساب، علينا يسير سهل".

ثانيا: الأحاديث النبوية:
1 ـ عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُحْشَرُ النَّاسُ يوم القيامة على أَرْضٍ بَيْضَاءَ، عَفْرَاءَ، كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ. قال سهل أوْ غَيْرُه: ليسَ فيها مَعْلَمٌ لأحَدٍ) رواه البخاري. وفي رواية مسلم: (ليسَ فيها عَلَمٌ لأحَدٍ). (عَفْرَاء): ليس بياضها بالنَّاصع، أو تَضرِب إلى الحُمرة قليلًا، أو خالصة البياض أو شديدته، كَقُرْصَةِ خبزٍ نقيٍّ سالمٍ دقيقُه من الغشِّ والنُّخالة. قال الطيبي: "قوله: (كقرصة النقي) تشبيه بها في اللون والشكل دون القدْر، و(النقي): الدقيق المنخول المنظف". قال النووي: "(ليس فيها علم لأحد) هو بفتح العين واللام أي ليس بها علامة سُكْنَى أو بناء ولا أثر ". وقال ابن حجر: "وقال عياض: المراد أنها ليس فيها علامة سكنى ولا بناء ولا أثر ولا شيء من العلامات التي يهتدى بها في الطرقات".
2 ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (سَمِعْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ على المِنْبَرِ، يقول: إنكم مُلَاقُو اللَّه حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا) رواه البخاري. وفي رواية أخرى: (تُحْشَرُونَ حُفَاةً (لا نعال ولا خفاف)، عُرَاةً (ليس عليهم كسوة، بادية أبشارهم)، غُرْلًا (غير مختونين)، ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}(الأنبياء:104)). قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}: "يعني: هذا كائن لا محالة، يوم يعيد الله الخلائق خلقا جديدا، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم، وذلك واجب الوقوع، لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل، وهو القادر على ذلك. ولهذا قال: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}.. عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: (إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلا، كما بدأنا أول خلق نعيده، وعدا علينا إنا كنا فاعلين)".
3 ـ وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوم القِيامَةِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا. قُلتُ (عائشة): يا رسول الله، النِّساءُ والرِّجالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ؟! قال صلى الله عليه وسلم: يا عائِشَة، الأمْرُ أشَدُّ مِن أنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْض) رواه البخاري ومسلم. قال الشيخ ابن عثيمين: "يعني أن الله يحشرهم كما بدأهم أول خلق، يخرجون من بطون الأرض كما خرجوا من بطون أمهاتهم، حفاة عراة غرلا".
هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وما جاء في مَعناها تقرر أنَّ الناس جميعا بعد موتهم يُبعثون ويُحشَرون في صعيدٍ واحدٍ لا يتأخَّر عنه أحد..

مِنْ عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يؤمنون بأن الله عز وجل يجمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم، وأن الناس جميعا يُحْشَرون حفاة عراة غرلاً كما بدأ الله عز وجل أول خلق يعيده، فيكونون حفاة عراة غرلاً. قال ابن كثير: "فأوَّل يوم القيامة النَّفخُ في الصُّور نفخة الفزع والصَّعق، ثم نفخة البعث التي تعودُ فيها الأرواح إلى الأجساد فتحيا، ثم تُحشَر الخلائقُ إلى ربِّ العِباد، والصُّور هو القَرن الذي ينفُخ فيه إسرافيل عليه السلام". وقال ابن تيمية في "الواسطية": "وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً". وقال الشيخ ابن عثيمين: "والبعث والحشر حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين".
الإيمان بالبعث والحَشْر والجزاء مِنْ أصول الإيمان، فإنَّ الله تعالى يجمَع بقُدرته ما تفرَّق من أجساد الأموات ويعيدُها كما كانت، ثم يعيدُ الأرواح إليها، ثم يشقُّ الأرضَ عنها، ثم يسوقُها إلى المَحْشر، للقضاء بين الخَلْق بالحق، ومحاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة