الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أوَّل مَنْ يَدْخُل الجَنَّة

أوَّل مَنْ يَدْخُل الجَنَّة

أوَّل مَنْ يَدْخُل الجَنَّة

الجنة دار الله ودار كرامته، فيها نعيم لا مثيل له، وفيها ما لا عينٌ رأَت، ولا أذُنٌ سمعَت، ولا خطَر على قَلبِ بَشَر. والجنة هي الجزاء العظيم، والثواب الجزيل، الذي أعده الله تعالى لأوليائه وأهل طاعته.. وقد جاء وصف الجنة في الكثير من الآيات القرآنية، ومن ذلك قول الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا}(الرعد:35)، وقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}(محمد:15).. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يُخْبِر عنِ الجنَّة بما يُشوِّقُ النُّفوسَ إليها، ويَشحَذُ الهِمَمَ لطلبها والسعي لها. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أعددْتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بَشر، مصداق ذلك في كتاب الله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(السجدة:17)) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُنادِي مُنادٍ (عَلى أَهْل الجنَّة): إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبْأسوا أبداً، فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(الأعراف:43)) رواه مسلم.
ونبينا مُحمَّد صلى الله عليه وسلم هو أول الخَلْق دُخولًا إلى الجنَّة، وهو المأمورُ به أنْ يُفتَحَ له بابُ الجنَّة أوَّلًا دون غيره من جميع الأنبياء والرسل، وفي ذلك بَيانٌ للتَّكريمِ الرَّبَّانيِّ لنبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه بتَخصيصِه بأوَّليَّةِ الدُّخول إلى الجَنَّة، وألا تُفتح الجنة لأحدٍ قَبْله..

أول مَنْ يدخل الجنة مِن الخَلْق جميعاً:

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء والرسل، بلْ هو خير خَلْق الله أجمعين، فهو الرسول المُصطفى، والنبي المُجْتَبَى، ختم الله به أنبياءه ورسله، واختصه دون غيره من الأنبياء والرسل بفضائل وخصائص كثيرة، تشريفاً وتكريماً له، مما يدل على جليل قدْره وعلو منزلته عند ربه عز وجل، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}(البقرة: 253). قال السعدي: "فكل الأنبياء لو أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع) رواه مسلم. قال النووي: "وهذا الحديث دليل لتفضيله صلى الله عليه وسلم على الخَلق كلهم". وقال القاضي عياض: "تقرر من دليل القرآن وصحيح الأثر وإجماع الأمة كونه صلى الله عليه وسلم أكرم البشر وأفضل الأنبياء". وقال ابن كثير: "فهو صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، قَطْعاً جَزْماً لا يحتمل النَّقِيض".
ومن فضائله وخصائصه التي فضله واختصه الله عز وجل بها أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أول مَنْ يدخل الجنة، والأحاديث النبوية الصحيحة في ذلك كثيرة، ومنها:
1 ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أكْثَرُ الأنْبِياءِ تَبَعًا يَومَ القِيامَةِ، وأنا أوَّلُ مَن يَقْرَعُ بابَ الجَنَّة) رواه مسلم.
قال المناوي: "(وأنا أول من يَقْرَع بَاب الْجنَّة) أَي يطرقه للاستفتاح فَيفتح لَهُ فَيكون أول دَاخل". وقال الصنعاني: "(وأنا أول من يقرع باب الجنة) أي فيفتح له كما أفاده غيره، فهو إعلام بأنه أول داخل لها ".
وقال الهروي: "(وأنا أول مَنْ يقرع): بفتح الراء أي: يدق ويستفتح (باب الجنة) أي: فيفتح له مدخلها".
2 ـ عن أَنَسِ بْنِ مَالِك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتفْتِح (أطلبُ الفتح)، فَيَقُولُ الْخَازِن: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُول: مُحَمَّد، فَيَقُول: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَك) رواه مسلم.
قال البغوي في "شرح السنة": "(آتي باب الجنة يوم القيامة، فأَستَفْتِح) أي: أطلب الفتح. (فيقول الخازن: مَن أنت؟): الاستفهام بمعنى السؤال، (فأقول: مُحمد، فيقول: بِكَ أُمرتُ) يعني: أُمرتُ بأن أفتح لك باب الجنة أولاً. (لا أفتح لأحد قبلك)".
وفي "الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم": "(آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح) أي: أطلب فتحه من خازن الجنة، (فيقول الخازن) لي: (مَنْ أنتَ؟) أيها المُسْتَفْتِح، (فأقول) له أنا (مُحَمَّد) خاتم الأنبياء والمرسلين، (فيقول) الخازن لي (بك) أي بالفتح لك (أُمِرْتُ) من جانب ربي (لا أفتح) أي: وأُمرت أن لا أفتح (لأحد قبلك) تكرمة من الله سبحانه لك يا محمد".
وقال ابن تيمية: "(بك أمِرْتَ ألا أفتح لأحدٍ قبلك) وهذا مِن فضائله صلى الله عليه وسلم، ومما شرفه الله به وخصه".
3 ـ روى الإمام أحمد عَنْ أَنسٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنِّي لَأَوَّلُ النَّاسِ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِي (عظم الرأس المشتمل على الدماغ، والمراد هاهنا: الرأس، بل تمام البدن) يَوْمَ الْقِيَامة، ولَا فَخْرَ، وأُعْطَى لِوَاءَ الْحَمْد، وَلَا فَخْر، وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْم الْقِيَامة، وَلَا فَخْر، وأنَا أَوَّلُ مَنْ يَدْخُل الْجَنَّةَ يوْم الْقيامة، ولَا فَخْر، ولا فخر، وأنا سيِّدُ النَّاس يوم القيامة، ولا فَخر، وأنا أَوَّل مَن يدخُل الجَنَّة يوم القيامة، ولا فَخر، وإنِّي آتي بابَ الجَنَّة، فآخُذُ بحَلقَتِها (ما يوضَع على الباب ليُطرَقَ بها الباب)، فيقولون: مَن هذا؟ فأقول: أنا محمَّدٌ، فيَفتَحون لي، فأدخُل).
هذه الأحاديث وما شابهها مِن أحاديث نبوية صحيحة يُخبِرُنا النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنَّه سيَأتي إلى الجنَّة يَوم القيامة حتَّى يَقف عند بابِها، فيَدُقُّ ويقرَع الباب ويَطلُب أن يُفتَحَ له، فيسألُه الخازِن - وهو حافِظُها وحارِسُها -: مَن أنتَ الَّذي يَقرَع الباب؟ فيُجيبُه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيقول: مُحَمَّد، وهذا هو اسمُه المَعروف به، وسُؤالُهم سُؤالُ استيضاحٍ للطارِق، فإذا عَلِموا أنَّه المأمورُ به، (فيَفتَحونَ لي، فأدخُل)، وفي رواية: فيَقول الخازِنُ عِندما يَسمَعُ اسمَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (بِكَ أُمِرْتُ، لا أَفْتَحُ) بابَ الجنَّة (لأحدٍ قَبْلكَ) حتَّى يكون أنتَ أوَّل مَن يدخلها، وفي هذا بَيانٌ للتَّكريمِ الرَّبَّانيِّ لنبيِّنا مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بتخصيصه بأوَّليَّة الدُّخول إلى الجَنَّة..

أمة الإسلام أول الأمم في دخول الجنة:
مِن جملة الخصائص والفضائل التي أكرم الله عز وجل بها نبينا صلى الله عليه وسلم: أن جعل أمته خير الأمم وأحسنها وأفضلها، واختصها بخصائص وكرامات كثيرة في الدنيا والآخرة، وذلك إكراماً وتشريفاً لنبيها محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(آل عمران:110). وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيتُ ما لم يُعْط أحد من الأنبياء، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ قال: نُصِرْتُ بالرعبِ، وأُعطيتُ مفاتيح الأرض، وسُميتُ أحمد، وجُعلَ الترابُ لي طهوراً، وجُعلت أمّتي خير الأمم) رواه أحمد.
وأمتنا وإنْ كانت آخر الأمم زمانا في الدنيا، فهي سابقة لهم في الفضل والمنزلة، وهي شاهدة على جميع الأمم، وشريعتها وكتابها لا يُنسخان إلى يوم القيامة، وكل الأمم مأمورة أن تدخل في دينها، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ}(آل عمران:85). وعن معاوية القشيري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّكُم وفَّيتُمْ سبعين أمّة، أنتُمْ خيرها، وأَكْرمُها على اللَّه) رواه ابن ماجه.
ومِن هذه الفضائل والخصائص التي اختص الله عز وجل بها أمتنا الإسلامية: أنها أول الأمم في دخول الجنة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَومَ القِيامَةِ، ونَحْنُ أوَّلُ مَن يَدْخُلُ الجَنَّةَ، بَيْدَ أنَّهُمْ (من أجل أنهم) أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِنا، وأُوتِيناهُ مِن بَعْدِهِمْ، فاخْتَلَفُوا، فَهَدانا اللَّهُ لِما اخْتَلَفُوا فيه مِنَ الحَقّ) رواه مسلم.
قال النووي: "قال العلماء: معناه الآخرون في الزمان والوجود السابقون بالفضل ودخول الجنة، فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم".
وقال ابن حجر: "والمراد أن هذه الأمة وإنْ تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية فهي سابقة لهم في الآخرة بأنهم أول مَن يُحشر، وأول مَنْ يحاسَب، وأول من يقضى بينهم، وأول مَنْ يدخل الجنة".
وقال القاضي عياض: "قوله: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) قيل: الآخرون في الزمان السابقون بالفضل، وأول من يقضى بينهم يوم القيامة، ويدخل الجنة قبل سائر الأمم".
وقال ابن الجوزي: "نحن الآخرون في الزمان، السابقون في دخول الجنة".
وقال ابن رجب: "قوله: (نحن الآخرون) يعني: في الزمان، فإنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأمته آخر الأمم. وقوله: (السابقون) يعني: في الفضل والكرامة على الله، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(آل عمران: 110)".
وقال ابن القيم في "حادي الأرواح": "فهذه الأمة أسبق الأمم خروجا مِن الأرض، وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف، وأسبقهم إلى ظل العرش، وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم، وأسبقهم إلى الجواز على الصراط، وأسبقهم إلى دخول الجنة، فالجنة محرمة على الأنبياء حتى يدخلها محمد صلى الله عليه وسلم، ومُحَرَّمة على الأمم حتى تدخلها أمته".

اختصّ الله عزّوجل نبيه مُحمداً صلى الله عليه وسلم بخصائص وفضائل كثيرة في الدنيا والآخرة ليست لسائر الأنبياء والرسل، لإظهار مكانته وعلوّ منزلته مِن جهة، وبيان شرف أمته على غيرها من الأمم من جهة أخرى.. ومِن هذه الخصائص: أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول من يدخل الجنة، وأنَّ أمته هي أول الأمم في دخول الجنة، وفي ذلك دلالة على جليل قدره وعلو منزلته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عند ربه عز وجل..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة