الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المطلق والمقيد في القرآن

المطلق والمقيد في القرآن

المطلق والمقيد في القرآن
ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة نصوص مطلَقَة بأوامر ونواهٍ مختلفة غير مقيَّدَة بصفة معينة، أو حال مخصوصة، أو غاية محدَّدَة.
وترد في القرآن والسُّنَّة أيضًا نصوص مقيَّدَة بقيود معتبرة في تقرير الحكم، لحكمة سامية، ينص عليها الشارع حينًا، ويترك التنصيص عليها حينًا؛ ليدرب العقول على استنباطها بالقرائن الملحوظة من سياق الكلام، أو من العرف اللغوي، أو العرف الشرعي، أو العرف العادي.
وفي الأحكام المطْلَقَة والمقيَّدَة رعاية لمصالح العباد في العاجل والآجل بوجه عام.
والكلام في المطلق والمقيد مبسوطٌ في كتب الأصول، نكتفي منه هنا بذكر تعريف كلٍّ منهما، ونبيِّنُ خلاف العلماء بإيجاز في حمل المطلَقِ على المقيد، وهي أهم مسألة في هذا الموضوعي.
تعريف المطلق والمقيد
المطلق: هو ما دلَّ على الحقيقة بلا قيد. أو هو كما قال الشوكاني: "ما دلَّ على الماهية بلا قيد من حيث هي هي، من غير أن تكون له دلالة على شيء من قيوده". وقال الآمدي في تعريف المطلق: "هو عبارة عن النكرة في سياق الإثبات.
فقوله: "نكر ة"، احتراز عن أسماء المعارف، وما مدلوله واحد معين، أو عام مستغرق.
وقوله: "في سياق الإثبات"، احتراز عن النكرة في سياق النفي، فإنها تعمُّ جميع ما هو من جنسها، وتخرج بذلك عن التنكير لدلالة اللفظ على الاستغراق، وذلك كقولك في معرض الأمر: "اعتق رقبة"، أو مصدر الأمر كقوله: {فتحرير رقبة} (المجادلة:3)، أو الإخبار عن المستقبل كقوله: "سأعتق رقبة"، ولا يتصور الإطلاق في معرض الخبر المتعلِّق بالماضي كقوله: "رأيت رجلًا" ضرورة تعينه من إسناده الرؤية إليه.
وإن شئت قلت: هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه.
فقولنا: "لفظ" كالجنس للمطلق وغيره، وقولنا: "دال" احتراز عن الألفاظ المهملة، وقولنا: "على مدلول" ليعمَّ الوجود والعدم، وقولنا: "شائع في جنسه" احتراز عن أسماء الأعلام، وما مدلوله معيَّن أو مستغرق.
وأما المقيد فإنه يُطْلَقُ باعتبارين:
الأول: ما كان من الألفاظ الدالة على مدلولٍ معين، كزيد وعمرو، وهذا الرجل، ونحوه.
الثاني: ما كان من الألفاظ دالًّا على وصفٍ، مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه، كقولنا: دينار مصري، ودرهم مكي. وهذا النوع من المقيَّد، وإن كان مطلقاً في جنسه من حيث هو دينار مصري، ودرهم مكي، غير أنه مقيَّد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم، فهو مطلق من وجهٍ ومقيَّدٌ من وجه".
حكم حمل المطلق على المقيد
المطلق والمقيد إذا وردا: فإما أن يكون حكم أحدهما مخالفاً لحكم الآخر، أو لا يكون.
والأول: مثل أن يقول الشارع: "آتوا الزكاة، وأعتقوا رقبة مؤمنة". ولا نزاع في أنه لا يحمل المطلق على المقيد ههنا؛ لأنه لا تعلُّق بينهما أصلًا.
وأما الثاني: فلا يخلو إما أن يكون السبب واحداً، أو يكون هناك سببان متماثلان، أو مختلفان.
أ- فإن كان السبب واحدًا: وجب حمل المطلق على المقيد؛ لأن المطلق جزء من المقيَّد، والآتي بالكل آتٍ بالجزء لا محالة، فالآتي بالمقيَّد يكون عاملًا بالدليلين، والآتي بغير ذلك المقيَّد لا يكون عاملاً بالدليلين، بل يكون تاركاً لأحدهما. والعمل بالدليلين -عند إمكان العمل بهما- أولى من الإتيان بأحدهما، وإهمال الآخر.
ب- واختلفوا في الحكمين المتماثلين، إذا أطلق أحدهما وقُيِّدَ الآخر، وسببهما مختلف؛ مثاله: تقييد الرقبة في كفارة القتل بالإيمان {فتحرير رقبة مؤمنة} (النساء:92) وإطلاقها في كفارة الظهار {فتحرير رقبة} (المجادلة:3).
فالشافعية يقولون: تقييد أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظاً.
والحنفية يقولون: إنه لا يجوز تقييد هذا المطلق بطريق ما البتة.
احتجَّ الشافعية على ما ذهبوا إليه بأن المطلق والمقيَّد كالعام الذي يحتمل الخصوص، والمجمل الذي يحتمل البيان، فإذا ورد مطلَق ومقيَّد وجب أن يكون الثاني مبيناً للأول. ويكون كلا النصين بمنزلة نص واحد، كالنص المجمَل مع النص المبين، حتى لا يؤدي إلى التناقض. وقالوا أيضاً: "إن كلام الله تعالى متحد في ذاته، لا تعدَّد فيه، فإذا نصَّ على اشتراط الإيمان في كفارة القتل، كان ذلك تنصيصاً على اشتراطه في كفارة الظِّهار.
وضعَّف الإمام الرازي في "المحصول" قول الشافعية بقوله: "لأن الشارع لو قال: أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة، وأوجبت في كفارة الظِّهار رقبة كيف كانت، لم يكن أحد الكلامين مناقضاً للآخر، فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظًا".
وما احتجُّوا به من أن القرآن متحدٍّ في ذاته، فقد فنَّده الرازي وغيره من علماء الأصول، وحاصل ما ذكروه أنه لا يلزم من عدم حمل المطلَق على المقيَّد تناقض إذا كانت الأحكام مختلفة في أسبابها.
فكفارة الظِّهار تختلف عن كفارة القتل من حيث السبب، ومن حيث الجرم، وتتابع الصيام في الظِّهار بخلاف الصوم في كفارة اليمين، فليس مَنْ حَنَثَ في يمينه كالذي ظاهر في امرأته.
فالأول: يجوز له الحنث في اليمين إن حلف على شيء ورأى غيره خيراً منه، ولهذا لم يشترط الشارع التتابع في كفارته بالصوم.
والثاني: أتى منكراً من القول وزوراً، فشُدِّدَت عليه العقوبة؛ فأُمِرَ بصيام شهرين متتابعين، إن لم يجد رقبة يعتقها.
ولو كان عدم حمل المطلَق على المقيَّد يؤدي إلى التناقض في القرآن، لوجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاصٍّ ومقيَّد.
وأما الحنفية فقد احتجوا على ما ذهبوا إليه بقولهم: "إن حمل المطلَق على المقيَّد، خلاف عُرْفِ أهل اللغة، بل في عرفهم إجراء المطلق على إطلاقه، والمقيَّد على تقييده؛ فإن من قال لآخر: "أعتق عبيدي"، ثم قال بعد ذلك: "أعتق عبدي الأبيض"، فله أن يعتق أيَّ عبد شاء، ولا يتقيَّد بالأبيض. وكذا من قاله لامرأته: "إن دخلت الدار فأنت طالق"، ثم قال بعد ذلك: "إن دخلت الدار راكبة فأنت طالق"، فدخلت راكبة أو ماشية يقع الطلاق، ولا يتقيَّد المطلق بصفة الركوب.
وإذا كان عُرْفُ أهل اللسان هذا يجب حمل كتاب الله تعالى وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم على المتعارف؛ لأن كلام الله تعالى نزل بلغة العرب على حسب عاداتهم؛ قال الله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (إبراهيم:4)، والرسول صلى الله عليه وسلم منهم, فيكون كلامه محمولًا على تعارفهم في الأصل؛ ولأن في هذا نسخ المطلق، لأن النسخ ليس إلا بيان انتهاء مدة الحكم.
أمثلة على تقييد المطلق
ومن أمثلة تقييد المطلق على مذهب القائلين به، تقييده ميراث الزوجين بقوله سبحانه: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} (النساء:12) وإطلاقه الميراث فيما أطلق فيه. وكذلك ما أطلق من المواريث كلها بعد الوصية والدين، وكذلك ما اشترط في كفارة القتل من الرقبة المؤمنة، وإطلاقها في كفارة الظهار واليمين، والمطلق كالمقيد في وصف الرقبة. وكذلك تقييد الأيدي بقوله {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (المائدة:6) في الوضوء وإطلاقه في التيمم {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (المائدة:6). وتقييد إحباط العمل بالردة بالموت على الكفر في قوله: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} (البقرة:217) وأطلق في قوله: {ومن يكفر بالأيمان فقد حبط عمله} (المائدة:5). وتقييد تحريم الدم بالمسفوح في الأنعام {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا} (الأنعام:145) وأطلق فيما عداها {إنما حرم عليكم الميتة والدم} (البقرة:173).
هذا، وما تقدم إنما محله إذا كان الحكمان بمعنى واحد، وإنما اختلفا في الإطلاق والتقييد؛ فأما إذا حكم في شيء بأمور ثم في آخر ببعضها وسكت فيه عن بعضها فلا يقتضي الإلحاق، كالأمر بغسل الأعضاء الأربعة في الوضوء {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (المائدة:6)، وذكر في التيمم عضوين {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (المائدة:6)، فلا يقال بالحمل ومسح الرأس والرجلين بالتراب فيه أيضاً، وكذلك ذكر العتق والصوم والإطعام في كفارة الظهار {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير * فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا} (المجادلة:3-4)، واقتصر في كفارة القتل على الأولين {وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} (النساء:92)، ولم يذكر الإطعام، فلا يقال بالحمل وإبدال الصيام بالطعام.
ومن هنا قال العلماء: متى وجد دليل على تقييد المطلق صير إليه، وإلا فلا بل يبقى المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده؛ لأن الله تعالى خاطبنا بلغة العرب.
وقد ذكر الزركشي في "البرهان": "أن العرب من مذهبها استحباب الإطلاق؛ اكتفاء بالمقيد وطلباً للإيجاز والاختصار".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة