الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

معينات تدبر القرآن الكريم

معينات تدبر القرآن الكريم

معينات تدبر القرآن الكريم

لا شك أن كنوز القرآن الكريم لا تفتح إلا لمن قرأ القرآن بتدبر وتمعن، ومما يعين على تدبر القرآن والوقوف على مراميه ومعرفة مقاصده جملة أمور، نجملها في النقاط الآتية:

أولاً: التحرز من التعلق بالإسرائيليات الواردة في بعض التفاسير؛ وذلك بتوفر الإرادة الذاتية للتدبر، والتحرر من الأخطاء الموجودة في بعض التفاسير، التي نزَّلت القرآن على حاجات أولئك الناس وفق روح عصرهم المختلف عن عصرنا.

ثانياً: الاستماع وإخلاء بيئة القراءة من شواغل الدنيا، وذلك بحسن الاستماع والإنصات بجناحي العقل، وعدم الانشغال بالملهيات المختلفة عن القرآن.

ثالثاً: قراءة القرآن بالتأني، وذلك بالترتيل الذي يقدم قيمة التدبر على تحقيق الإنجاز، بمعنى تقديم الكيف على الكم، وقد وجَّه سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالقراءة المسترسلة: {ورتل القرآن ترتيلا} (المزمل:4) أي: لا تعجل بقراءة القرآن، بل اقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني. ووجَّهه أيضاً بقوله: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} (القيامة:16) فهذا توجيه واضح من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللأمة من بعده بالتمهل وعدم التعجل. ومن التوجيهات في هذا السياق كذلك قوله عز وجل: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما} (طه:114) وواضح هنا الربط بين التأني في قراءة القرآن وبين زيادة العلم؛ إذ العبرة من قراءة القرآن اكتساب العلم، وهذا لا يحصل إلا بالقراءة المتأنية والمتدبِّرة. ويقال مثل ذلك في قوله عز وجل: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} (الإسراء:106) وقوله سبحانه: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا} (الفرقان:32).

وقد جسَّد صلى الله عليه وسلم عمليًّا منهج الفرقان التدبري، فقد سُئل أنس رضي الله عنه عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (كان يمد مداً) فقراءته صلى الله عليه وسلم كانت تتسم دوماً بالمكث والاسترسال والتمهل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (لأن أقرأ سورة أرتلها، أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله). وعن مجاهد أنه سئل عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وآل عمران، والآخر البقرة وحدها، وزمنهما وركوعهما وسجودهما وجلوسهما واحد سواء، فقال: (الذي قرأ البقرة وحدها أفضل). وكان السلف رضوان الله عليهم يرددون الآية عشرات المرات، وأحياناً يردد أحدهم آية واحدة طيلة ليلة واحدة أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه أنه قام ليلة كاملة بآية يرددها حتى أصبح، هي قوله تعالى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة:118).

ومما يساعد على التدبر تكرار القراءة والمداومة عليها، قال الشيخ محمد عبده عند تفسيره لقوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم} (العلق:1-3) قال: "لما كانت القراءة من الملكات التي لا تكسبها النفس إلا بالتكرار، والتعود على ما جرت به العادة في الناس، ناب تكرار الأمر الإلهي عن تكرار المقروء في تصييرها مَلَكة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلهذا كرر الأمر بالقراءة".

رابعاُ: تفعيل جهاز الوعي عند قارئ القرآن من سمع وبصر وقلب وعقل، ومعرفة العربية الفصحى، التي تنزَّل بها القرآن، فمعرفة العربية لها شأن كبير في إدراك مقاصد القرآن. ويدخل في باب تفعيل جهاز الوعي الاهتمام بالتعليم التدبري للقرآن، لا بالتلقين الاستظهاري، وهذا ما كان عليه شأن الصحابة رضي الله عنهم ومن اهتدى بهديهم، وقد كان ابن عباس رضي لله عنه -وكان من أصغر الصحابة سناً- عالماً متفقهاً، وقد سئل: بمَ نلت هذا العلم. فقال: بلسان سؤول، وقلب عقول.

خامساً: حضور الخشوع القلبي والتفاعل الوجداني عند قراءة القرآن، وتهيئة القلب لاستنبات هدايات القرآن المختلفة على الوجه الأمثل والأقوم؛ فالقلب إذا كان مليئاً بالشبهات والشهوات، يصير تأثير القرآن عكسيًّا، فمن الضروري تنظيف القلب من الران الذي تتركه الذنوب، والابتعاد عن الأسباب المؤدية إلى وقوع القلب في آفتي الطبع والختم، وأيضاً البعد عن الرياء وتصحيح القصد بتجديد الإخلاص، وتحلية القلب بالإخبات والخشوع، والتفاعل الوجداني مع معاني الآيات؛ فمن الضروري أن تجيش العواطف مع القرآن، وفي الوقت ذاته لا بد لهذا الجيشان من الانضباط بمقاصد وتوجيهات القرآن. والذي ينفخ في الإنسان هذه العواطف والمشاعر، ويشحذ همته ويدفعه لمخر عباب الحياة، هو القرآن الكريم، وذلك عبر آليتي التدبر، وهما: التفهم والخشوع. والقلب يقوم عبر التفكر بدور الدفة التي تقود وتوجه الإنسان؛ فالقلب يدفع والعقل يقود، وكلاهما يحصل على طاقته وزاده من القرآن، ما يؤكد على ضرورة الجمع دوماً بين التدبر والخشوع.

سادساً: الإيمان والتلقي المتجدد؛ فترسيخ الإيمان بكل أركانه في القلب، وتحقيقه في واقع الحياة هو الغاية من نزول القرآن، وهو وسيلة أساس لتحصيل هداياته في الوقت نفسه؛ فكل هدايات القرآن ورحماته وبصائره، وكل ثماره التشريعية والخلقية والتربوية، إنما هي ثمار الإيمان القلبي الراسخ، والاعتقاد القلبي الجازم، ومن غير الإيمان لا يمكن تحصيل شيء من هذه الفوائد والثمار. كما أن الإيمان بصدقية القرآن وعظمته، والسعي لتحصيل ثماره، يقتضي الشعور بأن القرآن أنزل إليك اليوم، والشعور بأن القرآن أنزل الآن، يجعل القرآن جديداً في حس المسلم، ويكون أقرب على التنزيل العملي. ومن معينات الشعور بجدة القرآن، عدم اعتبار بعض التفاسير مرجعاً أساساً لفهم القرآن، بحيث لا يُرجع إليها إلا عند الضرورة القصوى؛ إذ لا بد أن يعيش المسلم مع القرآن مباشرة؛ لأن بعض التفاسير تشوه جدة القرآن من خلال حملها لمخلفات عصور خلت، وطبيعة حياة بادت، وظروف مجتمعات انقضت. ويدخل في هذا الباب تعظيم القرآن والتحلي بآداب التعامل معه، فتعظيم القرآن، والاحتفاء به من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها قارئ القرآن، حتى يستفيد من كنوز القرآن الاستفادة المرجوة؛ لأنه سبحانه لا يفتح كنوزه إلا لمن يعظم كتابه، ويتأدب مع كلامه.

سابعاً: تثوير القرآن ومدارسته أحد مفاتيح تدبر القرآن، التي يمكن من خلالها الولوج من بوابة التدبر إلى عالم الهداية القرآني، بشموله وعمومه وبركاته، وخيراته كلها، الفردية والاجتماعية والإنسانية. وقد جاء في الأثر: (أثيروا القرآن؛ فإن فيه خبر الأولين والآخرين). والمراد بمصطلح (التثوير) إثارة مفردات القرآن وتقليبها ودراستها بدقة، ومراجعة أصولها اللغوية، وتوجيهها في ضوء المقاصد العامة للقرآن، وفي ضوء حاجات الأمة اليوم، والتحديات التي توجهها. فطبيعة القرآن الاختزالية، وأسلوب صياغته اللغوية، ككتاب معجز وصالح لكل زمان ومكان، يقتضي مثل هذا التثوير، وذلك بالوقوف على لغة النص، وظرفية النص، ومقاصده، وعقليته، وواقعيته، وتجسيده على أرض الواقع. كما أن مدارسة القرآن وتلاقح الأفكار طريق من الطرق الموصلة لتدبره وفهمه، وقد ذكر ابن عاشور أن (الدراسة) في القرآن هي: القراءة بتمهل للحفظ، أو للفهم. والمدارسة تعني المشاركة والتفاعل بين مجموعة من المسلمين في محاولة قراءة آيات القرآن والوقوف على موضوعاته، ومعرفة قضاياه وفق منهج التدبر، الذي يستهدف تحقيق مقاصده، واستنباط معانيه الخفية، والبحث عن علله وأسراره.

ثامناً: القراءة الكلية الجامعة؛ فمن يقرأ القرآن بتمعن وتدبر يدرك بوضوح أن منهج الإسلام يحتم الجمع بين كتاب الله المسطور، وكتاب الله المنظور، مصداق ذلك قوله عز وجل: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} (فصلت:53) وقد ذهب الشيخ محمد عبده إلى أن أول متطلبات التدبر هو التعرف على أحوال البشر من خلال علمي التاريخ والاجتماع. كما أن للقراءة الكلية لكتاب الله المقروء والمنظور ثمار تتجلى في: تطوير علم الاجتماع الإسلامي، والاستفادة من الكسب العلمي في فهم القرآن، واستنقاذ الأمة من التشيع الفكري والسقوط الحضاري، وأسلمة المعرفة، واليقين بأن القرآن كلام الله المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد دعا القرآن نفسه مراراً وتكراراً إلى مداومة القراءة الكلية؛ إذ إن القرآن الكريم قد صِيغ بطريقة تصريف الآيات، أي أنه تعالى أودع أوامره ونواهيه، وعده ووعيده، تبشيره وإنذاره، في مواضع شتى وبأساليب مختلفة، وهذا داع من دواعي الدعوة إلى القراءة الكلية للقرآن. كما أن (التصريف) يقتضي التدبر، فهو الكفيل بوضع كل معنى في مكانه وزمانه المناسبين؛ ولذلك علل سبحانه تصريف الآيات بأمور عقلية وقلبية مرتبطة بمنظومة التدبر، قال سبحانه: {ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا} (الفرقان:50) وقال عز وجل: {ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا} (الإسراء:41). فالقراءة الكلية هي من مطلوبات الفهم، وهي ركن من أركان التدبر، حيث تعين الإنسان على تدبر كلام الله سبحانه، وتدفعه لاستيعاب معانيه، وتحصيل كمال الوعي بهدايته الشاملة له في دروب هذه الحياة. وكما أن القراءة الكلية تقوم على الجمع بين آيات الكتاب وآيات الآفاق الأنفس، فهي تقوم أيضاً على الجمع بين آيات الموضوع الواحد، والجمع بين التلقي والتنزيل.

تاسعاً: استثمار المعينات على التدبر؛ فثمة أمور عديدة يمكن لقارئ القرآن أن يستثمرها في تفعيل عملية التدبر لكتاب الله، تتمثل تلك الأمور في: الاستعاذة من الشيطان، قال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} (النحل:98) فإذا عاذ العبد بربه متوكلاً عليه، ومسنداً أموره إليه، فإن الله يعيذه من الشيطان، ويجيره منه، وقارئ القرآن لن ينجح في استمداد هداية القرآن العاصمة له من الشيطان ما لم يرتبط بالله، حينها تنفتح له أبواب التدبر والخشوع. وأهم وساوس الشيطان وتسويلاته منع قارئ القرآن من العيش مع القرآن بقلبه وعقله؛ ولذلك فإنه يكثر من الوسوسة لإغواء الإنسان، وثنيه عن التدبر في آيات الله، ومن هنا وجبت الاستعاذة بالله قبل القراءة؛ للإيواء إلى ركن ركين، حتى لا يُصرف عقل القارئ عن تدبر كتاب ربه.

ومن جملة الأمور التي ينبغي استثمارها لتفعيل عملية التدبر الاستعانة بالرحمن الرحيم؛ فإذا كانت الاستعاذة تقوم بدور التخلية بين الشيطان والعبد، فإن الاستعانة بالرحمن تقوم بدور التحلية والربط بين العبد وخالقه، فالبسملة استعانة من العبد الضعيف بقوة مطلقة تعينه على استمداد هداية القرآن. ولأهمية الاستعانة بالله في أمور العبادة كلها {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة:5) فقد كانت أول آية في القرآن دعوةً للقيام بهذا الأمر: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق:1)؛ فإن فعل القراءة لا يحقق المطلوب دون الاستعانة بالله، عبر الشعور به قلبيًّا، والنطق به لفظًّا، والالتزام به عمليًّا.

ومن بين الأمور التي يمكن استثمارها لتفعيل عملية التدبر أيضاً، الاعتناء بتجويد القراءة والنطق الصحيح، وثمة مهارات عديدة متصلة بالتجويد، لا بد لقارئ القرآن المتدبر أن يكون على بينة منها، حتى تساعده في زيادة فاعلية التدبر لكتاب الله سبحانه. كما أن مما يفيد في هذا الجانب الاستماع إلى أصوات القراء المتقنين لأحكام التجويد، إذ مما لا شك فيه أن للصوت المتقن والجميل دوراً مؤثراً في تدبر آيات الذكر الحكيم. كذلك فإن لتنويع طرق التلاوة والبعد عن الرتابة، ومراعاة السياقات الصوتية عند التلاوة له شأن لا يستهان به في أمر التدبر.

وهناك ظروف محددة، تتوافر فيها إمكانية التفاعل مع القرآن الكريم أكثر من غيرها، يمكن تلخيصها في: ظرف الصلاة: فقراءة القرآن في الصلاة لها طعم خاص، وقد أطلق سبحانه على صلاة الفجر مصطلح (قرآن الفجر) كما قال سبحانه: {إن قرآن الفجر كان مشهودا} (الإسراء:78) وفي السورة نفسها أطلق سبحانه مصطلح الصلاة على القراءة، فقال: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} (الإسراء:110) والمراد هنا قراءة القرآن، وهذا يبين مدى التداخل القوي بين الصلاة وقراءة القرآن، ومدى استفادة كل واحدة منهما من الأخرى، ما يجعل فاعلية التدبر في الصلاة مضاعفة، حيث تنفتح فيها أبواب قد لا تنفتح في غيرها.

وظرف الزمان أيضاً يسهم في تفعيل عملية التدبر لدى قارئ القرآن؛ فالقراءة في جوف الليل وفي الفجر لها تأثير لا يتأتى في غيرها من الأوقات؛ فأثر القرآن عظيم في هذين الوقتين، لا يدركه إلا من عاشه، وقد قال سبحانه: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} (الإسراء:79) وأمر سبحانه نبيه بقوله: {يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا} (المزمل:2). ويندرج في ظرف الزمان يوم الجمعة ويومي الاثنين والخميس، وشهر رمضان، فكل هذه الأزمنة فيها من البركات القرآنية ما ليس في غيرها، وقد ورد في كل آثار تدل على فضلها وأثرها على العبد.

ولا يقل ظرف المكان شأناً عن ظرف الزمان؛ فالمسجد أفضل الأماكن لقراءة القرآن وتدبره والتأثر بخطابه، لحرمته وبعده عن شواغل الحياة وصوارفها؛ ولأثره النفسي على العبد، وليس بخاف مكانة المساجد الثلاثة في هذا المقام.

والأهم في هذا السياق أن يستحضر العبد المقصد الأساس، وهو الانتفاع بالقرآن العظيم، فكل ظرف يساعده على تحقيق هذا المقصد، فإن الإقبال عليه والاستفادة منه متعين عليه.

عاشراً: تسليم مقاليد القيادة للقرآن؛ فالعمل بمقتضى القرآن هو الثمرة الغائية لقراءة القرآن وتدبره، والوقوف على مقاصده. وفي الوقت نفسه، فإن العمل بالقرآن هو مفتاح آخر من مفاتيح التدبر. ومن أجل الوصول إلى هذه الدرجة لا بد لقارئ القرآن أن يكون قد ارتضى من حيث المبدأ القرآن دستوراً ومنهاج حياة، وأن تتضافر رغبته وإرادته على تطبيق القرآن في حياته من قبل أن يتلقاه عبر منهج التدبر، كما ينبغي لقارئ القرآن -كما يقول سيد رحمه الله- أن يرجع إليه بشعور التلقي للعمل والتنفيذ، لا بشعور الدراسة والمتاع، ويرجع إليه ليعرف ماذا يطلب منه أن يكون ليكون.

على أن مهمة فريضة التدبر أن توضح للمسلم كيف يستسلم لأوامر الله ونواهيه في حدود شخصيته الفردية والأسرية والاجتماعية، وتبين له كيف يستسلم لأوامر الله ونواهيه في ميادين الإيمان (العلاقة مع خالقه) وميادين العمل الصالح (العلاقة مع الناس) في مجالات الحياة كلها.

ولا شك أن عدم تطبيق القرآن انحراف عن الصراط المستقيم، وقد أمر سبحانه باتباع صراطه المستقيم، ونبذ غيره من الطرق، {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام:153) فالصراط المستقيم الذي أمر الله باتباعه -بحسب اكثر المفسرين- هو القرآن الكريم، فإن لم القرآن هو الصراط ذاته، فهو الدال عليه، والهادي إليه.

ومن المقرر أن تدبر الحروف وسيلة لإقامة الحدود؛ وقد تضافرت أقوال السلف والخلف على ضرورة العمل بالقرآن، وعدم تحويله إلى نظريات وثقافات، فقد أوصى علي رضي الله عنه ذريته بقوله: (اللهَ اللهَ في القرآن، فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم)، كما حذر ابن مسعود رضي الله عنه من كثرة القراء وقلة الفقهاء العاملين، وانتقد محترفي قراءة القرآن من غير عمل، أي الذين يجعلون القراءة حرفة. وقال الحسن البصري: (إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، وينفذونها في النهار). وقد أورد ابن رجب في كتابه "جامع العلوم والحكم" أقوالاً عديدة عن السلف، تحث على العمل بالقرآن، وتحذر من عاقبة من جعل القرآن وراءه ظهريًّا.

ومحصل الأمر، أن القراءة المتدبرة هي التي تثمر الإيمان الصحيح، والأعمال الصالحة، وتربط العبد بخالقه، وتترجم القرآن إلى أعمال، فهو الغاية المرجوة من التدبر، مع لفت الانتباه إلى أن التدبر لا يراد لذاته، بل من أجل تزكية القلوب، وترقية السلوك، وتحسين العمل.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة