الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الهوى في القرآن الكريم (2)

الهوى في القرآن الكريم (2)

الهوى في القرآن الكريم (2)

مجالات اتباع الهوى

لاتباع الهوى مجالات متعددة، نتوقف عند أهمها:

أولاً: العقائد: أثر الهوى على عقيدة المرء عظيم وخطير؛ لأن العقيدة يتوقف عليها إيمان المرء من عدمه . وقد تحدث القرآن في هذا الصدد في أمرين: توحيد الله سبحانه، والإيمان باليوم الآخر، بيان ذلك:

1- توحيد الله: عبر القرآن عن متبع الهوى في العقائد، أن الهوى إله يُعبد من دون الله، قال تعالى: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} (الفرقان:43) أي: مهما استحسن من شيء، ورآه حسناً في هوى نفسه، كان دينه ومذهبه. وقد تحدث القرآن عن أثر اتباع الهوى في العقائد في غير ما موضع، قال سبحانه: {أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى * إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} (النجم:19-23) هذه الآيات جاءت في معرض التنديد بالمشركين، وبيان أن أوثانهم التي يعظمونها، إنما هي محض أسماء، ليس لها من الألوهية التي أثبتوها لها سوى اسمها، وأما معناها وحقيقتها فهي أبعد ما تكون عما وصفوها به، وما ذلك إلا لأنهم لم يأخذوا ذلك عن وحي جاءهم من الله، ولا عن رسول الله. قال ابن تيمية: "وأصل الضلال اتباع الظن والهوى، قال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} (النجم:23). فالهدى الذي جاءهم كان ظاهراً شديد الوضوح، ومع ذلك لم ينتفعوا به، وما ذلك إلا لشدة الهوى الذي في نفوسهم، ومتى انتهى الأمر إلى شهوة النفس وهواها، فلن يستقيم أمر، ولن يجدي هدى؛ لأن العلة هنا ليست خفاء الحق، ولا ضعف الدليل، إنما هي الهوى الجامح الذي يريد ما يريد، ثم يبحث بعد ذلك عن مسوغ لما يريد! وهي شر حالة تصاب بها النفس، فلا ينفعها الهدى، ولا يقنعها الدليل.

ومما يزيد أمر اتباع الهوى وضوحاً في توحيد الله، قوله تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون * بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين} (الروم:28-29) وهذا مثل واضح وظاهر وحاسم لا مجال للجدل فيه، فكان المتوقع أن تكون إجابتهم عقلية مساوية للحجة العقلية التي أوردتها الآية، وذلك بالإقلاع عن الشرك، وقبول الإيمان، بيد أن هذا لم يحصل منهم، ولذا جاء التعبير القرآني بحرف الإضراب (بل) ليكشف عن حقيقة القوم، وعن العلة الأصيلة في هذا التناقض المريب، {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم} إنه الهوى الذي لا يستند إلى عقل أو تفكير، والهوى لا ضابط له ولا مقياس. إنما هو شهوة النفس المتقلبة ونزوتها المضطربة، ورغباتها ومخاوفها، وآمالها ومطامعها التي لا تستند إلى حق، ولا تقف عند حد، ولا تزن بميزان، وهو الضلال الذي لا يرجى معه هدى، والشرود الذي لا ترجى معه أوبة.

2- اليوم الآخر: من المجالات التي ظهر فيها اتباع الهوى بشكل كبير، قال عز من قائل: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى} (طه:15-16) والإيمان باليوم الآخر منطقي ظاهر، وشواهده غاية في الوضوح، فالمجهول عنصر أساسي في حياة البشر وفي تكوينهم النفسي، فلا بد من مجهول في حياتهم يتطلعون إليه، ولو كان كل شيء مكشوفاً لهم -وهم بهذه الفطرة- لوقف نشاطهم، وفسدت حياتهم، وتعليق قلوبهم ومشاعرهم بالساعة المجهولة الموعد، يحفظهم من الشرود، فهم لا يدرون متى تأتي الساعة، فهم من موعدها على حذر دائم وعلى استعداد دائب، ذلك لمن صحت فطرته واستقام، فأما من فسدت فطرته، واتبع هواه، فيقع في الإنكار والتكذيب، ويبقى في جهله حتى يكون من الهالكين، {فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى} (طه:16)، وزاد قوله تعالى: {واتبع هواه} للإيماء بالصلة إلى تعليل الصد، أي: لا داعي لهم للصد عن الإيمان بالساعة إلا اتباع الهوى دون دليل ولا شبهة، بل الدليل يقتضي الإيمان بالساعة، كما أشار إليه قوله سبحانه: {لتجزى كل نفس بما تسعى}.

ومن الآيات التي كشفت عن مجال الهوى في الإيمان بالآخرة، قوله تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون * وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون * وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} (الجاثية:23-25) هذه الآيات تكشف بوضوح عن شأن الهوى في التصديق باليوم الآخر، وكيف أنه يصرف الإنسان عنه، ويعلقه باليوم الحاضر والشهوة العاجلة فحسب، فيكذب ويعاند ويوغل في الخصومة، مع أن الأمر أظهر ما يكون، ولكن هكذا يفعل الهوى في النفوس، يقول صاحب "الظلال": "اتباع الهوى هو الذي ينشئ التكذيب بالساعة، فالفطرة السليمة تؤمن من نفسها بأن الحياة الدنيا لا تبلغ فيها الإنسانية كمالها، ولا يتم فيها العدل تمامه، وأنه لا بد من حياة أخرى يتحقق فيها الكمال المقدر للإنسان، والعدل المطلق في الجزاء على الأعمال".

ثانياً: الاتباع: العبد في هذه الحياة مأمور بالطاعة والاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} (الأنفال:24) والطاعة لله والرسول والاستجابة لأمرهما التي يجب على العبد النهوض بها من المجالات التي تتدخل فيها الأهواء بشكل كبير. وقد بين سبحانه أن عدم الاستجابة سببه اتباع الهوى، قال تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} (القصص:50) ففي هذه الآية بيان أن الحق في هذا القرآن لَبَيِّنٌ، وإن حجة هذا الدين لواضحة، فما يتخلف عنه أحد يعلمه إلا أن يكون الهوى هو الذي يصده. يقول الطبري: "فإن لم يجبك هؤلاء، فاعلم أنما يتبعون أهواءهم". فهما طريقان لا ثالث لهما: إما إخلاص للحق وخلوص من الهوى، وعندئذ لا بد من الإيمان والتسليم. وإما مماراة في الحق واتباع للهوى، فهو التكذيب والشقاق، ولا حجة من غموض في العقيدة، أو ضعف في الحجة، أو نقص في الدليل، كما يدعي أصحاب الهوى المغرضون.

ومن النماذج التي ذكرها القرآن لأثر الهوى في الاستجابة لله ولرسوله موقف كفار قريش من آية انشقاق القمر، {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} (القمر:2) إذ ليس قصدهم اتباع الهدى، بل اتباع الهوى؛ ولذلك قال سبحانه: {وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر} (القمر:3) فلو كان قصدهم اتباع الهدى، لآمنوا قطعاً، واتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أراهم الله على يديه من البينات والبراهين والحجج القواطع، ما دل على جميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية. وهكذا الهوى يطمس القلوب، ويُعمي الأبصار، فلا تنتفع برؤية الآيات، ولا تعتبر بعاقبة المكذبين، {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة فما تغن النذر} (القمر:4-5).

وإذا كان الله عاب على كفار قريش تركهم الاستجابة لله وللرسول، واتباع أهوائهم، فإننا بحاجة إلى فهم هذا الأمر؛ إذ إننا في زمان كثرت فيه، الأهواء، وتعددت فيه المشارب، وأصبح كل امرئ معجب برأيه. فالواجب على العبد أن يتعلم التسليم والطاعة والاستجابة لله ولرسوله؛ فإن عدم الاستجابة إنما هي اتباع للهوى، يقول ابن القيم: "فمن ترك استجابته، إذا ظهرت له سنة، وعدل عنها إلى خلافها، فقد اتبع هواه". فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على الاستجابة لله ولرسوله. وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع؛ ولذلك يسمى أهلها أهل الأهواء.

ثالثاً: الحكم والقضاء: وهو من المجالات التي يظهر فيها اتباع الهوى بشكل واضح، ويترتب على ذلك نتائج خطيرة في الأرواح والأموال والأعراض؛ ولذلك أكد القرآن على خطر هذا الأمر في غير ما موضع، قال سبحانه: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} (المائدة:49) فاتباع أهوائهم سبب موصل إلى ترك الحق الواجب، والفرض اتباعه. وقال عز وجل مخاطباً نبيه داود عليه السلام: {فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} (ص:26) فاتباع الهوى يُضل المرء عن طريق الهدى، ويخرجه عن الصراط المستقيم، ويبعد الحاكم عن الحكم بالحق؛ إذ الهوى في النفس له ميولات وانحرافات لا تحصر، واتباعه يوصل إلى اعتناق الباطل، والاستمساك بالأفكار والمفهومات الفاسدات، ويوصل إلى الظلم والعدوان والبغي والفساد العريض في الأرض.

رابعاً: العلم: الهوى من أخطر الآفات التي تصد المرء عن حسن الانتفاع بالعلم، فحينما يتسلط الهوى على القلب يفسده، ويصرفه عن حقيقته وحقائقه، قال تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك} (الأعراف:175-176) أي أنه أعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات، واتبع هواه، فلا جرم وقع في هاوية الردى، قال الرازي: "وهذه الآية من أشد الآيات على أصحاب العلم؛ وذلك لأنه تعالى بعد أن خص هذا الرجل بآياته وبيناته...لما اتبع الهوى، انسلخ من الدين، وصار في درجة الكلب، وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله في حقه أكثر، فإذا أعرض عن متابعة الهدى، وأقبل على متابعة الهوى، كان بعده عن الله أعظم".

هكذا يظهر أثر الهوى في صد المرء عن التمسك بحقائق العلم الظاهرة، وبيناته القاطعة، وحججه الواضحة.

وسائل مقاومة الهوى

ذكر القرآن عدة وسائل لمقاومة الهوى، نذكرها على النحو الآتي:

أولاً: ذكر العاقبة السيئة لمتابعة الهوى: ذكر القرآن أمورا ًكثيرة، توضح شناعة عاقبة الهوى، وأن استحضارها وتأملها من أكثر ما يعين العبد على مقاومة الهوى، ومن عواقب اتباع الهوى ما يأتي:

1- الحرمان من ولاية الله ونصره: وهذا من أبشع العواقب الوخيمة لاتباع الهوى، قال تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} (البقرة:120) وقال سبحانه: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق} (الرعد:37). ففي هاتين الآيتين يظهر حرمان العبد من ولاية الله سبحانه، إذا أعرض عن هديه، واتبع هواه. وهذا التهديد الموجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أبلغ في تقرير هذه الحقيقة، التي لا تسامح في الانحراف عنها، حتى ولو كان من الرسول، وحاشاه صلى الله عليه وسلم. ويا لها من عاقبة شنيعة لمن تأملها، فأي فلاح وأي رجاء وأي عيش لمن انقطعت عنه أسباب الخير، وقطع ما بينه وبين وليه ومولاه، الذي لا غنى له عنه طرفة عين، ولا بد له منه، ولا عوض له عنه، واتصلت به أسباب الشر، ووصل ما بينه وبين أعدى عدو له، فتولاه عدوه، وتخلى عنه وليه؟ فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع والاتصال من أنواع الآلام وأشكال العذاب.

2- الوقوع في الظلم: إن المنصرف عن الحق، والمتبع لهواه، لا غرو أنه من الظالمين، قال تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين} (البقرة:145) وقال عز وجل: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين} (الروم:29) فأي ظلم أعظم، من ظلم من علم الحق والباطل، فآثر الباطل على الحق، ورأى النور وأبصره، ثم حاد عنه وتركه، إنه -لا شك- ظلم عظيم. وأن يؤول اتباع الهوى بصاحبه إلى الظلم، فهي عاقبة موحشة، {والله لا يحب الظالمين} (آل عمران:57) وهو سبحانه {لا يهدي القوم الظالمين} (المائدة:51)، وإن {لعنة الله على الظالمين} (الأعراف:44). وأي خير يرتجى لمن أبغضه رب العالمين، وصرفه عن موارد الهدى، وأحل عليه لعنته إلى يوم الدين، لا شك أنه خاسر في الدنيا والآخرة، {إنه لا يفلح الظالمون} (الأنعام:21).

3- الوقوع في الضلال: قال سبحانه مخاطباً نبيه داود عليه السلام: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} (ص:26) ففي الآية بيان واضح أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله. وهذه عاقبة غاية في السوء؛ فالإنسان ما يضل عن هدى الله إلا ويتخبط في القلق والحيرة والاندفاع من طرف إلى طرف، لا يستقر ولا يتوازن في خطاه، والشقاء قرين التخبط في الدنيا، ثم الشقوة الكبرى في دار البقاء.

4- عداوة الله لمن اتبع هواه: معاداة الله للإنسان تعني خسرانه الدنيا والآخرة، وكيف يرجى فلاح لمن عاداه مدبر الأفلاك؟ {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين} (الجاثية:18-19) أي: إنك أيها الرسول الكريم إن اتبعت أهواء هؤلاء الضالين، صرت مستحقاً لمؤاخذتنا، ولن يستطيع هؤلاء أو غيرهم، أن يدفع عنك شيئاً مما أراده الله تعالى بك.

وتظهر شدة عداوة الله لمتبع الهوى من خلال أن يكون المخاطب بهذا التهديد، وذاك الوعيد هو النبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب لا شك لأمته، ولكن توجيه الخطاب إليه يوحي بشدة عداوة الله لمتبع الهوى. وفي قوله سبحانه: {وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين} بيان بأن الذين يحيدون عن شرع الله، ويتبعون الأهواء هم الظلمة، فلا يواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالماً مثلهم. وبذلك يظهر مدى عداوة الله لمن تبع هواه. فعلى المرء أن يحذر وأن يتدبر، وأن يسأل نفسه: أي الولايتين يريد؟

ثانياً: الاستعانة بالله: وهي من أعظم الأسباب التي تعين العبد على تجنب الهوى، والامتناع عن اتباعه، كيف لا؟! وهي لجوء إلى خالق الأكوان، ومدبر الأمر، فعلى المؤمن أن يستعين بالله، ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه، ويثبته على الهدى والتقوى، ولا يتبع الهوى، كما قال تعالى: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم} (الشورى:15) فالمرء إن أراد أن يُحفظ من الهوى وأخطاره، فعليه أن يكثر من اللجوء لله، وتأمل قوله عز وجل: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} (الجاثية:23).

ثالثاً: الخوف من الله: وهو من أعظم الأمور التي تهز الأفئدة، وتحرك القلوب، {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى} (النازعات:41) والخوف من الله -كما يقول سيد- هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة، وقلَّ أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى. وقدم سبحانه الخوف على نهي النفس عن الهوى؛ لأن الخوف من الله هو السبب المعين لدفع الهوى. قال بعض السلف: "الخوف إذا سكن القلب، أحرق موضع الشهوات منه، وطرد رغبة الدنيا عنه، وأسكت اللسان عن ذكر الدنيا". وقال ذو النون: "الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف، ضلوا الطريق". ثم أن يكون الخوف هو مبدأ دعوات الأنبياء، {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} (الأعراف:59) لدليل واضح على أهميته في دفع القلب نحو مرضاة الله سبحانه، وأنه الدواء الناجع لمن أسره شيطانه، وغلبه هواه.

رابعاً: استحضار حساب الآخرة: وهذا من أعظم أسباب مقاومة الهوى؛ فاستحضار أهوال الآخرة يعطي الإنسان القوة في مواجهة اتباع الهوى، وبالمقابل فإن نسيان الآخرة يعد عاملاً كبيراً في اتباع الإنسان لهواه، {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (ص:26) فالسبب الأول لحصول ذلك الضلال هو نسيان يوم الحساب؛ لأنه لو كان متذكراً ليوم الحساب، لما أعرض عن إعداد الزاد ليوم المعاد، ولما صار مستغرقاً في هذه اللذات الفاسدات.

ومن الآيات التي أكدت هذا المعنى قوله عز وجل: {ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون} (الأنعام:150) فقد أكدت الآية أن عدم إيمانهم بالآخرة هو الذي قادهم إلى اتباع أهوائهم؛ لأنهم لو كانوا يؤمنون بالآخرة، لعلموا أنهم مجازون على هذا جزاء يناسب جرائمهم، ولو أنهم قدروا هذه المسألة حق قدرها لامتنعوا عن اتباع أهوائهم.

* مادة المقال مستفادة من موقع (التفسير الموضوعي للقرآن).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة