الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المحسنات اللفظية في القرآن الكريم

المحسنات اللفظية في القرآن الكريم

المحسنات اللفظية في القرآن الكريم

يُقصد بـ (المحسنات) ما بها تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال، ورعاية وضوح الدلالة بخلوها عن التعقيد المعنوي. والمحسنات البديعية ضربان: معنوي يرجع إلى تحسين المعنى أولاً وبالذات، وإن كان بعضها قد يفيد تحسين اللفظ أيضاً. وضرب لفظي يرجع إلى تحسين اللفظ أصلاً، وإن تبع ذلك تحسين المعنى؛ لأن المعنى (إن) عُبِّر عنه بلفظ حسن، استتبع ذلك زيادة في تحسين المعنى.

في مقال سابق تحدثنا عن المحسنات المعنوية، ونتحدث في هذا المقال على المحسنات اللفظية، والتي تشمل: الجناس، وائتلاف اللفظ مع المعنى، والإيجاز، والإرداف، والتمثيل. والبداية مع الجناس.

أولاً: الجناس

عُرف الجناس بتعريفات عدة، حاصلها أنه تشابه اللفظين مبنى، واختلافهما معنى، فـ (البَيْن) هو الفراق، وهو الوصل أيضاً، و(الجَوْن) الأبيض، وهو الأسود أيضاً، و(الصارخ) هو المغيث، وهو والمستغيث أيضاً، و(الصريم) الليل المظلم، وهو الصبح أيضاً، و(غَبَر) الشيء بقي، وهو مضى أيضاً، و(القَرء) الطهر، وهو الحيض أيضاً، و(الناهل) العطشان، والريان أيضاً، و(وراء) بمعنى خلف، وقد يكون بمعنى قُدَّام.

وأسلوب الجناس في القرآن كثير، وهو أنواع، ومن أمثلته الآتي:

- قوله تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} (الروم:55) فقد تضمنت الآية جناساً؛ لاختلاف معنى اللفظين؛ إذ {الساعة} الأولى: القيامة، والثانية: المراد بها اللحظة من الزمن. ويسمى عند البلاغيين الجناس التام.

- قوله سبحانه: {والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين} (الشعراء:80) فالجناس بين: يسقين ويشفين. وهذا من الجناس المصحَّف، وضابطه أن تختلف الحروف في النقط.

- ومنه قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا فيهم منذرين * فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} (الصافات:73) فالجناس بين منذرِين ومنذرَين. وهذا من الجناس المحرَّف. وضابطه أن يقع الاختلاف في الحركات.

- وقد اجتمع الجناس المحرف والمصحَّف في قوله تعالى: {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} (الكهف:104).

- ومن الجناس قوله تعالى: {والتفت الساق بالساق * إلى ربك يومئذ المساق} (القيامة:29-30). وقوله سبحانه: {ثم كلي من كل الثمرات} (النحل:69) فالجناس بين الساق والساق. وكلي وكل. وهذا من الجناس الناقص وضابطه أن يكون الاختلاف في عدد الحروف.

- ومنه المذيل، وضابطه أن تكون الزيادة بأكثر من حرف، كقوله عز وجل: {وانظر إلى إلهك} (طه:97) وقوله تعالى: {ولكنا كنا مرسلين} (القصص:45) وقوله سبحانه: {من آمن بالله} (البقرة:62).

- ومنه المضارع، وضابطه أن يختلفا بحرف مقارب في المخرج، كقوله تعالى: {وهم ينهون عنه وينأون عنه} (الأنعام:26). فإن اختلفا بحرف غير مقارب، فهو اللاحق، كقوله تعالى: {ويل لكل همزة لمزة} (الهمزة:1).

- ومنه المرفق، وهو ما تركب من كلمة وبعض كلمة، كقوله تعالى: {جرف هار فانهار به في نار جهنم} (التوبة:109).

- ومنه اللفظي، بأن يختلفا بحرف مناسب للآخر مناسبة لفظية، كالضاد والظاء في قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} (القيامة:22-23).

- ومنه الاشتقاقي، وهو أن يجتمعا في الأصل الاشتقاقي، ويسمى المقتضب، كقوله تعالى: {فروح وريحان} (الواقعة:89). وقوله سبحانه: {فأقم وجهك للدين القيم} (الروم:30). وقوله عز وجل: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا} (الأنعام:79).

- ومنه تجنيس الإطلاق، بأن يتفقا من حيث الظاهر مع اختلاف المادة المشتق منها،كقوله تعالى: {قال إني لعملكم من القالين} (الشعراء:168) فـ {قال} مشتقة من المصدر (قول) و{القالين} من (القلي) وهو البغض، يقال: قليته أقليه قِلى وقلاء. ومن هذا الباب قوله عز وجل: {ليريه كيف يواري سوءة أخيه} (المائدة:31) فـ {ليريه} من رأى، و{يواري} من (ورَّى) وهو الستر والخفاء.

- والجناس في القرآن قد يوافق المشاكلة كذلك؛ فإن جناس الاشتقاق قد يوافق فيه الطباق، كما في قوله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون} (المائدة:44) وقوله سبحانه: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (البقرة:216). وقوله عز وجل: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون} (التوبة:52) فقد أعيدت الكلمة هنا أربع مرات: {تربصون بنا} {ونحن نتربص بكم} {فتربصوا} {إنا معكم متربصون} ولا شك أن بين هذه المواضع الأربعة جناس اشتقاق.

- والجناس أيضاً يوافق الترديد، وهو إيراد الكلمة بعينها مرتين، كما في قوله تعالى: {لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} (الحشر:20) ومنه قوله سبحانه: {حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام:124) وقوله عز وجل: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا} (التوبة:108).

والملاحظ أن قوله عز وجل {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (البقرة:216) جمع بين ثلاثة فنون من فنون البديع في موضع واحد باعتبارات مختلفة: (الطباق) حيث وقع العلم منفياً مرة ومثبتاً أخرى، فهو من طباق السلب. (الجناس) لتماثل اللفظين {يعلمون} {يعلمون} فهو من جناس الاشتقاق. (الترديد) حيث تكرر اللفظان، وكل منهما متعلق بمعنى مختلف.

وظيفة الجناس

للجناس وظيفتان، إحداهما من حيث المعنى، والأخرى من حيث اللفظ؛ أما التي من حيث المعنى فيقول عنها الإمام الجرجاني في "أسرار البلاغة": "وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيساً مقبولاً، ولا سجعاً حسناً حتى يكون المعنى هو الذى طلبه واستدعاه وساق نحوه. وحتى تجده لا تبتغي به بدلاً، ولا تجد عنه حولاً. ومن ها هنا كان أحلى تجنيس تسمعه، وأعلاه وأحقه بالحسن وأولاه، ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه؛ كما في قول الشافعي -وقد سئل عن النبيذ- فقال: "قد أجمع أهل الحرمين على تحريمه". ثم قال الجرجاني: "واعلم أن النكتة التي ذكرتها في التجنيس، وجعلتها العلة في استيجابه الفضيلة، هي: حسن الإفادة مع أن الصورة صورة الإعادة". ومعنى هذا أن الكلمة المكررة في التجنيس مع أن الصورة توهم السامع في أول أمرها أنها لم تأت بجديد. بل هي مكررة لمعنى سابقتها، فإذا حصل للسامع منها المعنى الجديد جاءه ذلك من غير مظانه ومن حيث لم يتوقعه، وفى ذلك متعة للنفس، وربح من غير انتظار".

ويقول ابن السبكي: "وكفى التجنيس فخراً قوله عليه الصلاة والسلام: (غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصية عصت الله) متفق عليه.

وأما وظيفة الجناس من حيث اللفظ، فإنه يحمل السامع على الإصغاء، كما يقول صاحب "كنز البلاغة": "إن مناسبة الألفاظ تُحِدِث ميلاً وإصغاء إليه؛ ولأن اللفظ المشترك إذا حُمل على معنى، ثم جاء والمراد به معنى آخر، كان للنفس تشوق إليه". وهذا النص فيه بيان للوظيفة اللفظية، وإشارة إلى الوظيفة المعنوية.

منزلة جناس القرآن

وقد جاء الجناس في القرآن الكريم على أحسن صورة وأجمل موقع، لا تكلف فيه، ولا تصنُّع، ولا جور على المعنى لحساب اللفظ، ولا اقتسار للفظ دون دلالة حسنة.

ولنتأمل الآيات الكريمات: قوله تعالى: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} (التوبة:127) وقوله عز وجل: {يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} (النور:37) وقوله سبحانه: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} (البقرة:276) حيث نجد فوق روعة المعنى وسحر الجرس مناسبة بين ركني الجناس جدُّ رائعة، وهذه المناسبة لو لم يكن للجناس وظيفة سواها لكانت كفيلة بأصالته وحسنه: {انصرفوا...صرف} و{تتقلب...القلوب} و{الربا...يربى} وهكذا في كل جناس نلمس خلابة وسحراً، وأسراً للسمع والفكر معاً.

ثانياً: ائتلاف اللفظ مع المعنى

عرفه البلاغيون بأن تكون ألفاظ المعنى المراد يلائم بعضها بعضاً، ليس فيها لفظة نافرة عن أخواتها، غير لائقة بمكانها، كلها موصوف بحسن الجوار، بحيث إذا كان المعنى غريباً فجًّا، كانت ألفاظه غريبة محضة، وإذا كان المعنى مولداً، كانت الألفاظ مولدة، وإذا كان المعنى متوسطاً، كانت الألفاظ كذلك، وإذا كان متداولاً، كانت الألفاظ معروفة مستعملة.

ولا ريب فإن الألفاظ في القرآن الكريم مؤتلفه مع معانيها، لم يند منها موضع واحد. وعلى هذا فإن إيراد الأمثلة فيه شيء من التسامح؛ إذ إن التمثيل واجب لبيان الأقسام الواردة في التعريف. ومن الأمثلة نذكر الآتي:

- قوله عز وجل: {قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين} (يوسف:85) فإنه سبحانه لما أتى بأغرب ألفاظ القَسَم، وهي (التاء) -إذ الواو والباء أعرف منها عند علماء اللغة، وهما أكثر دوراناً على الألسنة- لمَّا أتى بها أتى بأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار؛ لأن (كان) وبقية أخواتها أعرف عند علماء العربية من {تفتأ} وأكثر منها استعمالاً. وكذلك {حرضا} فإنها أغرب الألفاظ الدالة على الهلاك، فاقتضى حسن النظم أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة أو الاستعمال؛ توخياً لحسن الجوار، ورغبة في ائتلاف المعاني بالألفاظ، ولتتلاءم الألفاظ في الموضع، وتتناسب في النظم.

ويتضح هذا إذا ما قورن بمثله، وهو قوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} (الأنعام:109) فلما كان هذا الموضع كل ما فيه من ألفاظ معروفاً مستعملاً، قال: {وأقسموا} و{بالله} فلم تأت لفظة غريبة تفتقر إلى ما يشاكلها في الغرابة ويلائمها.

- ومن أمثلته أيضاً قوله سبحانه: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} (هود:113)؛ لأن (الركون) إلى الظالم دون فعل الظالم نفسه؛ ولذلك وجب أن يكون العقاب عليه دون عقاب الظالم؛ ولهذا قال سبحانه: {فتمسكم النار} فـ (الركون) إلى الظالم يناسبه مس النار للراكن، فلم يقل: (لا فقد دخلوا النار) -مثلاً- لأن المتبادر إلى الفهم أن مس النار أول ملاقاة الجسم لها. وقد جاء (المسُّ) في غير هذا الموضع مراداً به العذاب المؤلم، ولا يكون إلا بالدخول في النار والمكث فيها، كقوله تعالى: {ذوقوا مس سقر} (القمر:48) فالمعول عليه القرائن، كما يقول ابن أبى الإصبع: "وإذا احتملت اللفظة احتمالات، صُرف منها إلى ما تدل عليه القرائن". فإذا كان (المس) أول ملاقاة الجسم للنار، فإن (الإذاقة) هي أول ملاقاة الطعوم للسان -إذن- فها هنا مقابلة آسرة. ولعل السر البلاغي في هذا التعبير، أن إذاقة {مس سقر} كاف في الإيلام فما الظن بدخولها؟

- ومن هذه البابة، قوله عز وجل: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} (البقرة:61). هذا إخبار من الله تعالى عن اليهود، لما عصوا الله وكفروا به، وقتلوا الأنبياء ظلماً وعدواناً، وخلاصة هذا الإخبار، أن اليهود أذلاء وضعفاء أينما كانوا وحيثما حلوا، جزاء لهم على جرائمهم النكرة، فلازمتهم الذلة والمهانة، وجاء التعبير وافياً بالغرض أيما وفاء، يقول الزمخشري: "جُعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب، كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه". ويُفهم من هذا معنيان: الإحاطة، واللزوم. وفي التعبير معنيان آخران؛ ذلك أن الضرب في نفسه مشعر بذل المضروب، فاختير هنا ليناسب لفظة (الذل) المجعولة عليهم. والضرب من شأنه إيلام المضروب وإيجاعه، وهذا يُشْعِر بالأثر السيئ الذي يجده اليهود من ملازمة {الذلة والمسكنة} لهم. وإحاطتهما بهم.

وفي قوله تعالى بعد هذا مباشرة: {وباءوا بغضب من الله} (البقرة:61) مناسبة كذلك، فإن ضَرْبَ {الذلة والمسكنة} عليهم يناسبه: {وباءوا بغضب من الله}.

- ويدخل في هذا الباب غرابة الألفاظ لغرابة المعاني قوله تعالى: {كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة} (المدثر:50-51)، وقوله تعالى: {طلعها كأنه رءوس الشياطين} (الصافات:65)، وقوله تعالى: {تلك إذا قسمة ضيزى} (النجم:22) فـ (القسورة) الصياد أو الأسد، وهما أكثر من لفظ {قسورة} دوراناً على الألسن، ووروداً في الاستعمال، وهذا مناسب لغرابة نفور العصاة عن الدعوة إلى الطاعة والهدى.

و{رءوس الشياطين} لم يستعمله أحد؛ لأنه لم يقف على حقيقته، فجاء مثالاً لثمار أغرب شجرة تنبت في أصل الجحيم. و{تلك إذا قسمة ضيزى} (النجم:22) فقسمة الإناث لله سبحانه، والمذكور للكافرين قسمة غريبة، فدل عليها بأغرب لفظة عرفتها لغة العرب.

ثالثاً: الإيجاز

هو في التعريف: أن تكون الألفاظ أقل من المعنى المفهوم منها، وقسموا الإيجاز إلى إيجاز حذف، وإيجاز قصر.

- وقد مثلوا لإيجاز القصر بقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} (النحل:90) ووجه الإيجاز فيها يظهر من ناحيتين: من حيث الصناعة النحوية؛ فإن فيها حذفاً في مواضع، هي: حذف معمول {يأمر} حذف معمول المصدر (إيتاء) وحذف معمول (ينهى) وحذف معمول {تذكرون} فهذه المحذوفات شاهد الإيجاز بالحذف.

ومن ناحية دلالة الكلمات أنفسها؛ فإن (العدل) تحته أفراد، وكذلك (الإحسان) و(الفحشاء) تحتهما أفراد، وكذلك (المنكر) و(البغي)، فهذه أسماء جوامع دالة على كثير، وهذا شاهد الإيجاز بالقصر.

- ومن أمثلة الإيجاز قوله عز وجل: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين} (هود:44) الآية من باب الإيجاز؛ فإنه سبحانه أراد اقتصاص هذه القصة بأوجز لفظ وأبلغه، فجاء بها مرتبة الألفاظ والجمل حسبما وقع.

رابعاً: الإرداف

عرَّفه البلاغيون: أن يُترك اللفظ الذي يُدَل به عادة على المعنى، ويُستخدم تعبير غيره لتحقيق أغراض فكرية ومعاني لا تؤدَّى بالتعبير المتروك. ومن أمثلته القرآنية:

- قوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين} (هود:44) قالوا: إن عبارة: {وقضي الأمر} اختيرت بإحكام بدل أن يقال: وهلك من قضى الله إهلاكهم، ونجا من قضى الله نجاتهم. وحصل العدول عن التعبير المتروك، واختير رديف له يؤدي المقصود منه مع أغراض أخرى، منها: الإيجاز في العبارة، والتنبيه على أن هلاك الهالك ونجاة الناجي كان بأمر آمرٍ، إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، وكان بقضاء من لا راد لقضائه.

كما أن عبارة: {واستوت على الجودي} اختيرت بإحكام بدل أن يقال: وجلست على الجودي، أو واستقرت على الجودي؛ لما في التعبير بـ (الاستواء) من الإشعار بأنها استقرت على جبل الجودي استقرار تمكن لا زيغ فيه، ولا ميل إلى جهة الأمام، أو إلى جهة الخلف، أو إلى اليمين، أو إلى الشمال، فالاستقرار المستوي لا تفيده عبارة أخرى كما تفيده عبارة: {واستوت}.

- ومنه قوله عز وجل بشأن أهل جنات عدن: {وعندهم قاصرات الطرف أتراب} (ص:52) جاء التعبير بعبارة {قاصرات الطرف} للكناية بها عن أنهن عفيفات، وقد عَدَل عن عبارة (عفيفات) إلى عبارة أخرى تؤدي معناها؛ لإضافة معنى آخر لا تؤديه العبارة المتروكة؛ وذلك لأن العبارة المختارة تدل على أنهن مع عفتهن، لا تطمح أعينهن إلى غير أزواجهن، ولا يشتهين غيرهم. وهذا المعنى لا تدل عليه عبارة (عفيفات) فـ (العفة) التطبيقية قد تكون مصحوبة بتطلُّع وتَشَهٍّ.

- ومنه قول سبحانه: {ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} (النجم:31) جاء في الجملة الأولى: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا} فاختير فيها التعبير بعبارة: {بما عملوا} دون عبارة: (بالسوأى) مع ما في هذه العبارة من مقابلة عكسية لعبارة {بالحسنى} في الجملة الثانية يتحقق بها الطباق؛ لتأدية معاني لا تؤدَّى بعبارة (بالسوأى) أو (بالسيئة)، ومن هذه المعاني: أن الجزاء على السيئة يكون بمثلها تماماً، وهذا المعنى تؤديه عبارة {بما عملوا} أداء وافياً، أما عبارة (بالسوأى) فهي غير صالحة؛ لأن لفظ (السوأى) مؤنث (أسوء)، والله لا يجزي على السيئة بالأسوء منها. وأما عبارة (بالسيئة) فهي عبارة عامة، لا تدل على المماثلة؛ إذ قد تكون سيئة الجزاء أكثر من سيئة العمل، وهذا أمر غير مراد، مع ما في عبارة: {بما عملوا} من البعد عن نسبة فعل السيئة إلى الله، ولو كانت على سبيل الجزاء.

خامساً: التمثيل

هو في التعريف البلاغي: أن يريد المتكلم معنى، فلا يعبر عنه بلفظه الخاص، ولا بلفظ الإشارة ولا الإرداف، بل بلفظ هو أبعد من لفظ الإرداف قليلاً. وهو على عدة معانٍ:

- منها العدول عن لفظ الحقيقة إلى لفظ التمثيل، وبعبارة أخرى: إيثار لفظ مكان آخر، ليس أحدهما مجازاً؛ ومثلوا له بقوله عز وجل: {واستوت على الجودي} فإن حقيقة ذلك: وجلستْ على هذا المكان، فعَدَل عما فيه زيغ إلى ما لا زيغ فيه ولا ميل ولا حركة ولا اضطراب؛ فإن بهذا الجلوس تسكن قلوب أهل السفينة، فحصل تمام الأمن وتمام السكينة، ولا يحصل هذا من قولنا: (جلستْ)؛ فلذلك عَدَل عن لفظ الحقيقة إلى لفظ التمثيل.

- ومنها التمثيل المجازي، يكون بإيثار لفظ مجازي على آخر حقيقي كـ (الختم) ومثلوا له بقوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} (البقرة:7) فإن ألفاظ هذه الآية ومعناها تمثيل مجازي، أتى به لتتبين به حقيقة أمرٍ مراد؛ لأنه لما كان هؤلاء المحدَّث عنهم بذلك، لا ينتفعون بما يسمعون من الزواجر، ولا يرتدعون بما يشاهدون من الآيات، كان امتناعهم عن ذلك بختم وغشاوة حالًّا بينهم وبين ما يسمعون وما يبصرون وما يعتقدون؛ إذ لولا هذه الحيلولة لسمعوا وأبصروا وعقلوا.

- ومنها الاستعارة التمثيلية التي تشبَّه بها الهيئات. وقد نص على ذلك كثير من البلاغيين، فقالوا في توجيه الآية الآنفة الذكر: "ويجوز أن تُضْرَب الجملة مثلاً لصفة أحوالهم، كقولهم: سال بهم الوادي-إذا هلكوا، وطارت بفلان العنقاء-إذا طالت غيبته".

- ومعنى رابع للتمثيل، وهو أن يراد به المثل. وهذا كثير في القرآن الكريم. منه قوله تعالى: {ليس لها من دون الله كاشفة} (النجم:58).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة