* مفهوم الإصلاح
(الإصلاح) لغة مأخوذ من الجذر (صلح) فالصاد واللام والحاء أصل واحد، يدل على خلاف الفساد. يقال: صَلُح -بضم اللام- وصَلَح -بفتح اللام- الشيءُ يَصْلَح ويَصْلُح صلاحاً وصُلُوحاً، لغتان؛ فالصلاح والصُلُوح بمعنى، وهو صالح وصليح، والجمع: صلحاء وصُلُوح.
و(الصلاح) الحصول على الحالة المستقيمة النافعة، و(الإصلاح) جعل الشيء على تلك الحالة؛ فـ (الإصلاح) نقيض الفساد، وهو يدل على إزالة الفساد، و(الاستصلاح) نقيض الاستفساد، وأصلحه نقيض أفسده، وقد أصلح الشيء بعد فساده: أقامه، و(مصلح) اسم فاعل من أصلح، يقال: رجل صالح في نفسه، ومصلح في أعماله.
ويغلب استخدام (الإصلاح) في إصلاح ذات البين؛ يقال: أصلح بينهما، أو ذات بينهما: أزال ما بينهما من عداوة ووحشة، وإصلاح ذات البين يكون برأب ما تصدع منها، وإزالة الفساد الذي دبَّ إليها بسبب الخصام والتنازع على أمر من أمور الدنيا.
و(الإصلاح) اصطلاحاُ له تعريفات عديدة؛ فعُرِّف بأنه: إزالة الخلل والفساد الطارئ على الشيء. وعُرَّف أيضاً بأنه: إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله، بإزالة ما طرأ عليه من الفساد. وكل التعريفات الاصطلاحية لـ (الإصلاح) تدور حول معنى إزالة الفساد الذي يطرأ الشيء، وإعادته إلى ما كان عليه من الصلاح والاعتدال والنفع.
* الألفاظ ذات الصلة
1- الصلح: (الصُّلح) بالضم: السّلم، بكسر السين وفتحها، من تصالح القوم بينهما. و(الصلح) أيضاً: اسم جماعة متصالحين، يقال: هم لنا صلح، أي: مصالحون. و(الصلح) اصطلاحاً عبارة عن عقد، وُضِع لرفع المنازعة بالتراضي. والعلاقة بين (الصلح) و(الإصلاح) أن الصلح يختص بإزالة النفار بين الناس، يقال منه: اصطلحوا وتصالحوا؛ وعلى هذا، فإن الصلح إحدى ثمرات الإصلاح بين الناس، وكذلك فإن الإصلاح أعم وأشمل من الصلح.
2- الصلاح: (الصلاح) مأخوذ من الفعل (صلح) والصلاح ضد الفساد. و(الصلاح) في الاصطلاح: استقامة الحال وانعدالها، وهو مما يفعله العبد لنفسه. وهو معنى يشمل استواء الخلق والاستقامة على ما توجبه الشريعة، وحصول على الحالة المستقيمة النافعة. والعلاقة بين (الصلاح) و(الإصلاح) أن الصلاح يخص الفرد في ذاته، أما الإصلاح فمتعدِّ، يُصْلِحُ العبد نفسه، ثم يسعى في إصلاح غيره، فقد يكون الرجل صالحاً في نفسه فحسب، وقد يكون صالحاً في نفسه، ومصلحاً لغيره، ولا شك أن الأخير أعظم.
3- الفساد: الإفساد هو ضد الإصلاح. و(الإفساد) اصطلاحاً هو جعل الشيء فاسداً خارجاً عما ينبغي أن يكون عليه، وعن كونه منتَفَعاً به. وفي الحقيقة هو إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح. والعلاقة بين (الإفساد) و(الإصلاح) أن الفساد هو موضوع الإصلاح، ومحوره الذي يتوجه إليه المصلحون؛ لإصلاح الأرض ومن عليها؛ حتى ينعم الإنسان بخيراتها، ويحقق وظيفته في الاستخلاف في الأرض، والوصول إلى الكمال الإنساني؛ فالمصلح هو الذي يسعى لإزالة الفساد، ويحارب الإفساد وأهله.
* الإصلاح في الاستعمال القرآني
وردت مادة (ص ل ح) في القرآن الكريم ثمانين ومئة (180) مرة، يخص موضوع البحث منها اثنان وأربعون (42) مرة؛ والصيغ التي وردت هي: الفعل الماضي (14) مرة، المضارع (8) مرات، الأمر (6) مرات، المصدر (9) مرات، اسم الفاعل (5) مرات. وجاء (الإصلاح) في الاستعمال القرآني بمعنى: إقامة الشيء، وتغيير ما به من اعوجاج، والإحسان فيه.
* مجالات الإصلاح ومظاهره
مجالات الإصلاح كما عرضها القرآن الكريم تتجلى في النقاط الآتية:
أولاً: الإصلاح في العقيدة: معالم الإصلاح في جانب العقيدة تظهر وفق عدة أمور:
1- إن العقيدة هي ما يجزم به الإنسان، ويعتقده، ويتيقنه في قرارة نفسه؛ فإن كان هذا الاعتقاد موافقاً للحق، مطابقاً للواقع، فهي عقيدة صحيحة، وإن كان مخالفاً للواقع، فهي عقيدة فاسدة. والعقيدة هي أساس بناء المجتمعات؛ فإن كانت عقيدة أفراد المجتمع سليمة، صار مجتمعاً قوياً سليماً متماسكاً، وإن كانت عقيدة أفراده منحرفة، صار مجتمعاً متفككاً منهاراً.
2- العقيدة السليمة الصحيحة تعصم الدم والمال، والعقيدة الفاسدة، تهدر الدم والمال، قال تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} (الزمر:65) وقال سبحانه: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} (الأنعام:88). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه، التارك للجماعة) متفق عليه.
3- إذا كانت العقيدة صحيحة، صحت الأعمال كلها بشروطها، وإذا فسدت العقيدة، فسدت جميع الأعمال، قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} (الفرقان:23).
4- الشعائر التي يفرضها الله على الخلق، إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم؛ لإصلاح حياتهم وواقعهم، فالله الواحد القهار غني عن العاملين؛ فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح والعمل والعمارة -وفق منهجه- فيعد لهم هذا كله عبادة، {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} (فاطر:15).
5- العقيدة الصحيحة هي الأساس الذي يقوم عليه الدين، كما قال عز من قائل: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} (الكهف:110). وأرسل سبحانه رسله دعاة إلى التوحيد، وإخلاص الدين، {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء:25).
6- بيَّن سبحانه مقومات الأمن، وأسبابه التي يتحقق بتوفرها، ويزول بزوالها؛ وأولها: إصلاح العقيدة، بإخلاص العبادة لله، وترك عبادة ما سواه، والبراءة منها، ومن أهلها، وملازمة العمل الصالح، {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} (النور:55) فربط سبحانه حصول هذه المطالب العالية: الاستخلاف في الأرض، والتمكين من الدين، وإبدال الخوف بالأمن بتحقق شيئين: عبادة الله سبحانه، وترك الإشراك به.
7- اتجهت جهود الأنبياء والمصلحين إلى إصلاح عقائد المجتمعات قبل كل شيء، كل نبي أرسله الله يدعو قومه إلى إصلاح العقيدة، فأول ما يخاطب قومه: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف:59) وأخبر سبحانه عن عباده المرسلين: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36) ورسولنا صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو الناس إلى إصلاح العقيدة، ويقول لقومه: (أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) رواه أحمد، وابن خزيمة، قال الأعظمي: إسناده صحيح. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وثبتت العقيدة، نزلت بقية التشريعات. وقال صلى الله عليه وسلم: (حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا) متفق عليه.
ثانياً: الإصلاح في الأخلاق: إن الإسلام يدعو إلى إصلاح النفس، والتخلص من أمراضها، وهذا يحتاج إلى جهد يبذل، كما يحتاج إلى صبر على مشقات الطريق، أما اتباع الهوى، وما تمليه النفس الأمارة بالسوء، فإنه سهل ميسور؛ ولذلك كانت الاستجابة للشيطان كثيرة، ووجد دعاة الحق صعوبة في الدعوة إلى الله تعالى.
وأهل الإسلام في باب إصلاح النفس مخالفون للأمم الذين لم يعتنوا بإصلاح الأخلاق، وللذين غلوا فابتدعوا طرقاً في إصلاح النفس والأخلاق. ويشار هنا إلى مسألتين مهمتين:
المسألة الأولى: أن الشرع الحكيم قد عظَّم حسن الخلق في صور وأساليب كثيرة، بيان ذلك:
1- قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم:4) قال سعد بن هشام -وكان قد دخل على عائشة رضي الله عنها-: (يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، قال: فهممت أن أقوم، ولا أسأل أحداً عن شيء، حتى أموت) رواه مسلم. وصح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان خلقه القرآن) رواه أحمد، وصححه الألباني.
2- قال عز وجل في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (آل عمران:159).
3- تصدير آية المدينة بالنداء: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} (البقرة:282) يشير إلى أمرين:
أحدهما: أنه ليس من مقتضى الإيمان أن تلزموا المساجد والصوامع، بل إن الإيمان أن تهذبوا نفوسكم، وترهفوا وجدانكم، وتشعروا بمراقبة ربكم، لتكون دنياكم فاضلة، ويكون تعاملكم، وإدارة المال بينكم على نهج ديني فاضل، فالمال ليس طلبه ممنوعاً، بل إنه من طريقه الحلال مشروع ومطلوب.
الأمر الثاني: أن الإسلام ليست أوامره مقصورة على العبادات فحسب، بل جاء لتنظيم المعاملات أيضاً، بل إن العبادات فيه طريق لإصلاح التعامل الإنساني؛ وكذلك كل الأديان السماوية، فإنه من الجهل الادعاء بأن الأديان جاءت لتنظيم العلاقة بين العبد وخالقه فحسب، ولا تتدخل في العلاقة بين الإنسان والإنسان.
4- قال عز من قائل: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} (يونس:57) جمعت هذه الآية بين خطاب جميع العالم، وبين توبيخ عرب الجاهلية على التحليل والتحريم بسبب الأهواء والمزاعم. أما الخطاب العام لجميع البشر فمضمونه: يا أيها الناس! قد جاءكم كتاب جامع لكل المواعظ التي يراد بها إصلاح الأخلاق والأعمال، والزّجر عن الفواحش، وشفاء الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد، والهداية إلى الحق واليقين والطريق القويم المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وسُمِّي القرآن الكريم {موعظة} لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف، ويزجر، ويرقّق النفوس، ويوعد ويَعِدُ، وهذه صفة الكتاب العزيز. وهي {موعظة من ربكم} لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره، بل هي من عند الله.
هذا، وإن من الأعمال العريقة في الخير، إنشاء المعاهد لتحفيظ القرآن، وتعليم العلم؛ فإذا اتجه الخيرون إلى إنشاء هذه المعاهد، فإن ذلك يكون دليلاً على الأخذ بأسباب الإصلاح المثمرة. وإن من وسائل الإصلاح الأخلاقي الحاسمة أن ينتشر الوعي الديني في استفاضة، ولن يتأتى ذلك إلا إذا أكثرنا من المعاهد الدينية.
المسألة الثانية: الواجب تجاه إصلاح الأخلاق. يقول الكواكبي في "طبائع الاستبداد": "اتَّفق الحكماء -الذين أكرمهم الله تعالى بوظيفة الأخذ بيد الأمم في بحثهم عن المهلكات والمنجيات- على أنَّ فساد الأخلاق يُخرج الأمم عن أن تكون قابلة للخطاب، وأنَّ معاناة إصلاح الأخلاق من أصعب الأمور وأحوجها إلى الحكمة البالغة والعزم القوي، وذكروا أنَّ فساد الأخلاق يعمُّ المستبدَّ وأعوانه وعماله، ثمَّ يدخل بالعدوى إلى كل البيوت، ولا سيما بيوت الطبقات العليا التي تتمثَّل بها السفلى. وهكذا يغشو الفساد، وتمسي الأمة يبكيها المحبُّ، ويشمت بها العدو، وتبيت وداؤها عياء يتعاصى على الدواء.
وقد سلك الأنبياء عليهم السلام، في إنقاذ الأمم من فساد الأخلاق، مسلك الابتداء أولاً بفكِّ العقول من تعظيم غير الله والإذعان لسواه. وذلك بتقوية حسن الإيمان المفطور عليه وجدان كلُّ إنسان، ثمَّ جهدوا في تنوير العقول بمبادئ الحكمة، وتعريف الإنسان كيف يملك إرادته؛ أي حريته في أفكاره، واختياره في أعماله، وبذلك هدموا حصون الاستبداد، وسدّوا منابع الفساد.
ثم بعد إطلاق زمام العقول، صاروا ينظرون إلى الإنسان بأنَّه مكلَّف بقانون الإنسانية، ومطالب بحسن الأخلاق، فيعلمونه ذلك بأساليب التعليم المقنع وبثّ التربية التهذيبية.
والحكماء السياسيون الأقدمون اتَّبعوا الأنبياء عليهم السلام في سلوك هذا الطريق وهذا الترتيب؛ أي بالابتداء من نقطة دينية فطرية، تؤدي إلى تحرير الضمائر، ثمَّ باتِّباع طريق التربية والتهذيب بدون فتورٍ ولا انقطاع". انتهى كلام الكواكبي.
ثالثاً: الإصلاح بين الناس: قال ابن حجر: "الصلح أقسام: صلح المسلم مع الكافر، والصلح بين الزوجين، والصلح بين الفئة الباغية والعادلة، والصلح بين المتغاضبين، كالزوجين، والصلح في الجراح، كالعفو على مال، والصلح لقطع الخصومة، إذا وقعت المزاحمة في الأملاك أو في المشتركات". وقال ابن قدامة: "الصلح معاقدة يُتوصل بها إلى إصلاح بين المختلفين، ويتنوع أنواعاً: صلح بين المسلمين وأهل الحرب، وصلح بين أهل العدل وأهل البغي، وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما".
وهذا الإصلاح قد يكون فرديًّا، وقد يكون جماعيًّا؛ فالفردي كالإصلاح بين اثنين، أو زوجين، أو أخوين. ومن الإصلاح الجماعي: الإصلاح بين قبلتين، أو حزبين، أو جماعتين، أو دولتين، أو شعبين. وقد يجمع بينهما مثل: الإصلاح بين الإمام والمأمومين، والإصلاح بين الراعي والرعية. وهذا تفصيل بعضٍ من ذلك.
* الإصلاح بين الزوجين: إن السعادة الأسرية والاستقرار العائلي مطلب ضروري من ضروريات هذه الحياة، وهو سنة الله سبحانه في الأرض؛ فالهدف من الأسرة هو حصول السكينة والمودة والرحمة بكل ما تحمله هذه الكلمات من معاني، قال عز وجل: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الروم:21).
وقد كثر وقوع المنازعات الأسرية والخلافات العائلية، التي تؤدي إلى الفرقة والشقاق، خصوصاً في هذا الوقت الذي بَعُدَ فيه الناس عن شرع الله، وليس هذا في المجتمعات الإسلامية فحسب، بل لا يكاد يسلم مجتمع من هذه الخلافات، التي تؤدي في أسوأ الأحوال إلى حلِّ رابطة الرحم، فيتفرق أفراد الأسرة والعائلة، فيترتب على ذلك كراهية وخصام، وتشيع القطيعة بين أفراد الأسرة جميعاً.
وقد أمر سبحانه بالإصلاح، وحث عليه، وشرع بعض التنظيمات التي تكفل الحفاظ على الحياة الزوجية قبل حدوث الخلاف، وفي أثناء الخلاف، وحتى بعد الفراق، وقرر بعض التوجيهات والأوامر لرد الزوجين إلى جادة الصواب. ويمكن عرض المنهج القرآني في الإصلاح بين الزوجين وفق النقاط الآتية:
أ- الإصلاح بين الزوجين عند نشوز الزوجة، قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا * وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا} (النساء:34-35) (النشوز) يعني: استعلاءَهن على أزواجهن، وارتفاعهن عن فُرُشهم بالمعصية منهن، والخلاف عليهم في ما لزمهنّ طاعتهم فيه، بغضاً منهن وإعراضاً عنهم.
تبدأ عملية الإصلاح بين ركني الأسرة قي قضية النشوز باتخاذ إجراءات إصلاحية، وفق ترتيب إلهي حكيم، وبوصف نبوي رحيم، فمن تعدى تلك الترتيبات، أو جاوز تلك الأوصاف المقنِّنة لتلك الإجراءات، فقد ظلم وتعدى؛ ولذا جاء التحذير واضحاً في ختام الآية الأولى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} بأي نوع من البغي، سواء كان بالقول أو بالفعل فضلاً عن اليد أو السوط، وتتمثل تلك الإجراءات في النقاط الآتية:
- الموعظة والنصيحة: قال تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن} قال ابن عباس رضي الله عنهما: "عظوهن بكتاب الله"، وتذكيرها بعظم حق الزوج عليها. وقال مجاهد: "إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها، فإنه يقول لها: اتقي الله، وارجعي إلى فراشك، وهذه الموعظة". وقال الحسن: "يأمرها بتقوى الله وبطاعته".
- الهجران في المضاجع: قال سبحانه: {واهجروهن في المضاجع} أي: فإن أبينَ مراجعة الحق في ذلك، والواجب عليهن لكم، فاهجروهن بترك جماعهن في مضاجعتكم إياهن. قال صاحب "الظلال": "على أن هناك أدباً معيناً في هذا الإجراء...إجراء الهجر في المضاجع، وهو ألا يكون هجراً ظاهراً في غير مكان خلوة الزوجين...كما لا يكون هجراً أمام الأطفال، يورث نفوسهم شراً وفساداً...ولا هجراً أمام الغرباء، يذل الزوجة أو يستثير كرامتها، فتزداد نشوزاً. فالمقصود علاج النشوز لا إذلال الزوجة ولا إفساد الأطفال! وكلا الهدفين يبدو أنه مقصود من هذا الإجراء". قال ابن حجر: "والحق، أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال؛ فربما كان الهجران في البيوت أشد من الهجران في غيرها، وبالعكس، بل الغالب أن الهجران في غير البيوت آلم للنفوس، وخصوصاً النساء لضعف نفوسهن".
- الضرب: {واضربوهن} وهذا إجراء ثالث، أكبر من سابقيه، ولكنه أهون وأصغر من تحطيم العلاقة الزوجية بالنشوز. وهذا الإجراء مع أنه شديد، لكنه منوط بحدود؛ فقد ورد في تفسير (الضرب) أن يكون غير مبرحٍ ولا مؤثر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضرباً غير مُبَرِّحٍ) رواه مسلم. وفي سنن أبي داود قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت) قال أبو داود: (ولا تقبح) أن تقول: قبحكِ الله. وقد أبيحت هذه الإجراءات لمعالجة أعراض النشوز -قبل استفحالها- وأحيطت بالتحذيرات من سوء استعمالها، فور تقريرها وإباحتها. وتولى الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته العملية في بيته مع أهله، وبتوجيهاته الكلامية علاج الغلو هنا وهناك، وتصحيح المفهومات.
قال السعدي: "فإن حصل المقصود بواحد من هذه الأمور وأطعنكم، فقد حصل لكم ما تحبون، فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية، والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها، ويحدث بسببه الشر". ولكن إذا استفحل الشر، جيء بالمصلحين، كما قال سبحانه: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا} (النساء:35) قال سعيد بن جبير: "الحُكْمُ أن يعظها أولاً، فإن قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكم حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، فينظران ممن الضرر". أي: وإن خفتم الشقاق بين الزوجين والمباعدة والمجانبة، حتى يكون كل منهما في شق؛ فابعثوا حكمين: واحد من أهل الزوج، وواحد من أهل الزوجة، مكلَّفين مسلمين عدلين عاقلين، يعرفان ما بين الزوجين، ويعرفان الجمع والتفريق.
ب- الإصلاح بين الزوجين عند نشوز الزوج: قال سبحانه: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء:128) عن عائشة رضي الله عنها في تفسير الآية، قالت: (هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه، كبراً أو غيره، فيريد فراقها، فتقول: أمسكني، واقسم لي ما شئت، قالت: ولا بأس إذا تراضيا) رواه البخاري. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلقني، وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} فما اصطلحا عليه من شيء، فهو جائز) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
فإذا خشيت المرأة أن تصبح مجفوة، وأن تؤدي هذه الجفوة إلى الطلاق -وهو أبغض الحلال إلى الله- أو إلى الإعراض، الذي يتركها كالمعلَّقة، لا هي زوجة ولا هي مطلَّقة، فليس هنالك حرج عليها، ولا على زوجها، أن تتنازل له عن شيء من فرائضها المالية، أو فرائضها الحيوية. كأن تترك له جزءاً أو كلًّا من نفقتها الواجبة عليه، أو أن تترك له قسمتها وليلتها، إن كانت له زوجة أخرى يؤثرها، وكانت هي قد فقدت حيويتها للعشرة الزوجية أو جاذبيتها...هذا كله إذا رأت هي -بكامل اختيارها وتقديرها لجميع ظروفها- أن ذلك خير لها، وأكرم من طلاقها. قال ابن كثير: "الظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك، خير من المفارقة بالكلية".
ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق، قال سبحانه: {والصلح خير} أي: الصلح خير من الشقاق والجفوة والنشوز والطلاق، بل الطلاق بغيض إليه تعالى. ثم ذكر سبحانه المانع من الصلح، وهو الشح، فيقول سبحانه: {وأحضرت الأنفس الشح}. ثم ينبه في ختام الآية على ما يعين ويساعد في حلِّ المشكلة، بقوله: {وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء:128) أي: وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن، فإن الله عالم بذلك، وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء.
ج- الإصلاح عند عدم رغبة الزوجة في زوجها: قال سبحانه: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} (البقرة:229).
وقد سلك الشرع الحكيم عدداً من الأمور لإبقاء العصمة الزوجية، ومنها:
- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوعد المرأة التي تطلب الطلاق من زوجها بغير سبب، وهذه هي الطريقة الأولى لعلاج عدم رغبة الزوجة في زوجها، قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقا في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة) رواه أبو داود، وحسنه الألباني. وهذا من باب المحافظة على الرابطة الأسرية في المجتمع.
- إذا استفحل الأمر، وأحست الزوجة بسوء عشرة زوجها، جاز لها أن تطلب الطلاق منه، وأن تعوضه عن ذلك برد الصداق الذي أمهرها إياه أو بعضه؛ لتعصم نفسها من معصية الله، وتعدي حدوده، وهذا ما يسمى بـ (الخلع) أو (الفداء). فـ (الخلع) هو: فراق الزوجة على عوض، فالآية تدل بإطلاقها على جواز الافتداء مطلقاً، ولو بكل المال، أما قوله سبحانه: {فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا} (النساء:20) فهذه الآية محمولة على الأخذ جبراً بغير رضاها، أو التحايل على ذلك. والخلع مكروه إلا في حالة مخافة ألا يقيم الزوجان -أو واحد منهما- ما أمر الله به، وقد ينشأ ذلك عن كراهة العشرة، إما لسوء خَلْق أو خُلُق، وقد يكون لغير ذلك.
د- الإصلاح عند ظلم الزوج لزوجته: قال عز وجل: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما} (النساء:129) يخبر تعالى أن الأزواج لا يستطيعون وليس في قدرتهم العدل التام بين النساء؛ وذلك لأن العدل يستلزم وجود المحبة على السواء، والداعي على السواء، والميل في القلب إليهن على السواء، ثم العمل بمقتضى ذلك. وهذا متعذر غير ممكن، فلذلك عفا الله عما لا يستطاع، ونهى عما هو ممكن بقوله: {فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} أي: لا تميلوا إلى إحداهن عن الأخرى ميلاً كثيراً، بحيث لا تؤدون حقوقهن الواجبة، بل افعلوا ما هو باستطاعتكم من العدل في النفقة والكسوة والقسم، ونحو ذلك مقدور، فعليكم أن تعدلوا بينهن فيها، بخلاف الحب والوطء ونحو ذلك، فإن الزوج لا يملك نفسه في هذه الأمور، ومن ثم عَذَرَه الله فيها. وقوله سبحانه: {فتذروها كالمعلقة} يعني: أن الزوج إذا مال عن زوجته، وزهد فيها، ولم يقم بحقوقها الواجبة، فهي كالمعلَّقة التي لا زوج لها فتستريح، ولا ذات زوج يقوم بحقوقها. {وإن تصلحوا} فيما بينكم وبين زوجاتكم، بوجه من وجوه الصلح، وبمجاهدة أنفسكم على فعل ما لا تهواه النفس، احتساباً وقياماً بحق الزوجة، وإن أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، واتقيتم الله في جميع الأحوال، فإن الله يغفر ما صدر منكم من الذنوب والتقصير في الحق الواجب، ويرحمكم كما عطفتم على أزواجكم ورحمتموهن.
وقد أمر سبحانه بالعدل بين الزوجات، وأمر من لم يستطع العدل أن لا يتزوج أكثر من واحدة، ويمكنه أن يجمع معها ملك اليمين؛ لأنه ليس لها من الحقوق كما للحرة، قال عز وجل: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} (النساء:3) وقال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل) رواه أصحاب السنن إلا ابن ماجه، وصححه الألباني. وكان صلى الله عليه وسلم يعدل بين نسائه في القسم، ويقول: (اللهم هذا قسمي في ما أملك، فلا تلمني في ما تملك، ولا أملك) -يعني القلب- رواه أصحاب السنن إلا النسائي، وصححه الألباني.
* مادة المقال مستفادة من موقع (موسوعة التفسير الموضوعي).