
من اللطائف القرآنية التي ينبغي لفت النظر إليها ما قصه سبحانه علينا من خبر الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، وكان من جملة ما قاله لقومه: {إن يردن الرحمن بضر} (يس:23) ولم يقل: (إن يرد الرحمن بي ضرًّا)، وكذلك قال تعالى: {إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره} (الزمر:38) ولم يقل: (إن أراد الله بي ضرًّا) فأدخل (الباء) على (الضرِّ)، وقدَّم المفعول {أرادني} و{يردن}؛ لأن المقصود هو بيان كون العبد تحت تصرف الرحمن، يقلبه كيف يشاء، في البؤس، والرخاء، وليس الضرُّ بمقصود بيانه. كيف، والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة، بناء على إيمانه بحكم وعد الله تعالى؟ ويؤيِّد هذا قوله سبحانه من قبل: {الذي فطرني} (يس:22) حيث جعل نفسه مفعول الفطرة؛ فكذلك جعلها مفعول الإرادة في قوله: {أرادني} و{يردن}، وذِكْرُ (الضر) وقع تبعاً. وكذا القول في قوله تعالى: {إن أرادني الله بضر} (الزمر:8) المقصود بيان أنه يكون كما يريد الله، وليس (الضر) بخصوصه مقصوداً بالذكر، ويؤيده ما تقدم حيث قال تعالى: {أليس الله بكاف عبده} (الزمر:36) يعني هو تحت إرادته، ويتأيد ما تقدم بالنظر في قوله تعالى: {قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا} (الأحزاب:17) حيث خالف هذا النظم، وجعل المفعول من غير حرف (السوء) وهو كالضر، والمفعول بحرف هو المكلف، وذلك لأن المقصود ذِكْرُ (الضر) للتخويف، وكونهم محلًّا له، وكيف لا وهم كفرة استحقوا العذاب بكفرهم، فجعل الضر مقصوداً بالذكر لزجرهم.
فإن قال قائل: فقد ذكر الله الرحمة أيضاً، حيث قال: {أو أراد بكم رحمة} (الأحزاب:17) فالجواب أن المقصود ذلك، ويدل عليه قوله تعالى: {من بعده ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} (الأحزاب:17) وإنما ذكر الرحمة تتمة للأمر بالتقسيم الحاصر، وكذلك إذا تأملت في قوله تعالى: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا} (الفتح:11) فإن الكلام أيضاً مع الكفار، وذِكْرُ (النفع) وقع تبعاً لحصر الأمر بالتقسيم، ويدل عليه قوله تعالى: {بل كان الله بما تعملون خبيرا} (الفتح:11) فإنه للتخويف.
ثم الملاحظ أيضاً أنه سبحانه قال في آية الزمر: {إن أرادني الله بضر} (الزمر:38) جاء الفعل بصيغة الماضي، في حين قال في آية يس: {إن يردن الرحمن بضر} (يس:23)، فما الحكمة في اختيار صيغة الماضي في آية الزمر، وذكر المريد باسم {الله}، واختيار صيغة المضارع في آية يس، وذكر المريد باسم {الرحمن}؟ يجاب عن الأول بأن التعليق الشرطي في الجمل الشرطية نوعان: خبري، ووعدي.
أما الخبري فهو الذي يكون مضَمَّناً جواباً لسؤال سائل: هل وقع كذا؟ أو يكون ردًّا لقول قائل: قد وقع كذا. فهذا يقتضي الماضي لفظًا ومعنى، ولا يصح فيه الاستقبال بحال؛ ومنه قوله تعالى: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته} (الزمر:38).
وأما الوعدي فالغرض منه هو التعليق المحض المجرد من أي معنى آخر، وهذا يقتضي الاستقبال، ولا يصلح فيه الماضي؛ ومنه قوله تعالى: {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون * أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون} (يس:22-23).
وأجاب الرازي عن هذا السؤال بقوله: إن (إن) في الشرط تصيِّر الماضي مستقبلًا، وذلك لأن المذكور في سورة يس من قبل بصيغة الاستقبال في قوله: {أأتخذ من دونه آلهة} (يس:23) وقوله: {ومالي لا أعبد} (يس:22) والمذكور سورة الزمر من قبل بصيغة الماضي في قوله: {أفرأيتم ما تدعون من دون الله} (الزمر:38) وكذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: {وإن يمسسك الله بضر} (الأنعام:17) لكون المتقدم عليه مذكوراً بصيغة المستقبل، وهو قوله: {من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه} {الأنعام:16) وقوله: {إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} (الأنعام:15) والحكمة فيه هو أن الكفار كانوا يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم بضر يصيبه من آلهتهم، فكأنه قال صدر منكم التخويف، وهذا ما سبق منكم، وفي سورة يس ابتداء كلام صدر من المؤمن للتقرير، والجواب ما كان يمكن صدوره منهم، فافترق الأمران.
وأما قوله في آية الزمر: {إن أرادني الله} (الزمر:38) وقوله في آية يس: {إن يردن الرحمن بضر} (يس:23) فالجواب عنه: أن الاسمين المختصين بواجب الوجود {الله} و{الرحمن} كما قال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} (الإسراء:110) و(الله) للهيبة والعظمة، و(الرحمن) للرأفة والرحمة، وفي آية الزمر وُصِفَ (الله) بالعزة والانتقام في قوله: {أليس الله بعزيز ذي انتقام} (الزمر:37) وذَكَر ما يدل على العظمة بقوله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} (العنكبوت:61) فذكر الاسم الدال على العظمة، ووذكر في آية يس ما يدل على الرحمة بقوله: {الذي فطرني} (يس:22) فإنه نعمة هي شرط سائر النعم، فقال: {إن يردن الرحمن بضر} ثم قال تعالى: {لا تغن عنى شفاعتهم شيئا ولا ينقذون} على ترتيب ما يقع من العقلاء؛ وذلك لأن من يريد دفع الضر عن شخص أضر به شخص، يدفع بالوجه الأحسن، فيشفع أولاً، فإن قَبِلَه وإلا يُدْفَع، فقال: {لا تغن عني شفاعتهم} ولا يقدرون على إنقاذي بوجه من الوجوه.
ولما أخبر سبحانه عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى بأنه أظهر في دعوته لقومه إلى عبادة الله تلطفه بهم، ومداراته لهم، وإشفاقه عليهم بقوله: {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون} (يس:22) ناسب ذلك ذكر الاسم المنبئ عن الرحمة؛ وهو {الرحمن} المتصف بـ (الرحمة) على وجه التمام والكمال. وكيف لا يذكر هذا الاسم الجليل، وقد سبقه الكفرة إلى ذكره عندما قالوا: {قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن} (يس:15)؟ فهو أولى بذكره منهم!
قال القرطبي: "أضاف (الفطرة) إلى نفسه {فطرني}؛ لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر، وأضاف (البعث) إليهم {وإليه ترجعون} لأن ذلك وعيد يقتضي الزجر، فكان إضافة النعمة إلى نفسه أظهر شكراً، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ أثراً".
وقال ابن عاشور: "اختيار وصف {الرحمن} في حكاية قول الكفرة: {وما أنزل الرحمن من شيء} (يس:15) لكونه صالحاً لعقيدة الفريقين؛ لأن اليونان لا يعرفون اسم (الله)، ورب الأرباب عندهم هو (زفس) وهو مصدر الرحمة في اعتقادهم، واليهود كانوا يتجنبون النطق باسم (الله)، الذي هو في لغتهم (يهوه) فيعوضونه بالصفات".
وفي هذه الآيات حصل بيان أن الله تعالى معبود من كل وجه؛ فبالنظر إلى ذاته سبحانه، فهو فاطر خالق، وربٌّ مالك، يستحق العبادة، سواء أحسن بعد ذلك أو لم يحسن، وبالنظر إلى إحسانه، فهو رحمان، وإن كان نظراً إلى الخوف، فهو يدفع ضره، وحصل بيان أن غيره لا يصلح أن يُعبد بوجه من الوجوه، فإن أدنى مراتبه أن يعد ذلك ليوم كريهة، وغير الله لا يدفع شيئاً إلا إذا أراد الله، وإن يرد فلا حاجة إلى دافع.