الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الدَّيْن في الهَدْي النبوي

الدَّيْن في الهَدْي النبوي

الدَّيْن في الهَدْي النبوي

فَاضَل الله عز وجل بين عباده في الرزق، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}(الأنعام:165). والدنيا كما هو معلوم دار ابتلاء، والكلٌ فيها مُبْتَلى، فالبعض مُبْتلى بقلة الرزق والحاجة، والآخر مبتلى بالرخاء والسعة، قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(الأنبياء:35). قال ابن كثير: "يقول: نبتليكم بالشر والخير فتنة، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغِنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية والهدى والضلال". فالذين ابتلاهم الله بالخير، ووسَّع عليهم أرزاقهم، يلزمهم شكر المُنْعِم سبحانه، ومساعدة الفقراء، والإحسان إلى الناس.. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ومَنْ كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَنْ سعى في قضاء حاجة أخيه، قضى الله حاجاته، ومَنْ فرَّج عن أخيه كُربة، فرَّج الله عنه بها كُربة مِنْ كُرَب يوم القيامة) رواه البخاري.
ومِنْ باب مساعدة الفقراء، وبَذْلِ الفضل للناس: إقْراض المُحتاجين والمُعْسِرين منهم.. والدَّيْن لغة في "المصباح المنير": القَرْض"، وفي المعجم الوسيط: "هو القرض ذو الأجل". وفي الاصطلاح: عرفه الشوكاني في "فتح القدير" بقوله: "الدَّيْن اسم لمال واجب في الذِمَّة، يكون بدلاً عن مال أتلفه، أو قرض اقترضه". والدَّيْن أمانة ثقيلة ومِنْ ثم فالمسلم لا يستدين إلا لحاجة وضرورة، ولثِقَل أمره وخطورته كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه لِما فيه مِن هَمٍّ وكَرب. عن أنس رضي الله عنه قال: (كُنْتُ أسْمَعه صلى الله عليه وسلم يُكْثِر أنْ يقول: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بك مِنَ الهَمِّ والحَزَن، والعَجْز والكَسل، والبُخْل والجُبْن، وضَلَعِ (ثِقل) الدَّيْن، وغَلَبَة الرِّجال) رواه البخاري. وعن عبد الله بنِ عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللَّهمَّ إني أعوذُ بك من غلبة (ثقل) الدَّيْن، وغلبةِ العدوِّ، وشماتةِ الأعداء) رواه النسائي..

التشديد النبوي في أَمْر الدّيْن:
جاء الهَدْي النبوي بالتشديد في أمر الدّيْن، وبُعْد المسلم عنه ما أمكنه ذلك، والتحذير مِنَ التَّهاون في أَدائه لأصحابه، حتَّى لا يَأْتِي المُسْتَدين والمُقْتَرِض أجَلُه وفي ذِمَّتهِ دَينٌ لِأحد. والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة، ومنها:
1 ـ عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رَسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة ويقول: (اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ المَأْثَمِ والمَغْرَم (هم الدَيْن)، فَقالَ له قَائِلٌ: ما أكْثَرَ ما تَسْتَعِيذُ يا رَسولَ اللَّهِ مِنَ المَغْرَمِ؟ قال: إنَّ الرَّجُل إذا غَرِم (استدان) حَدَّثَ فَكَذَب، ووَعَدَ فأخْلَف) رواه البخاري.
2 ـ عن مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ رضي الله عنه قال: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ رَأْسَه إلى السماء، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَه عَلَى جَبْهَتِه ثُمَّ قال: سُبْحَان اللَّه! ماذَا نُزِّل مِنَ التَّشْدِيد؟ فَسَكَتْنَا وفَزِعْنا، فَلَمَّا كان مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُه: يا رسول اللَّه، مَا هَذَا التَّشْدِيد الَّذِي نُزِّل؟ فقال: والذي نَفْسِي بِيَدِه! لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سبِيل اللَّه ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِل، ثُمَّ أُحْيِي، ثُمَّ قُتِل، وعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَل الْجَنَّة حَتَّى يُقْضَى عَنْه دَيْنُه) رواه النسائي.
3 ـ عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (قام رَجُلٌ فَقال: يا رسول اللهِ، أَرَأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَاياي؟ فقال له رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، إنْ قُتِلْتَ في سَبيلِ الله، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِب، مُقْبِلٌ غَيْر مُدْبِرٍ، ثُمَّ قال رَسول الله صلى الله عليه وسلم: كيفَ قُلْتَ؟ قال: أَرَأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ الله، أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَاي؟ فَقالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إلَّا الدَّيْن، فإنَّ جِبْرِيل عليه السلام قالَ لي ذلك) رواه مسلم. وفي الحديث: التنبيهٌ على أهمية حقوقِ الآدَمِيِّينَ، وأنَّ الجهاد والشَّهادة وغيرهما مِن أعمالِ البِرِّ لا يُكفِّر حقوق الآدَمِيِّين، وإنَّما يُكفِّر حقوق الله تعالى، وفيه كذلك التَّحذير النبوي الشديد مِنَ التَّساهُلِ في الدَّيْنِ، وأنَّه لا ينبغي لِلإنْسان أنْ يَتَساهل في قضاء الدَّيْنِ..
4 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفسُ المؤمنِ معلَّقةٌ بِدَينِه حتَّى يُقضَى عنه) رواه الترمذي. قيل: إنَّ هذا مُقيَّدٌ بمَن قدَر على القَضاءِ وخالَف في الوفاء به، فهذا حثٌّ لورَثتِه على قَضائِه، أمَّا الَّذي لم يكُنْ له مالٌ وكان في نفْسِه الحِرص على القضاء، فإنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي يَقضِي عنه، كما جاء عِندَ البخاريِّ عن أبي هريرةَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَن أخَذ أموالَ النَّاسِ يُريد أداءَها أدَّى اللهُ عنه، ومَن أخَذها يريد إتلافَها أتلَفَه الله) رواه البخاري. قال ابن عبد البر في "التمهيد": "والدَيْن الذي يُحبَسُ به صاحبُه عن الجنة، والله أعلم، هو الذي قد تَرك له وفاءً ولم يوص به، أو قدر على الأداء فلم يؤد، أو ادَّانه في غير حق، أو في سرف ومات ولم يؤده. وأما مَنْ ادَّان في حق واجب لفاقةٍ وعُسرة، ومات ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه به عن الجنة إن شاء الله".
لم يأت كل هذا التشديد النبوي في أمر الدَيْن إلا لما فيه من المفاسد. قال القرطبي: "قال علماؤنا: وإنما كان شينا ومذلة (أي الدَيْن) لِما فيه مِِن شغل القلب والبال، والهم اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه، وربما يعد من نفسه القضاء فيُخْلِف، أو يُحَدِّث الغريم بسببه فيكذب، أو يحلف له فيحنث، إلى غير ذلك، وأيضا فربما قد مات ولم يقض الدين فيرتهن به، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نفسُ المؤمنِ معلَّقةٌ بِدَينِه حتَّى يُقضَى عنه)".

الدائن والمُقْرِض:
ـ على الدائن والمُقرض لغيره أن يستشعر فضل الله تعالى عليه، وتوسيعه عليه في رزقه، بما يعينه على عون الفقير المُعْسِر، ويقابل النعمة بشكر الله، والإخلاص له، وتخليص النية مما يشوبها ويفسدها مِن مراءاة الناس وانتظار تعظيمهم له، أو المِنَّة على المُقْترِض منه. وأول وأعظم ما ينبغي أن يتنزه عنه الدائن في دَيْنه: أكل الربا فيه، وذلك باشتراط زيادة في المال عند السداد، فهذا مِن أكبر الكبائر، وصاحبه مُتوعَّد بالحرب من الله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}(البقرة: 278 - 279).
ـ إنظار المُعْسِر: إذا عَجَز المُقْتَرِض والمَدِين عن وفاء الدَيْن فعلى المُقْرِض والدائن أنْ يُنْظِره ويمهله، ويطلب دينه بأدب ورفق.. عن عبد الله بن عمر وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ طالبَ حقًّا فليطلبْه في عفافٍ (عن الحرامِ وسُوء المُطالَبة وإطلاق اللِّسان بما لا يحِل) وافٍ أو غيرِ واف) رواه ابن ماجه. وعن جابرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشْتَرَى، وإذا اقْتَضَى) رواه البخاري. (وإذا اقْتَضَى) أي: وإذا طَالَب بقَضاء الدُّيون الَّتي له، فلا يُشدِّد على الفَقيرِ والمُحْتاج، بلْ يُطالِبه برِفْقٍ ولُطْف، ويُنظِر ويُمْهِل المُعسِر..
ـ ومِن أفضل صور السماحة للدائن والمُقْرِض في أمر الدَّيْن التجاوز عن المُعسر، وإنظاره في الدَّين الذي حلَّ سداده، فإنظار المعسر سبب في مغفرة الذنوب وتفريج الكروب من الله تعالى. عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تلَقَّتِ المَلائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ، فقالوا: أعَمِلْتَ مِنَ الخَيْرِ شيئًا؟ قالَ: لا، قالوا: تَذَكَّرْ، قالَ: كُنْتُ أُدايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيانِي أنْ يُنْظِرُوا المُعْسِرَ، ويَتَجَوَّزُوا عَنِ المُوسِرِ، قالَ: قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: تَجَوَّزُوا عنْه) رواه مسلم. وعن عبد الله بن أبي قتادة: (أنَّ أَبَا قَتَادة طَلَب غَرِيمًا (مَدينا) له، فَتَوارَى عنْه، ثُمَّ وجَدَه، فقال: إنِّي مُعْسِر، فقال: آللَّه (يستحلفه بالله أنَّه ليس عندَه مال)؟ قال: آللَّه؟ قال: فإنِّي سَمِعْتُ رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم يقول: مَن سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَه اللَّهُ مِن كُرَبِ يَوم القِيَامَة، فَلْيُنَفِّسْ عن مُعْسِر (يُسقِطْ بَعضَ الدَّيْنِ أو كُلَّه)، أَوْ يَضَع عنْه) رواه مسلم.

المَدِين والمُقْتَرِض:
على المدين استحضار نية الأداء عند الأخذ، والعزم على ذلك. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومَنْ أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري. وعليه كذلك المسارعة بتسديد الدَين وعدم تأخير السداد عند القدرة على القضاء، فهذا أقل ما يُقابل به معروف الدائن، والتأخر في السداد مع القدرة عليه من الظلم المُحرم. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَطْلُ (التسويف وعدم القضاء) الْغَنِيِّ ظُلْم) رواه البخاري.
وإذا حان وقت السداد، ولم يجد المَدينُ والمُقْتَرِض ما يرد به دَيْنه، فينبغي عليه أن يجتهدَ في الوفاء ولو أن يستدين مِنْ آخر ليرد للأول، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كان عليه، فَاشْتَدَّ عليه، حتى قال له: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا قَضَيْتَنِي (أُوقِعُك في الحرَجِ والضِّيق إلَّا قَضيتَني بدَيني)، فَانْتَهَرَه (زَجَره) أَصْحَابُه، وقالوا: وَيْحَك (كلمة ترحُّمٍ وتوجُّع، تُقال لمَن وقَعَ في هَلكةٍ لا يستحِقُّها، وذلك لتعدِّيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم) تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ؟! قال: إني أطلب حقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ (وهو الأعرابيُّ، وذلك مِن حُسنِ خُلقِه صلى الله عليه وسلم)؟ ثم أرسل إلى خَوْلَةَ بنت قيس فقال لها: إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينا حتى يَأْتِيَنَا تَمْرُنا فَنَقْضِيَك، فقالت: نَعَمْ، بِأَبِي أَنْتَ يا رسول اللَّه (أي أُفْدِيك أنت بأبي يا رسولَ الله)، قال: فَأَقْرَضَتْه، فقضى الأعرابي (أدَّى إلى الأعرابيِّ حَقَّه ودَينَه)) رواه ابن ماجه.
وعلى المُقْترِض أن يرُد قَرْضَه ودَيْنه بأفضل منه، مِن غير أن يكون هذا شرطاً عليه حين استدان، ولا عُرفاً لازماً تعارف الناس عليه، حتى لا يكون ذلك من الربا. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كانَ لي علَى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ دَيْنٌ، فَقَضَانِي وَزَادَنِي) رواه مسلم.
قال النووي: "قوله كان لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم دَيْن فقضاني وزادني: فيه استحباب أداء الدَيْن زائدا. والله أعلم". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كانَ لِرَجُلٍ علَى رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَيْن، فَهَمَّ به أصْحَابُه، فقال: دَعُوه (اتركوه)، فإنَّ لِصَاحِب الحَقِّ مَقَالًا، وقال: اشْتَرُوا له سِنًّا (جملا)، فأعْطوها إيَّاه، فَقالوا: إنَّا لا نَجِدُ سِنًّا إلَّا سِنًّا هي أفْضَلُ مِن سِنِّهِ، قال: فَاشْتَرُوهَا، فأعْطُوهَا إيَّاه، فإنَّ مِن خَيْرِكُمْ أحْسَنَكم قضاء) رواه مسلم. قال ابن حجر: "وفي الحديث جواز المطالبة بالدَيْن إذا حلَّ أجلُه، وفيه حسن خُلقِ النبي صلى الله عليه وسلم وعِظَم حِلمه، وتواضعه وإنصافه، وأنَّ مَنْ عليه دَيْن لا ينبغي له مجافاة صاحبِ الحق.. وفيه جواز وفاء ما هو أفضل من المِثل المقترَض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد، فيحرم حينئذ اتفاقاً وبه قال الجمهور".
ومما ينبغي كذلك على المَدين: أن يشكر الدائنَ على إحسانه، ولو بكلمة طيبة، يشكر له فيها معروفه. عن عبد الله بن أبي ربيعة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استلفَ منْه حينَ غزا حُنينًا ثلاثينَ أو أربعينَ ألفًا، فلمَّا قدِمَ قضاها إيَّاه، ثمَّ قال له النبي صلى اللَّه عليْه وسلم: بارَك اللَّهُ لَكَ في أَهلِك ومالِك، إنَّما جزاء السَّلف الوفاء (أداء الدَّين بحُسنِ الوفاء) والحمد) رواه ابن ماجه..
وقد أمر الله تعالى بكتابة الدَيْن فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}(البقرة:282). قال السعدي: "الأمر بكتابة جميع عقود المداينات، إما وجوبا وإما استحبابا لشدة الحاجة إلى كتابتها، لأنها بدون الكتابة يدخلها مِن الغلط والنسيان والمنازعة والمشاجرة شر عظيم". وقال أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن": "ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد لنا إلى ما لنا فيه الحفظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئاً منه غير واجب". والأوْلى للمسلم أن يكتب الدَيْن الذي عليه أو له امتثالاً لأمر الله تعالى، وحفظاً للحقوق..

ما زال الناس يحتاج بعضهم إلى بعض، فيستدين المحتاج مِنْ أخيه ما يقضي حاجته، ويرده إليه بعد حين، فتُفرج كربته، ويشاركُه أخوه ـ المَدِين ـ فرحته، وينال الأجر من ربه، وقد استجاب أصحاب الديون ـ مِن الصحابة رضوان الله عليهم ـ للترغيب الصادر مِنَ النبي صلى الله عيه وسلم، فأنظروا وأمْهلوا المُعْسِرين إلى آجال طويلة حتى يستطيعوا الوفاء بها، بل وتجاوزوا عنهم، واستجاب كذلك مَنْ عليهم الديون بالمبادرة في سدادها وأدائها حين استطاعوا.. لقد حَرص النبي صلى الله عليه وسلم كل الحرص على إقامة عَلاقات طَيِّبة بين المسلمين، فيها التَّكافُل والتَّرابط والمحبَّة والتَّعاون، وحَثَّ مَنْ له حَقٌّ عند أحد ـ مِنْ دَيْنٍ أو غيره ـ أنْ يطلُبَه برِفْق، وأمَرَ مَن عليه الحقُّ بعدَمِ المُماطَلة، وحث كذلك مَنْ عليه حق مِنْ دَيْن أو غيره أن يسارع لسداد ما عليه.. ومِنْ ثم ففي اتباع هَدْي وسُنة النبي صلى الله عليه وسلم ـ في الدَيْن وغيره مِنْ أمور الحياة كلها ـ ما يحفظ الفرد والمجتمع مِنْ أسباب الخلاف والتشاحن، والهم والغم، ويقارب ويؤلف بين المسلمين، ويزيد محبتهم، ويحقق ترابطهم وأخوتهم.. قال الله تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7). قال ابن كثير: " أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر"..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة