الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الخصائص اللغوية لرواية حفص

الخصائص اللغوية لرواية حفص

الخصائص اللغوية لرواية حفص

تُعدُّ رواية حفص بن سليمان (ت180هـ) عن عاصم بن بهدلة (ت127هـ) من أشهر القراءات القرآنية، حيث يُقرأ بها في العديد من أقطار العالم الإسلامي، وخاصة في مشرقه، ولا شك أن لهذه الشهرة عوامل عدة، ليست هذه السطور مخصصة لبيانها، بل الغرض هنا الوقوف على جملة من الخصائص اللغوية لرواية حفص، والتي -لا شك- كان لهذه الخصائص دور -قليل أو كثير- في انتشار هذه القراءة على مساحة واسعة من العالم الإسلامي. فلننظر في جملة الخصائص اللغوية في قراءة حفص.

بداية لا بد من التذكير أن ثمة تداخل وتوافق بين شطري الجزيرة العربية -موطن اللغة العربية- شرقاً وغرباً من حيث السمات اللغوية، ما يؤكد دحض مزاعم المستشرقين الخاصة بتقسيم الجزيرة كتلتين: شرقية وغربية، لكل منهما سمات خاصة تنفرد بها عن الأخرى. فـ (الانسجام الصوتي) سمة اتسمت بها القبائل العربية شرق الجزيرة وغربها، ولم تستأثر بها بعضها دون بعض. وأيضاً (الفتح) و(الإمالة) ظاهرتان لغويتان شاعتا في القبائل العربية شرقاً وغرباً، ولم تستأثر قبائل شرق الجزيرة بالإمالة، كما أنه لم تستأثر القبائل الحجازية بالفتح، بيد أنه غلب الفتح على لغة الحجاز، في حين اشتهرت القبائل البدوية بالإمالة. و(الهمز) و(التسهيل) ظاهرتان لغويتان فاشيتان في اللهجات العربية، وربما يمثل الهمز اللغة الأولى، والتسهيل أحد مظاهر التطور اللغوي نحو التخفيف. وإثبات (ياءات الزوائد) وحذفها سمتان لغويتان شاعتا في اللغة الحجازية، كما عرفتهما قبائل شرق الجزيرة العربية. كذلك الأمر بالنسبة لـ (ياءات الإضافة) إسكانها وتحريكها، غير أن الغالب لغة الإسكان؛ وهي كذلك في قراءة حفص.

وظاهرتا (التشديد) و(التخفيف) شائعتان في اللهجات العربية شيوعاً بارزاً، و(التشديد) يعني الزيادة في حروف الكلمة على حروفها الأصلية، سواء أكانت هذه الزيادة بتضعيف عين الكلمة، أو بتكرار أصوات مماثلة، فإذا ما جُرِّدت الكلمة من أي زائد صارت مخففة، بل إذا تغير شكل الكلمة دون حذف الزائد فهو شكل من أشكال التخفيف، وثمة مظاهر أربعة للتخفيف: تخفيف بالإبدال، وتخفيف بالتجرد، وتخفيف بالإدغام، وتخفيف بالحذف.

و(التشديد) سمة من سمات القبائل البدوية شرق الجزيرة ووسطها، وتتمركزها قبيلة تميم شهرة؛ وذلك لما في طبعها من جفاء وغلظة، وبهذا يتميز نطقهم بسلسلة من الأصوات القوية السريعة التي تطرق الآذان، وفيهم نزل قوله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} (الحجرات:4) ودعاهم القرآن إلى خفض الصوت في قوله: {واغضض من صوتك} (لقمان:19). و(التشديد) سمة من السمات التي كانت عليها العربية في مراحلها المتقدمة، داومت بعض القبائل على استعماله، وأخرى عدلت عنه ميلاً نحو التخفيف، وربما كان معظمها من تلك القبائل التي غدت على درجة من الرقي والتحضر؛ ليتواءم ذلك وتحضرهم، والقبائل المتحضرة تلك متمثلة في القبائل الحجازية. وقراءة حفص قراءة حجازية، ومن ثم فإن كل الظواهر التي احتضنتها هذه القراءة ظواهر استخدمتها لغة الحجاز، سواء أقل استخدامها أم كثر.

بعد هذا نشرع في بيان ما عقدنا المقال لأجله فنقول: زاوجت قراءة حفص في الاستعمال بين الصيغ (المجردة) والصيغ (المزيدة)، فبينما آثرت الصيغة المزيدة في بعض الصيغ، آثرت الصيغة المجردة في صيغ أخرى، بل استعملت الصيغتين في الفعل الواحد في موضعين مختلفين، مثل (أسرى) و(سرى)، (أسقى) و(سقى)، وهذا يشير إلى أن الصيغتين شاعتا في البيئة اللغوية الحجازية، مما يضعف الرؤية التي نسبت صيغة (المزيد) لتميم، وصيغة (المجرد) للحجاز. وآثرت الصيغة (المتعدية) وهذا يعنى أن التركيب لا تتم دلالته إلا بنصب مفعول؛ حيث توجب هذه الصيغة وجود مفعول في الجملة، أما الصيغة (المجردة) فتكتفي بفاعلها وبه تتم دلالة التركيب، والصيغة المتعدية صيغة خفيفة، اتسمت بها لغة الحجاز، ولعل إيثار هذه الصيغة يعد مظهراً من مظاهر التطور اللغوي نحو التخفيف.

وتبيِّن ظاهرة (تناوب أصوات المد القصيرة) أن لغة الحجاز قد استعملت الحركات الثلاث في الكلمات التي تناوبت الحركات على (فائها)؛ فتارة تستعمل الضم، وأخرى تميل إلى الكسر، وكثيراً ما تؤثر الفتح؛ ولذا كان الفتح أكثر أصوات المد وضوحاً بارزاً في قراءة حفص، ومرجع ذلك إلى خفة الفتح، حيث يتواءم ذلك وتحضر القبائل الحجازية -موطن قراءة حفص- ويُعدُّ الضم مرحلة سابقة للكسر والفتح، كما يُعدُّ الكسر مرحلة ثانية، أما الفتح فهو مظهر من مظاهر التطور اللغوي نحو التخفيف، وتناوب أصوات المد قد يكون له أثر دلالي أحياناً، وغالباً ما يكون له أثر صرفي، حيث تكون إحدى القراءتين اسماً، والأخرى مصدراً، وقد لا يعدو كونه لغات في الكلمة نفسها.

وظاهرة تحريك (عين) الكلمة وإسكانها تبين أن قراءة حفص قد احتفظت بنماذج كثيرة من اللغتين، وهذا يعنى أن لغة الحجاز لم تؤثر المقاطع المفتوحة فحسب، كما أنها لم تؤثر المقاطع المغلقة، وإنما جمعت بينهما، والأصل التحريك أو المقطع المفتوح، فهو يمثل اللغة الأولى، أما الإسكان أو المقطع المغلق فيعد لغة ثانية، لجأت إليه اللغة تخفيفاً؛ ومن ثم فهو أحد مظاهر التطور اللغوي نحو التخفيف.

ظاهرة (التذكير والتأنيث) تبين أن قراءة حفص قد جاءت موافقة تماماً لقواعد النحاة الخاصة بهذه الظاهرة، إذ ذكّرت الكلمات المؤنثة لفظاً التي فصل بينها وبين أفعالها فاصل، وأنّثت الكلمات التي لم يفصل بينها وبين أفعالها فاصل. وحينما يتنازع فاعلان أحدهما مذكر والآخر مؤنث على الفعل، فإن قراءة حفص تؤثر الأقوى، وهو المذكر.

وتبين ظاهرة (الإفراد والجمع) أن قراءة حفص قد جمعت بينهما، وهذا يرجع إلى أن تلك الكلمات التي تنوعت قراءتها ما بين الإفراد والجمع قد احتملها الرسم العثماني؛ لأن شكلها واحد.

وظاهرة (الممنوع من الصرف) تبين أن قراءة حفص قد جاءت موافقة لقواعد النحاة في هذه الظاهرة؛ حيث إنها لم تصرف اسماً فيه علة تمنعه من الصرف.

وتبين ظاهرة (المصادر والمشتقات) أن قراءة حفص جاءت على البناء القياسي للمصادر والمشتقات، وأن الخلاف في القراءات القرآنية قد يحوّل المصدر أو المشتق من صورة إلى أخرى، وقد يكون الخلاف في القراءتين مجرد خلاف لهجات، وقد يكون له تأثير دلالي.

وقد جمعت قراءة حفص بين الإسناد للفاعل والإسناد للمفعول، وإن كاد الإسناد للفاعل يكون أكثر، ويمكن القول: إن الإسناد للفاعل يفيد التخصيص والتحديد؛ حيث يتضح الفاعل في حين أن الإسناد للمفعول غالباً ما تكون دلالته التعميم والإبهام، ولكلٍّ دلالة بلاغية تتضح من خلال السياق، وتكاد قراءة حفص تكون قد حافظت على إبراز تلك الدلالة.

وآثرت قراءة حفص الزمن الماضي في المواضع التي بحاجة إلى شديد تأكيد؛ لأن الماضي أشد توكيداً، والدليل على ذلك أنه يُستعمل في موضع الاستقبال، ولا سيما إذا كان شرطاً كما في (تطوَّع)، والماضي له دلالة بلاغية؛ حيث يجعل أسلوب الكلام أسلوباً خبريًّا، وآثرت الأمر في المواضع التي لا تحتمل الشك؛ حيث أن الأسلوب إنشائي أمري، وغالباً ما يأتي ذلك في المواضع التي يأمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر قومه بأمر لم يُسبق إليه.

من ناحية أخرى، ساعدت قراءة حفص على تأكيد القاعدة التي تجيز النصب على جواب الاستفهام بـ (الفاء) سواء الاستفهام عن الحكم، أو المسند إليه الحكم، وكذا التي تجيز النصب بـ (الفاء) على جواب الترجي. وجمعت بين الضمائر الثلاثة للفاعل المضمر، ودلالة التنوع بلاغية تتمثل في مظهرين:

الأول: اتحاد السياق، وهذا يعنى مجيء الكلام على نسق واحد في الآية التي تجعل فعلاً تنوعت قراءته، وقد جاء في قراءة حفص موافقاً لما قبله أو ما بعده من الأفعال من حيث ضمير الفاعل.

الثاني: الالتفات، وهذا يعنى أن الفعل الذي تنوعت قراءته قد جاء في قراءة حفص مخالفاً لما قبله أو ما بعده من حيث الفاعل المضمر، والالتفات من محاسن الكلام؛ حيث يؤدي إلى تنوع الأسلوب، والتنوع أحسن تطرية وتجديداً لنشاط السامع، وأكثر إيقاظاً للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد.

إضافة إلى هذا، فإن المخالفة بين الضمائر يمكن أن تكون مجالاً خصباً لدلالات متعددة، تتوقف على صياغة النص، وربما كانت تلك الدلالات مما توخاه عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) من نظرية (النظم) التي سبق بها دعاة النظريات اللغوية الحديثة التي تحلل النص تحليلاً أسلوبيًّا.

في الكلمات التي قُرئت بالنصب والرفع، آثرت قراءة حفص (النصب)، والعامل فيه مقدر، وهو في الغالب (فعل)، والمنصوب مفعول، و(النصب) هنا له أثر على التركيب، فبينما دلالة الرفع أن الجملة اسمية (مبتدأ وخبر) تفيد دلالة النصب أن الجملة فعلية (فعل، وفاعل، ومفعول)، والفتح أخف من الضم، ولعله أحد مظاهر الخفة التي اتسمت بها لغة الحجاز التي تمثلها قراءة حفص.

ثم إن الكلمات التي جاءت في قراءة حفص بالرفع تبين أن دلالة هذه الحركة أنها تجعل الكلمة تمثل تركيباً مستقلاً داخل التركيب الكلي للآية، في حين أن نصبها يجعلها -لا شك- مرتبطة بما قبلها من الكلام، ولعل تعدد تركيبات قصيرة الكلمات أشد توكيداً من تركيب واحد كثير الكلمات، فضلاً عن أن الرفع أقوى من النصب، فالرفع عمدة والنصب فضلة.

والكلمات المنصوبة بعد (كان) تبين أن قراءة حفص آثرت أن يكون التركيب جملة اسمية مسبوقة بفعل ناقص، على حين أن الرفع دلالته أن الجملة فعلية فعلها تام لازم، ويمكن القول بأن قراءة حفص لم تستعمل (كان) تامة، بل تستعملها ناقصة. ففي قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} (البقرة:177) وما ماثله فإن قراءة حفص جاءت على اللغة الفصحى؛ حيث نصبت الاسم المعرف بـ (أل) على أنه خبر مقدَّم، والمصدر المؤول اسم (ليس) مؤخراً، وكان المصدر أولى أن يكون اسماً؛ لأنه لا يتنكر، و(البر) قد يتنكر، و(أن والفعل) أقوى في التعريف، ومثله قوله سبحانه: {ما كان حجتهم إلا أن قالوا} (الجاثية:25) و{ثم كان عاقبة الذين أساؤا السواى} (الروم:10) و{فكان عاقبتهما أنهما في النار} (الحشر:17). يضاف إلى هذا أن المعنى النحوي المتوخَّى من التقديم والتأخير هو التوكيد. ويلاحظ أن قراءة حفص في موقفها من الكلمات التي تنوعت قراءاتها ما بين النصب على أنها ظروف، والرفع على أنها أسماء، آثرت النصب على الظرفية، نحو قوله سبحانه: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا} (الانفطار:19) بنصب {يوم} على الظرفية.

والكلمات المضافة على زنة اسم الفاعل، واسم الفاعل إذا نُوِّن أفاد دلالة الحال والاستقبال، وإذا لم ينون اختصت دلالته بالماضي، وقد لا ينون مع إفادته الاستقبال، وإنما يحذف التنوين تخفيفاً، وهو كثير في كلام العرب، وحذفه حسن، وعليه قراءة حفص، كما في قوله تعالى: {وأن الله مُوهِنُ كيد الكافرين} (الأنفال:18) وقوله سبحانه: {إن الله بالغُ أمره} (الطلاق:3).

وتعدد القراءات القرآنية أدى إلى تنوع الأساليب ما بين الخبر والإنشاء (الاستفهام)، وقد زاوجت قراءة حفص بينهما، فقرأت بعض الآيات على الخبر، وقرأت آيات أخَر على الاستفهام؛ فمما قُرئ على الخبر في قراءة حفص قوله سبحانه: {إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء} (الأعراف:81)، قرأ حفص بهمزة واحدة على الخبر، وقُرئ بهمزتين على الاستفهام، و(الخبر) تفسير للفاحشة الموضحة في قوله تعالى: {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} (الأعراف:80) فلم يَحْسُن إدخال ألف الاستفهام عليه؛ لأنها تقطع ما بعدها مما قبلها، ورجح الكسائي (ت189هـ) وأبو عبيد (ت224هـ) وغيرهما قراءة الخبر.

أما (أسلوب النداء) فانحصر الخلاف بين القراءات في ضبط حركة المنادى، أو المضاف إلى المنادى (ابن)؛ ففي قوله تعالى: {يا أبت} (يوسف:4، 100) (مريم:42، 43، 44، 45) (القصص:26) قُرِئ بكسر التاء وبفتحها، والكسر قراءة حفص، ودلالة الكسر أنه أراد الإضافة إلى النفس، فاجتزأ بالكسرة من الياء؛ لكثرة الحذف في النداء، والكسر اللغة الفاشية المستعملة، وهو الاختيار عند مكي بن أبي طالب (ت437هـ).

وجمعت قراءة حفص بين كسر (إن) وفتحها في مواضع كثيرة؛ ودلالة الكسر غالباً القطع والابتداء والاستئناف، فتؤثر الكسر حينما تريد قطع ما قبل (إنّ) عما بعدها، أما إذا أرادت أن تربط بين ما قبلها بما بعدها فتحت؛ لأن الفتح دلالته ارتباط الكلام بعضه ببعض؛ ليسير على نسق واحد والمعنى مرتبط بعضه ببعض؛ فثمة مواضع كثيرة لـ (إنّ) قُرئت بكسر الهمزة وفتحها، والكسر قراءة حفص، من ذلك قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين} (هود:25) فالكسر على الاستئناف والابتداء الذي يأتي بعد القول؛ لأن في الإرسال معنى القول، أو القول محذوف، والأصل (فقال: إني)، وهذا كثير مستعمل في القرآن وكلام العرب، ومنه قوله عز وجل:{والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم} (الرعد:24) أي: يقولون: سلام عليكم، ومن ثم رجح بعض العلماء قراءة الكسر؛ لأنه على الأصل في وقوعه بعض القول المضاف إلى القائل؛ إذ إنه مُخْبِرٌ عن نفسه. كذلك فإن قراءة حفص قد وافقت القاعدة العامة للنحاة الخاصة بـ (إن) المخففة من الثقيلة، فالقاعدة الإهمال، وعليه قراءة حفص، وكذلك (إن) النافية مع (لما) حينما تكون بمعنى (إلا).

ومما جاء مفتوح الهمزة في قراءة حفص، مكسورها في قراءات أخرى، قوله سبحانه: {كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم} (الأنعام:54) والفتح دلالته أنه أعمل الكتابة في الأولى، وجعل الثانية معطوفة عليها، والمعنى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة بأنه من عمل..) فلما أسقط الخافض، وصل الفعل إلى (أن) فعمل فيها الفتح.

والحرف (ربما) لم يرد في القرآن إلا في موضع واحد، تنوعت قراءته بين التشديد والتخفيف، وكان التخفيف قراءة حفص، ورد في قوله سبحانه: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} (الحجر:2) والتخفيف لغة الحجاز، حيث نص العلماء على ذلك، وهو قراءة حفص، وقد ذكروا في دلالتها أنها تجمع بين التقليل والتكثير، والتكثير أكثر.

ثم إن العلماء اختلفوا حول إسكان (لام الأمر) بعد (ثم) فمنهم من منع ذلك، ومن ثم لم يرجحوا قراءة حفص بالإسكان، أما الآخرون فقد أجازوا ذلك، واحتجوا بالقراءة في قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج:29) بإسكان (اللام) في الأفعال الثلاثة. وإسكان اللام مظهر من مظاهر التخفيف في اللسان العربي، ونلمس هذه الظاهرة في إسكان الهاء من (هو) و(هي) بعد (الفاء) و(الواو) و(اللام) و(ثم)، وهذه الظاهرة شائعة في قراءة أهل الكوفة إلا حفصاً، وربما يرجع هذا إلى أن قراءة حفص تتسم بالسمات اللغوية الحجازية، أما سائر قراءات الكوفيين فتتسم بالسمات اللغوية البدوية، كتميم.

أخيراً لا آخراً، فإن الحرف (لا) يعمل عمل (إن) إذا أريد به نفي الجنس بأسره، وأن يليها اسمها، وألا تتكرر، فإذا ما تكررت جاز الإعمال والإهمال، وقد جمعت بينهما قراءة حفص، وكلتاهما لغة حجازية؛ لأن قراءة حفص حجازية، ومثاله قوله عز وجل: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (الحج:197) قُرئ {فلا رفث ولا فسوق} بالنصب من غير تنوين، وبالرفع منوناً، والأولى قراءة حفص، والنصب على أن (لا) هي (لا) التبرئة التي تعمل عمل (إن)، والاسم مبنى على الفتح، فزال التنوين؛ لأنه اسم نكرة، والإجماع على الفتح في {جدال} يقوي الفتح في {رفث} و{فسوق}؛ ليكون الكلام على نسق واحد.

ويلاحَظ أن كل الظواهر اللغوية التي برزت في قراءة حفص ظواهر شاعت في اللغة الحجازية، بصرف النظر عن إسناد العلماء كل ظاهرة لقبيلة ما، فكون قراءة حفص تحفظ لنا ظاهرة ما، يعني شيوع الظاهرة في لغة الحجاز؛ لأن قراءة حفص حجازية استناداً إلى السند المتواتر. وربما يُعين هذا على تفسير مقولة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لكتَّاب الوحي: (إذا اختلفتم في شي فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنه نزل بلسانهم) رواه البخاري.

ختاماً نشير إلى أمرين:

الأول: أن هذه الخصائص اللغوية التي اتسمت بها رواية حفص عن عاصم لا يقلل من مكانة القراءات القرآنية الأخرى، فالقراءات المتواترة كلها حجة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الأحوال كلها لا ينبغي ترجيح قراءة على أخرى، وهذا لا يمنع أن يكون لكل قراءة خصائصُ ليست في قراءة أخرى؛ فالقراءات المتواترة ذات سند متصل؛ فتقدَّم على قواعد النحاة، ورؤى المفسرين. والمعتمد في هذا السياق ما قاله ابن خالويه (ت370هـ) من "أن القراءة سنة متَّبَعة، يأخذها لاحق عن سابق، ولا تُجْعَلُ على قياس العربية".

الثاني: أن قراءة حفص قد جاءت موافقة لقواعد النحاة، ولم ترد بها ظواهر لغوية شاذة، وربما ساعد ذلك -إضافة إلى أمور أخرى- على نشرها وشيوعها في غالب أقطار العالم الإسلامي.

* مادة المقال مستخلصة من كتاب (الخصائص اللغوية لرواية حفص).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة