
من أعظم نعم الله على الإنسان أن وهبه عقلاً، يميزه عن بقية المخلوقات، وهذا العقل، أورث الإنسان فضلاً وكمالاً على جميع من على الأرض من مخلوقات أخرى، وأضاف له أعباء ومسئوليات، إذ اقتضى وجود العقل تكاليف، ومهمات واجبة النفاذ على أهل العقول والنهى.
قال سعيد بن جبر: "ما رأيت للإنسان لباسًا أشرف من العقل، إن انكسر صححه، وإن وقع أقامه، وإن ذل أعزه، وإن سقط في هوة جذبه بضبعه منها، واستنقذه منها، وإن افتقر أغناه، وأول شيء يحتاج إليه البليغ العلم الممتزج بالعقل".
وعن لقمان الحكيم أنه قال: "مهما كان الرجل عالماً فانه لا ينتفع بعلمه؛ ما لم يكن العقل لعلمه مصاحباً".
وقد بحث الأوائل عن ماهية العقل وكنهه، وقد أطال الفلاسفة وعلماء المنطق الكلام عن العقل، وخبطوا فيه مشرقين ومغربين، ومن أبسط وأوضح ما قيل في ذلك ما روي عن ابن المبارك وقد سُئل العقل خير أم الأدب؟ فقال: العقل، فقيل له: ما العقل؟ فقال: العقل تعلم العلم، والعمل بالعلم، أن تعلم أنه ينبغي أن تعمل، والعقل أنك متى علمت عملت".
ذلك لأن العلم هو الركيزة الأساسية في التقدم الإنساني، و الحضاري، فأي خطوة خطاها الإنسان في هذا التحضر والرقي؛ إنما هي نتاج النشاط الذهني، و التفكير الدؤوب المنبثق عن نعمة العقل التي كَرّم الله بها الإنسان، فالعقل كما يقول الغزالي "منبع العلم، و مطلعه، و أساسه".
وقد لاحظ الدارسون أن أصحاب العقول؛ هم أهل الجد والكد، الذين يستنبطون للبشرية ويستكشفون لها سبل العيش، وتذليل خيرات الأرض، وقد يتعب صاحب العقل و ينصب من أجل استكشاف جديد، وعلم مفيد، حتى قال المتنبئ:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله | وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم | |
وحفظ العقل من الكليات التي توافقت الأديان على صيانتها، وحفظها، وبالتالي وجب على الإنسان استعمال العقل، وعدم تعطيله، وحرم عليه تغييب عقله ووعيه.
وكم أشاد القرآن بالعقل وبين أن الاستفادة من النواميس الكونية شأن العقلاء دوماً {إنما يتذكر أولو الألباب}(سورة الرعد:19)، وقال جل من قائل: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها}(سورة الحج:46).
إذن أهل العقول هم من يستفيدون من دروس الحياة، ويصلون إلى المفهوم الحق لهذه الدنيا، فيبادرون إلى سلوك طُرق النجاة، ويجِدُّون السير في المسار الصحيح، لبلوغ الغايات، وسمو الحياة.
وكل من تأمل النصوص الشرعية وجد الإشادة الكبيرة بالعقل، والتنويه بقدر ذوي العقول، ومن ذلك يُعلم أن العقل من أهم الهبات الربانية، ومن اكتسبه أخذ بحظ وافر من الأعطيات.
قال ربنا: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}(سورة الإسراء:70).قالوا: "كرمهم بالعقل، فهو مناط التكليف، والخطاب الإلهي".
وقد دعا الإسلام للتعقل والتبصر، بل إن من وسائل استنباط الأحكام الشرعية استعمال العقل في استيعاب النصوص قال العز بن عبد السلام: "من أراد أن يعرف المتناسبات و المصالح و المفاسد، راجحها و مرجوحها، فليعرض ذلك على عقله، بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم يخرج عن ذلك".
بل إن الإسلام جعل التكاليف الشرعية مقرونة بالعقل، فكل تكليف بشرط العقل؛ كما قالوا.
هذا العقل يستطيع الإنسان أن ينميه، ويزيدَ من تألقه؛ وذلك عن طريق المعرفة، والرياضة العقلية، والتجارب الحياتية، حتى قال أحد الحكماء: "جميع الأشياء مفتقرة إلى العقل، والعقل مفتقر إلى التجربة، ولا غنى أعم من العقل، ولا فقر أشد من الجهل، وكل مَنْ كان علمه أكثر؛ كانت حاجته إلى العقل أوفر".
وقد ذم القرآن الكريم تعطيل العقل عن التفكير المتزن السليم الذي يصل بصاحبه إلى الحق، قال الله تعالى:{إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}(سورة الأنفال:22)،وقال سبحانه: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون}(سورة يونس:100).