
الذل: هو الهوان الذي يصيب الفرد أو الجماعة، وهو نقيض العز، ولتوضيح الأمر، يجب علينا أن نستعرض أسباب وطبيعة الذل والانكسار، فالذل ليس مجرد غياب العزة، بل هو حالة نفسية تتأثر بعوامل متعددة تحيط بالإنسان.
الطبيعة الإنسانية
من طبيعة النفس البشرية حب الحياة، والتشبث بها، ويسعى الإنسان لتحقيق رغباته وشهواته، كما يسعى أيضًا إلى أهداف سامية، وعند هذا المفترق، يتمايز الناس؛ فبعضهم يفضل تحمل المصاعب، حتى لو أدى به ذلك إلى فقدان حريته أو حياته، في سبيل قضية يؤمن بها، بينما آخرون يفضلون السلامة، حتى وإن كان ذلك يعني المساس بكرامتهم.
فحب النفس في رأي المتنبي هو ما يحمل الشجاع على شجاعته، وحب النفس هو أيضاً ما يحمل كذلك الجبان على جبنه:
أرى كــلنا يبغي الحـــياة لنفـسه .. .. حريصــا عليها مستهاما بها صــبا
فحب الجبان النفس أورثه التقى .. .. وحب الشجاع النفس أورده الحربا
فما أبعد الفارق بين النفسين!!، وما أكبر المسافة بين الغايتين!! وما أعظم الاختلاف بين ما يحبه هذا وما يحبه ذاك!!
فيختلف الرزقان والفعل واحد .. .. إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا
نعم! فالحياة حبيبة إلى الشجاع، ولكن ما الحياة التي تحبها نفس الشجاع؟ أهي ككل حياةٍ تحبها النفوس؟ لا وإنما هي حياة الحول، والطول، والمغامرة، والجلاد، وتجربة الأهوال، ومناهضة الخطوب، والصبر على عظائم الأمور، فهذه هي حياة الشجاع التي تُحَب وتُفتدى، فإن أذعنت له الدنيا بما يروم منها طابت له مقامًا، وطاب بها نفسًا، وإلا فلا خير في حياةٍ تفنى عناصرها ومقوماتها، ولا يبقى منها إلا شبحها! تلك حياة هي الموت بعينه أو الموت خيرٌ منها.
والحياة حبيبة إلى نفس الجبان، ولكن ما الحياة التي تحبها نفس الجبان؟ كل حياةٍ بلا حدٍ ولا قيد، أو كما وصف القرآن الكريم حياة اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ}، بذلك التنكير الذي لا تعرفه أل ولا إضافة، فإن تهيأ لها مركب العز سهلًا رخوًا، صعدت إليه عفوًا صفوًا، واتخذته رفاهةً ولهوًا، أما إن صال عليه صائل أو حال دون مرتقاه حائل، فلا كان العز، ولا كان من يأسى عليه!.
يقول العقاد: "الحياة كالموت، أشكال، فمن أشكال الحياة ما يكره وينبذ، ومن أشكال الموت ما يُحب ويُطلب، وعلى هذا لا تناقض بين حب المرء حياته، وحبه القوة في بعض الأحيان؛ لأنه قد يريد الحياة القوية حين يقتصر على ذكر الحياة، بل قد يكون طلب الحياة عنده مرادفًا لطلب الموت عند امرئٍ سواه".
الذل موروث أم مكتسب؟
ولنا أن نتساءل هل الذل والانكسار موروث أو مكتسب؟
ونميل بالقطع إلى الاعتقاد بأن الذل ـ كما غيره من الأخلاق ـ هو مكتسب من خلال التربية والبيئة المحيطة، ويستمر هذا الخلق يُلقنه جيل سابق لجيل لاحق؛ ليصبح وكأنه طبع موروث لا فكاك منه، وهذا من انتكاس الفطرة؛ إذ أن الله خلق البشر أحراراً، وكرمهم بالعقول، وأمرهم بالضرب في الأرض والهجرة فيها إلى أماكن الرفعة والعلو: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:97].
ثم يأمر القرآن الإنسان بالانتقال إلى مكان الكرامة، ومقام العز، ولا يرضى بدار الهوان: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}[النساء:100].
الذل الاجتماعي
وأخطر أنواع الذل هو الذل الاجتماعي، وهو الحالة التي تصيب جماعات بأكملها، لتصبح ظاهرة مرئية، هذا الذل ينتج عن تراكم حالات فردية تتبنى نهجًا ذليلاً، عندما تفقد الأمة مثلها العليا، والفكرة السامية، والعقيدة الدافعة، تشعر بسوء الحال الذي تردت فيه، مما يحفزها على التمرد على هذه الحالة.
سنن الله في الأمم
إن لله سننًا لا تتخلف، تجري على الأفراد كما تجري على المجتمعات، ومن ضمن هذه السنن، قد يعاقب الله الناس ويبتليهم بسبب ذنوبهم، فيضرب عليهم الذلة والمسكنة، كل ذلك من أجل أن يرجعوا عن غيهم ويثوبوا إلى رشدهم، بعد أن ركنوا إلى الأرض واستحبوا القريب العاجل على الخير الآجل.
عوامل الذل
ما الذي يجعل شخصًا أو شعبًا ذليلاً، خاضعًا ومكسور الشوكة؟
هناك أسباب عدة تؤدي إلى ذلك منها:
قابلية الخضوع التي تكبر في ظل غلبة الشهوات وحب الدنيا، إذا أصبحت الشهوات هي المتحكمة في أمة ما، تكون قد دخلت طور الانهيار، قد تعيش هذه الأمة فترة من الزمن في ظل هذا العبث، ويخدعها ازدهار اقتصادها، لكنها ستتعرض في النهاية للانهيار.
غفلة الأمة عن مقومات وجودها: ومن الأسباب الخارجية هي مرتبطة بالأسباب الداخلية؛ حيث تغفل الأمة عن مقومات وجودها، فيسطو على قيادتها أفراد لا يحملون إلا الأهلية التي يتمتع بها الغاصب، وعندما تصبح حالة الذل مدرسة منظمة لهذا الخلق الذميم، تزداد الجهود الجماعية لزرع مفهوم الذل في النفوس. تُشرع القوانين، وتُشجع العادات، وتُروج الثقافة التي تسود، مما يرسخ معاني الذل والخنوع. في حين يُضرب بكل القيم التي تمجد العزة والكرامة، ويُشوه كل خلق يشير إلى تماسك الشخصية. وما أجمل قول المتنبئ :
إذا لم يكن من الموت بد .. .. فمن العجز أن تموت جبانا
إن ذل الأمم وانكسارها مقدمة لظهور الفساد بشتى صنوفه، وما يصيبها من ظلم، وفقر، وانعدام الأمن، ليس سوى ابتلاء من الله وعقوبة على التفريط، يقول الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم:41]
كم هو شاسع الفرق بين واقع الأمة الإسلامية اليوم، والواقع الذي أوصى فيه أبو بكر - رضي الله عنه - خالد بن الوليد: "احرص على الموت توهب لك الحياة"، ولقد كانت حياة خالد وجنده ترجمة عملية لهذه الوصية، مما جعله يقول لهرقل قبل معركة اليرموك: "لقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحب - أنت - الحياة".
لقد شهد المسلمون فتراتٍ مظلمةً، كاجتياح التتار، حيث بلغ الذل بالناس حدًا جعل الجندي الأعزل من المغول يأمر الرجل بوضع خده وعنقه على الأرض، ثم يأمره بالانتظار دون حراك، لم يتوقف زحف المغول إلا بهتاف: "واإسلاماه"، الذي تردد في بطاح عين جالوت.
ولن يتوقف المغول والتتار المعاصرون، ومن لف لفهم، إلا بمثل هذا الهتاف: "واإسلاماه".
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[يوسف:21].