الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التأثير القرآني.. الكلمة التي تصنع المصير

التأثير القرآني.. الكلمة التي تصنع المصير

التأثير القرآني.. الكلمة التي تصنع المصير

تفطَّنَ علماءُ البلاغة والإعجاز منذ عهدٍ مبكِّر في تاريخِ البلاغةِ العربيَّة إلى الأثرِ النَّفسي العميق الذي يخلِّفه الخطابُ القرآنيُّ في نفوسِ متلقِّيه، سواء أكان المتلقِّي قارئًا أم سامعًا، مؤمنًا به أم جاحدًا، حتى غدا تأثيره أحد وجوه الإعجاز التي لم تفقد سحرها على مرِّ العصور، يقول الخطَّابي (ت388هـ): "قلتُ في إعجازِِ القرآن وجهًا آخر ذهبَ عنه النَّاس، فلا يكاد يعرفه إلا الشَّاذ من آحادهم، وذلكَ صنيعه بالقلوبِ وتأثيره في النُّفوس، فإنكَ لا تسمعُ كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثورًا، إذا قرَعَ السَّمعَ خلصَ له إلى القلبِ من اللذَّة والحلاوة في حال، ومن الرَّوعة والمهابة في أخرى ما يخلصُ منه إليه، تستبشرُ به النُّفوس، وتنشرحُ له الصُّدور، حتى إذا أخذت حظَّها منه عادت مرتاعة قد عَرَاها الوجيبُ والقلق، وتغشَّاها الخوف والفرق، تقشعرُ منه الجلود، وتنزعُ له القلوب، يحولُ بينَ النَّفسِ وبينَ مضمراتها وعقائدها الرَّاسخة فيها؛ فكم من عدو للرَّسول ﷺ من رجالِ العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيمانًا". إنَّ قولة الخطابي، هذه، تضعُ أيدينا وتوجه أبصارنا إلى أمرٍ مهمٍّ وهو الأثر النَّفسي القوي الذي يحدثه القرآن الكريم في نفوسِ متلقيه، حيث تنشرحُ له الصُّدور وتستبشر به، وترقُّ له القلوب وتنقاد له صاغرة طائعة مستسلمة، وتفيضُ العيون بالدُّموع خشية منه تعالى، ورغبة فيما عنده. وكل هذه المشاعر تدلُّ على تلك القوة الخفية والعجيبة المودعة في هذا القرآن؛ إذ تفعل فيه الكلمة والتَّركيب فعل السِّحر في نفوسِ المتلقين، فيذعنونَ لأمره ويعترفون بفضله وإعجازه.

ويبدو أنَّ الخطابي وقف في نصِّهِ الأثير عند مَلمحٍ إعجازيٍّ لا يكاد يُدركه إلا من لامس القرآن شغاف روحه، وخَبر كيفَ ينفذ إلى أعمقِ مناطاتِ النَّفس الإنسانيَّةِ دونَ استئذان، فما هو بكلامٍ يطرقُ الأذن كغيره، بل كلمةٌ مشهودةٌ تمتدُّ إلى ما وراء السَّمع، تعبر إلى القلبِ بلا حواجز، تخترقُ المكنونات، وتكشفُ عن مشاعرِ الإنسانِ وأفكاره، كأنما هي مرآةٌ تعكسُ عليه خبايا ذاته التي لم يكن يراها.

وفي كلام الخطابي تتجلى صورةٌ مدهشة لثنائيةِ الأثرِ القرآني: فهو حلاوةٌ تأخذُ بالألباب، ومهابةٌ تهزُّ الأرواح بسطوتها، فهو في آنٍ واحدٍ بشارةٌ تفيضُ بالرَّحمة، ووجلٌ يبعثرُ سكينة النُّفوس، ولكَ أن تتأمَّل كيفَ يقفُ الإنسان أمامَ القرآن بينَ حالتين متضادتين، لكنه يجمعهما في آنٍ واحد؛ فإذا استقرَّ في قلبهِ شَعَّتْ منه أنوار الطُّمأنينة، فإذا سمعه أهل البصائر رأوا فيه سكينة تنسابُ إلى قلوبهم، ووجدوا فيه برد اليقين يغمر أرواحهم، فتتسعُ الصُّدور كأنما انفكت عنها أغلال الدُّنيا المثقلة. أمَّا حين يأتي القرآن ليكشفَ ستر النَّفس، ويضعها وجهًا لوجه أمام حقيقتها، فإنه يفرضُ المهابة والرَّهبة، كأنَّ كل كلمة تنزل صاعقة توقظُ القلب من غفلته، وتنبَّه العقلَ إلى ما كانَ يغضُ الطَّرفَ عنه، فيصحو فجأة وقد أدركَ أنه كان سائرًا في ضبابٍ كثيف، وأنَّ أمامه نورًا لا بدَّ من السَّير إليه.

إنَّ هذا التَّأرجح بينَ الحلاوة التي تسري في الكيان، والمهابة التي تضربُ القلب، هو سرٌّ من أسرارِ تأثير القرآن الفريد، الذي لا يجد له العقل تفسيرًا، بينما تهتز له الرُّوح بلا مقاومة؛ إذ لا يُقرأ فيبقى أثره في الذِّهن وحده، بل يتحول إلى تجرِبة روحية تقتحمُ الإنسان من داخله، وتنفضُ عنه الرُّكام، حتى يرى الحقيقة كما لم يرها من قبل.

إذًا ليسَ غريبًا أن يقول الخطابي: "يحُول بين النُّفوس ومضمراتها وعقائدها الراسخة فيها"، فليست القضية أنَّ القرآن يلامسُ المشاعر فحسب، بل يحدث رجَّة في البنية العميقة للإنسان، يقتلع عقائد رسخت في النَّفس، وأفكارًا كانت كالجبال الرَّاسيات، ثمَّ يهدمها في لحظة، فينبت مكانها فكرٌ جديدٌ لم يكن يدور في خَلَد صاحبها من قبل، كما صَنَعَ معَ الجيلِ الأول، فقد حولهم النَّص إلى بيارق تهتزُّ بها رايات الهداية، وانبعثوا من بين ظلماتِ الجاهلية نورًا يسري في أفقِ الحضارة، فصاروا آياتٍ تُتلى، ومشاعلَ تضيء دروبَ المستضعفين.

ذلك لأنَّ القرآن لا يخاطبُ سطحَ العقل، بل يتسلَّلُ إلى دهاليز النَّفس، إلى الزَّوايا التي يهربُ منها الإنسان، إلى المواضع التي يُخفي فيها شكوكه وأسئلته، فيوقظ فيها صوت الحق، ويجعلها تواجه مصيرها بلا حجاب، فكم من قلوبٍ كانت تغلق أبوابها أمامَ الحق، فجاء القرآن فزلزلها؟ كم من عقول كانت تمتلئ بالظُّنون، فأتى القرآن فأزالَ عنها الغشاوة، فكانَ كالماء الزُّلال الذي يغسل الصَّدأ المتراكم في الأعماق؟

وقد أخبر اللهُ عن صنيعِ القرآن في نفوسِ المتلقين فقال: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} (الزمر:23) يصفُ سيد تأثير القرآن الكريم في متلقيه قائلًا: "إنَّ في هذا القرآن سرًّا خاصًا يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداءً، قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها. إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن. يشعر أنَّ هناك شيئًا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير، وأنَّ هناك عنصرًا ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن، يدركه بعض النَّاس واضحًا، ويدركه بعض النَّاس غامضًا. ولكنه على كل حال موجود. هذا العنصر الذي ينسكبُ في الحسّ ويصعب تحديد مصدره: أهو العبارة ذاتها؟ أهو المعنى الكامن فيها؟ أهو الصور والظلال التي تشعها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟ أم هي هذه العناصر كلها مجتمعة؟ ذلك سر مودع في كلّ نص قرآني يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداءً، ثمَّ تأتي وراءه الأسرار المُدْرَكَة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله".

وقد أشار مالك بن نبي في كتابه "الظاهرة القرآنية" إلى بعضِ معاني التلقي وما يحدثه في متلقيه، فذكر ما يسمى بـ"المتلقي الفطري"، ويقصد به: ذلكَ التَّلقي الذي استمدَّه متذوق نص القرآن الكريم بالفطرة التي فُطِرَ عليها، حيث كان الإنسان العربي سليقيًّا مدركًا لخبايا لغته وله المقدرة على التمييز بينَ جيد الكلام ورديئه، ذوَّاقًا لبيان الشِّعر والنثر معًا، وكانَ الشِّعر الجاهلي قد وصلَ ذروة بيانه، وبهاء صنعته، لكن سرعان ما ظهر نص أذهل الجميع وأعجزهم وتحداهم على أن يأتوا بمثله، فقروؤه بآليةِ الحسِّ الفطري التي يمتلكونها، وصار هذا النَّص الجديد حديث السَّاعة، تداركه القوم فمنهم من أسلم وآمن به وحيًا "منزلًا" من عند الله تعالى. ومنهم من عرف حقيقة إعجازه، لكنَّ العزَّة بالكفر وأنانية الجاهلية أعمَت أعينهم فلم يبصروا حقيقة الإيمان وحلاوته: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} (النمل:14) والاستيقان أبلغ من الإيقان. والمخاطب في الآية النَّبيﷺ ليُقال له: إنَّ ما فعله قوم موسى عليه السلام بنبيهم، يحدثُ لك من قِبل قومك الذين أيقنوا بتفوق النَّص القرآني وإعجازه، لكنَّهم جحدوا به ظلمًا وعلوًا.

لقد كان للنَّصِّ القرآني أثره الكبير في نفوسِ محبيه وشانئيه، غير أنَّ محبيه لا يملكونَ منع أثره على نفوسهم، وانصياعهم له، فقد ذاق صحابةُ رسولِ الله ﷺ حلاوةَ الإيمانِ من القرآن، فأدركوا عظيمَ قيمته، ونفاذَ تأثيره، وقدرته الفذَّة على التَّغييرِ وبثِّ الروح، فأقبلوا عليه بقلوبهم وعقولهم، وانشغلوا به، وبذلوا له كثيرًا من أوقاتهم، حتى غدا شغلَهم الشَّاغل، وانجذبت مشاعرهم نحوه عند تلاوته حتى بلغَ بهم الاستغراقُ غايته، واستولى عليهم تأثيرُه استيلاءً لا يملكون له دفعًا، فما إن يبدأوا في التَّلاوة حتى تغلبهم دموعُهم، بل إنَّ بعضهم كان يُصابُ بالمرض من شدَّةِ وَقْعِه عليه، وآخرون كانت تُرى الأنوارُ في بيوتهم عند قراءته، وغيرهم كان يقفُ عند آية واحدة ساعاتٍ طوالًا، يقرؤها ويكرِّرها ويبكي، ولا يجد في ذلك مللًا ولا فتورًا.

ودونكَ ما رويَ عن عبد الله بن عروة بن الزبير، أنه قال: "قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: كيف كان أصحاب رسول الله ﷺ إذا سمعوا القرآن؟ قالت: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله"، وكان الصِّدِّيق الأبر رضي الله عنه إذا صلَّى في بيته يقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يتعجبونَ منه ينظرونَ إليه، وكان رجلًا بكَّاءً لا يملكُ دمعه حينَ يقرأ القرآن الكريم. وفي أثناء مرض الرَّسول ﷺ قال لمن حوله: "مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس". فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إنَّ أبا بكر رجلٌ رقيق، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه". "وكانَ الفاروقُ عمر يمرُّ بالآيةِ فتخنقه، فيبقى في بيتهِ أيَّامًا يُعاد، يحسبونه مريضًا". وخبره المشهور قبيل إسلامه حينما وقف على مطلع "سورة طه": {طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى * الرحمن على العرش استوى} (طه:1-5) شاهدٌ على عظم أثر القرآن، فقد نقلتهُ من طورٍ إلى آخر، وكانت جسرًا لعبور عمر الجاهلية إلى فاروق الإسلام، وهي مما تؤكدُ جلال التَّأثير المدهش الذي يتركه القرآن في قلبِ متلقيه.

إذن، هذا هو جلالُ القرآن، الذي يلقي بضيائه في النُّفوس، فيغيرها، ويثير الأرواح فيسمو بها، وينفخُ سرَّه في أعماقِ متلقيه فيحييه حياةً لا شقاءَ فيها، إنَّه النصُّ الذي لا يُشبهه نصٌّ، والكلامُ الذي يتجاوز الألسنة إلى الأعماق، فإذا تردَّد في جنبات الوجود، خمدت الضَّوضاء، وسكنت الأهواء، وانكشفت الحجبُ عن القلوبِ التي كانت رهينة العمى، إنه السُّلطان الذي لا يُقاوَم، والنِّداء الذي لا يُجاريه نداء، يقتحم على الإنسان عزلته، ويواجهه بحقيقته، ويضعه بين خيارين لا ثالث لهما: أن يستسلم لنوره، أو أن يتوارى خلف الظلال، متجاهلًا أنَّ الفجرَ قادمٌ لا محالة.

لقد كان القرآن منارةً لمتلمِّسِ النُّور، وصاعقةً لمن عاند أوارَ الحقيقة، لا يتركُ قلبًا إلا وقد زلزله، ولا عقلاً إلا وقد أدهشه، فمنهم من خرَّ له ساجدًا، ومنهم من حاول الهرب من وهجه، فإذا هو يلحق به، يطارده حيث ظنَّ أنه في مأمنٍ من تأثيره، فإذا بهِ يقع في شراك الحقيقة التي طالما فرَّ منها، وهذا ما أدركه الخطابي حين قال: "لا تسمع كلامًا غير القرآن، منظومًا كان أو منثورًا، إلا قرع السمع وخلص إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصُّدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق".

تلك هي الكلمة التي تُجبر القلوب على الإصغاء، والتي تُطوِّع الأرواح دونَ قسرٍ أو إكراه، تهزُّ النَّفس من مكامنها، فتحول بين الإنسان ومضمراته، تُسقطُ عن العقلِ حُجب الأوهام، وتعيد للقلبِ بريقه الأول، ما أعظم هذا السِّرّ المودَع في القرآن! فهو ليس محضُ نصٍّ يُقْرأ، بل حقيقةٌ تهزُّ الوجود، ومُعجزةٌ تتجدَّدُ كلما وقعت في قلبٍ حيٍّ، فهل من مُقبلٍ على النُّور؟ هل من مستجيبٍ لنداءِ الأبد؟

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة