الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

العلماء والجهاد ( 4 ) أحمد بن تيمية

العلماء والجهاد ( 4 ) أحمد بن تيمية

قد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى العالم المجاهد الذي جمع بين السيف والقلم ، ومن حوادث جهاده :
أن التتار حين جاءوا بجموعهم إلى الشام سنة 702هـ أرجف المرجفون ، وخرجت القلوب من جنوبها ، حيث استعدت الجيوش من مصر والشام لملاقاة تلك الجموع ، وقد أخذ دعاة الهزيمة والتردد ينشرون الفزع في القلوب ، أما ابن تيمية فكان يثبت القلوب ويعدهم بالنصر والغلبة ، تاليـًا عليهم قول الله تعالى : ( وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُور ٌ)(الحج:60) .
حتى إنه كان يحلف بالله : إنكم لمنصورون ، فيقول بعض الأمراء له : قل إن شاء الله ، فيقول : أقولها تحقيقـًا لا تعليقـًا ، فاطمأنت القلوب وسكنت النفوس ، ولكن دعاة الهزيمة أتوا الناس من ناحية أخرى متذرعين بقولهم : كيف نقاتل المسلمين ؟؟ إن ذلك ليس بجائز شرعـًا .
يقولون هذا الزعم وكأنهم مهاجمون وليسوا مدافعين ، عندئذ تقدم ابن تيمية مبينـًا بجرأة الحقيقة الشرعية في هذا القتال والمقاتلين ، فيقول : هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية ، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما .
وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين ، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والمظالم ، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة .
ثم قال مصرحـًا : " إذا رأيتموني في ذلك الجانب - أي مع التتار - وعلى رأسي مصحف فاقتلوني " ، فتحركت القلوب وثارت نخوتها الإسلامية ، ثم امتطى - رحمه الله تعالى - صهوة جواده وخرج إلى ميدان القتال محاربـًا ومحرضـًا ، فما كان لمثله أن يدعو إلى الثبات في الجهاد ، وهو ينكص على عقبيه ، بل يتقدم الجموع لينال الشهادة في سبيل إعزاز كلمة الدين وراية الإسلام .
وذهب إلى ( مرج الصفر ) وهو مكان قريب من دمشق وابتدأت الموقعة الحربية التي تسمت في التاريخ بموقعة ( شقجب ) ، وذلك في شهر رمضان سنة 702 هـ ، وتلاقى الجمعان ، ووقف العالِم المجاهد مقاتلاً ، يثبت القلوب من حوله بقتاله وفعاله ، وقد اجتمع بالسلطان قبل الموقعة ، يحثه على الجهاد والقتال ، ورد المعتدين الآثمين ، حيث بلغه أن السلطان متردد في القتال ، فما كان من السلطان إلا أن تحمس وطلب منه أن يقف بجانبه في المعركة .
فقال شيخ الإسلام : " السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه ، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معه " .
وقد حث الجند وأمراءهم على الإفطار ليتقووا على القتال ، وكان يروي لهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة الكرام في غزوة الفتح : ((إنكم ملاقو العدو والفطر أقوى لكم )) .
وكان رحمه الله يدور على الأجناد يأكل معهم من شيء معه ، ليبين أن إفطارهم أفضل ليقووا به على القتال .
ووقعت الواقعة واشتد القتال ، واشترك فيه ابن تيمية ، ووقف هو وأخوه موقف الموت ، وأبلوا بلاءً حسنـًا ، وصدق أهل الشام وجند مصر ما عاهدوا الله تعالى عليه ، فاستمر القتال طوال اليوم الرابع من رمضان ، حتى إذا جاء العصر أذن الله تعالى بالنصر ، فظهر جند مصر والشام ، وانحسر جند التتار ، فلجأوا إلى اقتحام الجبال والتلال ، وجند السلطان الناصر ، أو بالأحرى جند ابن تيمية ، وراءهم يضربون أقفيتهم ، ويرمونهم عن قوس واحدة ، حتى انبلج الفجر ، ونادى المنادي : الله أكبر ، حي على الصلاة .
وبذلك الإعلان انكشفت الغمة ، وزال خطر التتار ، فكانت هزيمة منكرة ، منوا فيها بالخسران المبين ، ولم تقم لهم بعدها قائمة ، فأمِن الشرق والغرب عاديتهم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

من ذاكرة التاريخ

أبو المعالي الجويني إمام الحرمين

الإمام الجويني أحد كبار أئمة المذهب الشافعي، مجمع على إمامته متفق على غزارة علومه وتفننه فيها. قضى معظم حياته...المزيد