الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يحق لي الزواج والأمة تعاني هذا الضعف والهوان؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عندي مشكلة قد تبدو للوهلة الأولى أنها سخيفة وغريبة بعض الشيء، ولكن جوابكم سيعني لي الكثير.

مشكلتي: أنني أعاني مؤخرًا من بعض الوساوس، وحديث النفس، ولا أدري كيف أسميه؛ فأنا فتاة عازبة، وكأي بنت تريد الزواج وبناء أسرة خاصة -فقد بلغت 37 من عمري-، ولا زلت أدعو ربي بالزوج الصالح، وعندي يقين وثقة بالله أن الله لن يخيبني.

ولكن مؤخرًا بدأت تنتابني بعض الأفكار؛ فمع الحروب، والظروف التي يمر بها العالم، وخاصةً أني متأثرة جدًا بما يحدث لإخواننا في غزة، فقد تغيرت نظرتي للحياة، وكأني فقدت الشغف بها، وخاصةً عندما أسمع عن علامات الساعة الكبرى، وأن الفساد قد عم العالم: من قتل، وفساد، وتدمير، وغلاء، فأقول في نفسي: كيف لي أن أفرح، أو أن يفرج علي ربي في مثل هذه الظروف القاسية؟ وكأني أقول: لن أتزوج وأفرح حتى يفرج الله عن هذه الأمة، وكأني ربطت استجابة دعائي بالفرج لهذه الأمة المكلومة، وكأني أقول: إنه ما دامت هذه الدنيا مظلمةً؛ فلن يرى دعائي النور حتى يعود النور، وتشرق شمس هذه الأمة، وأنه ما دمنا في آخر الزمان، فلماذا أرسم لأحلامي طريقًا ورديًا، بينما يجب علي أن أزهد، وأعتكف، وأنتظر الساعة؟

لا أعلم إن كنت قد أوصلت لكم ما يجول في خاطري، أم لا؟ فلا أحد يفهمني، ولا أحد ينصحني؛ لذا أرجو منكم نصحي وإرشادي من أجل نزع هذه الأفكار، وزيادة يقيني بربي.

من فضلكم: أنا بأمس الحاجة لمن يرشدني، بالرغم من أني أحفظ كتاب الله، وأصلي، وأذكر الله، وأجاهد نفسي على إصلاحها، ولكن لا أعلم ما سبب هذه الأفكار؟

وفي النهاية: بارك الله بكم، وفي جهودكم، وأرجو أن تدعوا لي بالزوج الصالح، المصلح، التقي، النقي، عاجلاً غير آجل.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ نادية حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بكِ -أختي الفاضلة- في استشارات إسلام ويب.

بدايةً، أود أن أقول لكِ: لقد لمسنا الصدق في كلماتك المؤثرة، وإن دل ذلك فإنما يدل على قلب متعاطف مع أمة الإسلام، ومع ما يمر به العالم، وهذا هو حال المسلم مع إخوانه في العقيدة في كل مكان، كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه مسلم.

كما أن سؤالكِ هذا ينم عن وعي كبير، وحرص على إرضاء الله عز وجل، أسأل الله أن يشرح صدركِ ويزيل عنكِ كل هم.

أختي الفاضلة: أفكاركِ ليست غريبةً، وأنتِ لستِ وحدكِ؛ فمن الطبيعي أن يشعر الإنسان بالهم والحزن على أحوال المسلمين، وما تمر به الأمة، وخاصةً في ظل الظروف الصعبة التي نراها اليوم، ولكن يجب أن ننتبه إلى أمر مهم:

أولاً: أن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده؛ فما يحدث في العالم هو جزء من سنن الله في الكون، والابتلاءات من أقدار الله التي فيها الخير لنا وإن لم ندركه؛ قال تعالى: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين".

ثانيًا: ما تشعرين به من رحمة واهتمام دليل على إيمانكِ وقلبكِ الحي، وهذا أمر جميل يجب أن تحمدي الله عليه، ولكن يجب ألا يمنعكِ من مواصلة حياتكِ، والبحث عن السعادة والفرج لنفسكِ؛ لأنك جزء من تحقيق النصر، وبناء المجتمع.

ثالثًا: تذكري دائمًا أن رحمة الله واسعة، ولا ترتبط استجابته بشيء إلا لحكمة؛ فاستجابة دعائك بالزواج، أو بتحقيق أي أمنية ليست مرتبطةً بأحداث العالم، قال الله تعالى: "ادعوني أستجب لكم"، ووعد الله حق، وقد تأتي الاستجابة بشكل نراه، أو بطرق لا نعلمها، وربما تتأخر لحكمة يعلمها الله، وفي الحديث: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم؛ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها"، قالوا: إذا نكثر، قال: "الله أكثر" رواه أحمد.

رابعًا: أنتِ غير مسؤولة عن العالم بأسره؛ نعم، من واجبنا الدعاء لإخواننا في غزة، وفي كل مكان، والمشاركة بالجهد والقدرة المتاحة لنا، وما سوى ذلك فهو خارج عن القدرة والاستطاعة، قال تعالى: "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها"، ولكن ليس مطلوبًا منكِ أن توقفي حياتكِ، وتربطيها بين سعيك الشخصي، وبين فرج الأمة كلها؛ فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت تحدث في زمانه النوازل والأحداث المؤلمة، فكان يحزن، ويدعو، وربما يقنت، ويبكي، وهذه فطرة في الإنسان، ولم تكن تلك الأحداث تمنعه من مزاولة حياته الطبيعية كزوج، ومربٍّ، مع نشر الرسالة، وإصلاح الأمة والمجتمع بالوسائل المتاحة، وهكذا ينبغي أن نكون.

خامسًا: الحياة في آخر الزمان لا تعني أن نتوقف عن السعي والعمل، صحيح أننا نعيش في زمن تكثر فيه الفتن، وقد تحدثت النصوص الشرعية عن ذلك، ولكن هذا لا يعني أن نتوقف عن السعي، أو أن نغلق باب الرجاء والبناء؛ جاء في الحديث: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل" رواه أحمد.

تأملي هذا الحديث: حتى في أصعب اللحظات –لحظة قيام الساعة– يأمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعمل والتفاؤل وزراعة الخير، فلا مكان في الإسلام لليأس والقنوط.

أختي الفاضلة: الحزن، والتأثر بما يحدث للأمة أمر مشروع، ولكن يجب ألا يُفسد عليكِ حياتكِ وسعادتكِ؛ فأحوال الأمة قد تكون صعبةً وخارجةً عن قدراتك، ولكن الله سبحانه يرزق من يشاء، ويكتب الفرج في أي وقت، وأعظم نصر يمكن أن نقدمه للأمة هو أن نصلح أنفسنا، ومن تحت أيدينا، كأبنائنا وأسرنا؛ فهذا بحد ذاته نصر للأمة من الزاوية التي نقدر عليها، وكذلك، تعليم الناس الخير والدعوة لإصلاح نفوسهم، فهو باب واسع يمكن أن نساهم من خلاله بشكل إيجابي ومثمر.

أختي الفاضلة: ليس هناك تعارض بين السعي لتحقيق أحلامكِ، والدعاء للأمة.

تفاؤلكِ، وزواجكِ، وبناء أسرة مسلمة صالحة قد يكون جزءًا من إصلاح المجتمع، ورفعته، وهذه الأفكار التي تراودكِ قد تكون بسبب شدة العاطفة، والتأثر، ولكن العلم والمعرفة يساعدان في توجيهها بشكل إيجابي ومثمر، لذلك ننصحكِ بطلب العلم الشرعي، وبناء نفسكِ علميًا وروحيًا.

أخيرًا: استمري في عبادتكِ، وحفظ القرآن، ولكن أضيفي إلى ذلك أهدافًا دنيويةً تنفعكِ؛ فالنفوس المتفائلة والعاملة هي نفوس يحبها الله، ويتحقق بها الخير للأمة، كما في الحديث: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان".

أسأل الله أن يرزقكِ الزوج الصالح، وأن يقر عينكِ بالفرج والسعادة، وأن يرفع البلاء عن أمة الإسلام جميعًا.

والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات