الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أهلي يريدون مني دراسة الطب وأنا لا أرغب به!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا فتاة تخرّجت -بفضل الله- من المرحلة الثانوية، وأستعد لاختيار التخصّص الجامعي، لكنني لا أشعر بشغف تجاه أي مجال معين حتى الآن، وعائلتي ترغب بشدة أن أختار دراسة الطب، لكن لديّ بعض المخاوف:

أولاً: أرى أن الطب مجال مرهق جداً، ويتطلب ساعات عمل طويلة، وأخشى أن يؤثر ذلك على التزامي بالعبادة، والجانب الروحي في حياتي.

ثانياً: في بلدي يُلزم الأطباء بأداء الخدمة الوطنية لمدة عام، وغالباً تكون في مناطق نائية وبعيدة، وهذا يتطلب السفر، ولا يوجد من محارمي من يستطيع مرافقتي في تلك الظروف.

أشعر بالحيرة، ولا أريد أن أتخذ قرارًا أندم عليه لاحقًا، فأرجو منكم نصحي وتوجيهي: ماذا أفعل؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ مريم حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

بارك الله فيكِ وفي خطواتك، وأعانكِ على اتخاذ القرار الذي يرضيك ويرضي قلبكِ، وأشكركِ على ثقتكِ بمشاركة همومكِ، وأدعو الله أن يفتح عليكِ أبواب الخير والتيسير في حياتكِ.

من الواضح أنكِ فتاة واعية، تخافين الله وتحرصين على التوفيق بين احتياجات دنياكِ ومتطلبات دينكِ، وهذا بحد ذاته دليل على إيمانكِ، واهتمامكِ العميق برضا الله، وتحقيق التوازن في حياتكِ.

أولاً: دعينا نبدأ بتقدير مشاعركِ، فمن الطبيعي أن تشعري بالحيرة في هذه المرحلة الحساسة من حياتكِ، حيث يتعيّن عليكِ اتخاذ قرار قد يؤثر على مستقبلكِ المهني والشخصي.

إن شعوركِ بعدم وجود شغف تجاه أي تخصّص؛ قد يكون ناتجًا عن ضغط التوقعات من العائلة أو المجتمع، أو عن غياب وضوح في فهم اهتماماتكِ الحقيقية؛ أما القلق من التحديات المستقبلية: مثل، الإرهاق المهني، أو الانشغال عن العبادة، فهو شعور مشروع ينبع من وعيكِ وحرصكِ على التوازن بين الدنيا والدين، وتذكّري أن هذه الحيرة ليست عائقًا.

ثانيًا: دعينا ننظر إلى مخاوفكِ من عدة زوايا:

1- من الواضح أن عائلتكِ ترغب في أن تختاري مهنة الطب، وربما يرجع ذلك إلى حبهم لكِ، ورغبتهم في رؤيتكِ في مجال مرموق يضمن لكِ مكانة اجتماعية، ودخلًا مستقرًا، لكن من المهم أن تدركي أن قرار اختيار التخصص هو قراركِ الشخصي؛ لأنكِ أنتِ من ستعيشين التجربة، وتتحملين مسؤولياتها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يكون أحدكم إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا ألا تظلموا".

هذا الحديث الشريف يعلمنا أهمية السعي لاتخاذ قرارات مبنية على قناعات شخصية، مع التوجيه بالحكمة والنصح؛ لذا من المهم أن توازني بين احترام رغبة أهلكِ، وبين اختيار ما يناسبكِ أنتِ شخصيًا.

2- لا شك أن مهنة الطب تتطلب الكثير من الجهد والالتزام، لكن ينبغي أن تتذكّري أن كل عمل نافع يمكن أن يكون عبادة إذا نويتِ به وجه الله، قال تعالى: {وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدون} [الذاريات: 56].

فالعبادة لا تقتصر على الصلاة والصيام فحسب، بل تشمل كل عمل يُبتغى به رضا الله، بما في ذلك مساعدة الآخرين وتخفيف آلامهم، ومع ذلك، من حقكِ أن تفكّري في قدراتكِ الشخصية، وفي نمط الحياة الذي تطمحين إليه، فالصحة النفسية والجسدية هي أساس لتحقيق التوازن بين متطلبات الدنيا، ورضا الله في الآخرة.

3- مسألة السفر بدون محرم، هي قضية حساسة في الشريعة الإسلامية، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم".

إذا كانت الخدمة الوطنية تتطلب السفر إلى مناطق بعيدة؛ فهذا قد يتعارض مع هذه القاعدة الشرعية، إذا لم يتوفر محرم يرافقكِ، في هذه الحالة، يمكنكِ أن تتحدثي مع أهلكِ أو الجهات المختصة بشأن إمكانية إيجاد حلول بديلة، مثل: العمل في منطقة قريبة، أو تأجيل هذه الخدمة.

ثالثًا: ماذا يمكنكِ أن تفعلي الآن؟
1- خصصي وقتًا للتفكير والتأمل في الأشياء التي تستمتعين بها، والتي تشعرين أنها تنبع من داخلكِ، ما هي الأمور التي تثير فضولكِ، أو تستمتعين بالقيام بها؟ إذا كنتِ لا تجدين شغفًا واضحًا الآن، فهذا لا يعني أنكِ لن تكتشفيه لاحقًا، والشغف ليس شرطًا دائمًا لاختيار التخصص، بل يمكن أن يتولد أثناء دراستكِ أو عملكِ، ويمكنكِ استخدام بعض الأدوات، مثل: اختبارات تحديد الميول المهنية، أو استشارة مستشار تعليمي لمساعدتكِ على فهم خياراتكِ بشكل أفضل.

2- اجلسي مع عائلتكِ، وشاركيهم مخاوفكِ وأفكاركِ بصراحة واحترام، ووضحي لهم أن اختياركِ للتخصص لا يعني رفضًا لحبهم أو نصيحتهم، بل هو قرار يحتاج إلى تفكير عميق، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ"} [آل عمران: 159]، والشورى مع عائلتكِ قد تفتح أبوابًا لحلول مشتركة ترضي الجميع.

3- لا تغفلي عن أهمية الدعاء والاستخارة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك..." [رواه البخاري]، وصلاة الاستخارة هي وسيلة عظيمة تطلبين بها من الله أن ييسر لكِ القرار الأفضل.

4- إذا كنتِ تجدين أن الطب تحدٍّ كبير بالنسبة لكِ، فلا بأس أن تستكشفي تخصصات أخرى تجمع بين الفائدة والرغبة الشخصية، وهناك مجالات أخرى في العلوم، أو الفنون، أو الأعمال؛ قد تناسب طموحاتكِ وتطلعاتكِ دون أن تشعري بالضغط أو الإرهاق.

رابعًا: بعض النصائح للتوازن بين العمل والعبادة:
- خصصي وقتًا يوميًا لذكر الله، وقراءة القرآن، حتى في أوقات العمل والدراسة.
- تذكري أن النية الصالحة في العمل تجعله عبادة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات".
- احرصي على استغلال أوقات الفراغ في تعزيز إيمانكِ وتقوية روحكِ.

وفي الختام -أختي العزيزة-: تذكري أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما في قلبكِ، وهو أرحم بكِ من نفسكِ، قال تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، استعيني بالله، واستشيري من تثقين برأيهم، ثم اتخذي القرار الذي تطمئنين إليه.

أسأل الله أن يوفقكِ لما يحب ويرضى، وأن يرزقكِ السداد والتوفيق في الدنيا والآخرة.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً