الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نوبة هلع ... قصة أعراض ومرحلة تحسن

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

جزى الله خير الجزاء القائمين على موقع إسلام ويب الفضلاء، وسؤالي لدكتورنا الموفق -بإذن الله- محمد عبد العليم:

أنا امرأة جامعية، نشأت في بيئة سوية مع أهلي، ومشكلتي النفسية بدأت بعد وفاة والدي بثمانية أشهر؛ حيث أصبت برعب وخوف شديدين من الموت حتى لم تعد تسعني أرض ولا سماء؛ لكثرة المخاوف والوساوس والتوجسات، وتلونت حياتي، واصطبغت بالخوف والرهبة حتى أصبحت أحس بخوف عند مباشرتي لأعمالي المنزلية، وعند قرع الباب، وصراخ الأطفال، ورنين الهاتف، ولا أستطيع الرد على الهاتف إلا مرتجفة.

عانيت الأمرّين سنين طوالا، وأصبحت خلالها محاصرة بالخوف غير المبرر المستمر، حتى إذا جاهدت وصرت طبيعية لفترة قصيرة أو طويلة تعود إلي الأعراض بمجرد التوجس وتذكر هذه المعاناة، حتى اكتشفت موقعكم المبارك، فعرفت أنها نوبة هلع مع اكتئاب، فأحسست بنوع من الانفراج؛ لأني قبل ذلك لم أكن أدري ما بي، وكنت أعاني في صمت وكتمان عن الجميع، وكنت أقف وأتعثر وأرى كل من حولي طبيعيا إلا أنا، حتى صارت هذه الحالة كأنها جزء لا يتجزأ مني، وصار لدي اعتقاد استحالة التخلص مما أنا فيه؛ لاعتيادي عليها، وترسخها لطول المدة.

قررت مقابلة طبيبة نفسية، فأعطتني دواء سيبراليكس (الذي أعتبره نعمة إلهية ومنة ربانية)عشرين ملغ، مع أندرال وقت اللزوم، أما سيبراليكس فآخذه الآن منذ خمسة أشهر، وقد تحسنت كثيرا -ولله الحمد-، وصار لحياتي طعم مع زوجي وأبنائي -ولله الفضل والمنة- وأصبحت قادرة على تحقير وتجاهل المخاوف وهواجس عودة الحالة من جديد بعد أن كنت أعجز عند مراودتها لي تمام العجز -ولله الفضل-، لكن لا زالت هناك التباسات أريد فهمها لأعتبر نفسي تشافيت تماما -بإذن الله-:

1- كنت أربط كل معاناتي بالضعف وعدم الثقة بالنفس (مع أني كنت قبل الحالة غير ذلك) لكن حاليا تطورت بشكل كبير، فأصبحت أبادر بكل شيء حتى في العلاقات الاجتماعية بعد أن كنت أرهب وأتوتر لقدوم ضيفة عندي، أو بمجرد التفكير في السفر لرؤية أهلي؛ لأني مغتربة، وصرت شخصية مرتبكة ومترددة، مع أن الكل يشهد بقدراتي وشخصيتي المتزنة، فهل معنى هذا أنني أعدت ثقتي بنفسي؟ مع العلم أنني أحسست نوعا ما بالقدرة على التحكم في خوفي وتجاهله حتى قبل أخذ الدواء، لكن بعد أخذه طبعا استطعت أن أسترجع شخصيتي السابقة، وصفاتها من ثقة ومرح.

2- كنت أعتقد أن الحالة جزء مني، فهل معنى شفائي الآن أنني لم أكن كذلك قبل إصابتي بأعراض الخوف المزعجة بل هو أمر عارض؟

3- أصبحت الآن إذا أحسست بالخوف التوجسي من رجوع الحالة لا أهتم، بل أستمر في ممارسة حياتي بشكل طبيعي، ولا أؤجل أي شيء عمدا حتى أجد الأمن قد ملأ كياني ثانية، فما معنى ذلك؟

4- أحس بصور ولقطات خاطفة كالوميض في عقلي تعيد ذكريات معاناتي وعجزي، فكيف أتعامل معها ولا أحفل بها؟

5- يحاول إبليس -نعوذ بالله منه- أن يجعلني أتحسر على السنين الماضية، وكأن جزءا من شبابي ضاع، فأحس أحيانا بعض الحسرة، وألوم نفسي: كيف استسلمت لهذه الحالة، وأضعت كل هذه السنين؟ مع العلم أني أصبت وأنا بنت واحد وعشرين سنة بعد عقد قراني بشهر أو شهرين عند تواجدي وحدي في بيتنا، وغياب أمي في سفر، وأنا الآن في عمر 38 سنة، لكن في دفء زوجي، ومعية أبنائي، ولله الحمد.

أشكرك على سعة صدرك واطلاعك على كل حرف من مشكلتي، وأصلح الله أبناءك، ورزقك برهم، وعافاك وإياهم من كل سوء، وليحمد الله كل من اكتشف ماهية مرضه مبكرا، وليتداوى فإن التداوي أحله الله بكل أنواعه إلا الحرام.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أم سلمان حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أرحب بك في الشبكة الإسلامية، وأشكرك على كلماتك الطيبة، وعلى رسالتك الرائعة التي أثلجت صدري، وأسأل الله تعالى أن يُديم عليك وعلينا وعلى جميع المسلمين نعمة الصحة والعافية، وأن يجعلنا من الشاكرين والحامدين على العافية.

رسالتك واضحة جدًّا، أنا سعيد جدًّا بدرجة التحسُّن هذه التي واضح أنها قد غيَّرتْ حياتك كثيرًا، وحين أقول قد غيَّرتْ حياتك لا أعني أبدًا أن هناك أشياء جديدة قد دخلت على حياتك، الذي حدث هو أن كل طاقتك النفسية الإيجابية والفاعلة والتي كانت مختبئة أو مختزنة قد ظهرتْ الآن على السطح، وأصبحتْ فعّالة، وقطعًا التغيير أتى منك أنت، نعم الدواء ساعد ولا شك في ذلك، لكن المبدأ هو {إن الله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}.

إرادة التحسُّنِ إرادة عظيمة جدًّا، لا يمكن أن نقيسها، كل إنسان لديه إرادة تحسُّنٍ، أو لديه إرادة انهزام، ومَن يريد أن يتقاعس ويستكين لإرادة الانهزام سوف يظلُّ منهزمًا، ومن يعلو ويسمو وينطلق بنفسه قطعًا يتمتَّع بإرادة النجاح والشفاء إنْ شاء الله تعالى.

أيتها الفاضلة الكريمة: بالنسبة للنقطة الأولى، أنا أقول لك: إن الاكتئاب النفسي دائمًا يعطي الإنسان الصورة المشوهة عن ذاته وعن العالم حوله، ويعطيه صورة تشاؤمية جدًّا، لذا يرى أحد العلماء الكبار في مجال الصحة النفسية واسمه (آرون بيك Aaron Beck) ولا زال حيًّا في التسعينيات من عمره، يرى أن الاكتئاب ليس علَّة مزاجية في المقام الأول، إنما هي علة تبدأ بفكرٍ مشوَّهٍ وسلبيٍ ومستحوذٍ ومتشائمٍ، وهذا هو الذي يؤدِّي إلى عُسْر المزاج وكدره بعد ذلك.

إذًا الذي حدث لك أن ما أسميته (الثقة بالنفس) -وأنت مُحقة في ذلك- هو تغيير فكري، تساقطت الأفكار السلبية حول الذات وحول من حولك، ولذا أحسستِ بهذا الشعور الإيجابي النبيل.

بالنسبة للنقطة الثانية: لا أعتقد أبدًا أن الحالة جزء منك، لكن قطعًا هنالك بعض الناس لديهم بعض الاستعداد التكويني، وحين تأتي الظروف الحياتية الأخرى تؤدِّي إلى ظهور الصورة المرضية إن جاز التعبير، وأنا أعتقد أن تعبيرك عن أحزانك بعد وفاة والدك يجوز أنها لم تكن بالصورة المطلوبة، ولذا حدث مخزون من الأحزان ظهر بعد ثمانية أشهر، ولأنه أصلاً لديك شيء من القابلية والاستعداد لهذا النوع من الاكتئاب.

لا تنزعجي لقولي أنه لديك استعداد، هذه جزئية بسيطة جدًّا، وبقوتك وشكيمتك -إن شاء الله تعالى- ستتجاوزين كل شيءٍ.

الخوف المتوجِّس -أيتها الفاضلة الكريمة– كما أشرتِ إليه في النقطة الثالثة: نعم، هي أحد العلل التي نُشاهدها في الاكتئاب، والتحقير هنا هو المبدأ المطلوب، وأن تعيشي الحاضر بقوة.

أما بالنسبة للنقطة الخامسة: بالفعل أقول لك: لا حسرة على ما مضى، ولا خوف من المستقبل أبدًا، ويجب أن تعيشي الحاضر بقوة، اجعلي هذا مبدأك، وإن شاء الله تعالى تسير أمورك على خير.

أرجعُ للنقطة الرابعة: ما تحسين به من لقطات خاطفة كالوميض تُعيد لك ذكرياتك وتحسين بشيء من العجز وعدم القدرة على التعامل معها: هذا نوع من الاسترجاع القلقي ذي الطابع الوسواسي، ومبدأ التعامل معها يكون من خلال التجاهل، أو تغيير المكان، أو إدخال نوع من النشاط الذهني أو النشاط الجسدي الجديد في تلك اللحظة، وذلك من أجل صرف الانتباه.

كما أن هذه الذكريات التي تأتيك يمكنك أن تحوِّريها وتحوِّليها وتعدِّليها، وتجعلي لها إخراجا مختلفا، إخراجا جميلا، وهنا قطعًا هذا يتطلب منك استرسالا بشيء من أحلام اليقظة، وهذا غير مطلوب في هذه الحالة، أحلام اليقظة التي تُعيد التفكير وتحوير وتحويل ذكرى أو فكرة سابقة ذات طابع سلبي، تحولها إلى فكرة مخالفة وذات طابع إيجابي، هذا أمر مُقِرٌّ ومعترف به، وهي أحد الحيل النفسية السيكولوجية التي أراها جيدة جدًّا ومفيدة.

ختامًا: باركَ الله فيك، وجزاك الله خيرًا، ونشكرك على تواصلك مع إسلام ويب.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً