الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا أستطيع البكاء بعد وفاة والدي، ما تفسير ذلك؟

السؤال

السلام عليكم

فقدت أبي منذ شهرين، توفي بعلة مفاجئة، تدمرت خلال مرضه وبكيت كثيرا وانصدمت، ولم أستقبل العزاء طيلة الشهر.

الآن أريد البكاء ولا أستطيع، وأشعر بالغثيان، لا أستوعب موته مع أنني أعلم أنه توفي.

كان أبي كل شيء بالنسبة لي، أريد أن أحزن عليه طيلة عمري، لا يخرج عن تفكيري أبدا، وأكره أي لحظة لا أذكره فيها، لست قادرة على مقابلة الناس، أريد البكاء ولا أقدر، مع أن أهلي يقولون لي أنني أبكي كثيرا.

كانت دمعتي قريبة، والآن لا أجدها عند حاجتي حزنا لفراق أبي.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ ريم حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً وسهلاً بك -أختي العزيزة- أحزنني ما قرأتُهُ بوفاة والدكِ، أدعو الله الكريم أن يُثلج قلبك بالرضا بقضاء الله خيره وشره والصبر على فراقه، ونسأل الله تعالى لوالدك الرحمة والغفران، وأن يسكنهُ فسيح جنانه.

• إنّ فقدان والدك يندرج ضمن الحدث غير الاعتيادي والمفاجئ، ويندرج نفسياً تحت ما يسمى بالأحداث الحياتية الصادمة التي تتسم بالفجائية والعجز، حيث تهز هذه النوعية من الأحداث الصادمة الأمن النفسي للإنسان، وتؤثر على الناس بطرق مختلفة، فبعض الأشخاص يستطيعون تجاوز هذه المرحلة الصعبة خلال فترة قصيرة، وبعضهم قد تطول لديهم هذه الفترة ومنهم من قد لا يتمكن من تجاوزها بسهولة.

أي تتفاوت درجة الصدمة من قليلة إلى شديدة، وتختلف سرعة الإنسان في تجاوزه لها بناء على عدة عوامل وهي: (معنى ومكانة الإنسان المفقود بالنسبة للشخص/ هل الصدمة مفاجئة أم تدريجية وتم التمهيد لها؟ / كيف هي البنية والقوة والصلابة النفسية للشخص؟ / خبرات الشخص الحياتية؟ / المرحلة العمرية للشخص / حاجة الشخص للإنسان المفقود / وجود دائرة الدعم من حوله).

لذا ستدركين مع الوقت أن ردة فعلك أنتِ وكل من حولك تجاه وفاة والدك هي مختلفة عن بعض، وذلك للعوامل المذكورة.

• إن المراحل التي يمرُّ بها الإنسان أثناء تعرضه للصدمة النفسية كفقدان عزيز عليه، وكيفية مواجهته لها هي خمسة مراحل بدءاً من تلقي الخبر إلى تمكنه من تجاوز هذه المرحلة بسلام، وهي:

- المرحلة الأولى: تبلّد المشاعر وحالة من الجمود والمفاجأة عند تلقي الخبر، فلا يعطي الإنسان أي ردّة فعل في اللحظات الأولى، وقد تطول هذه المرحلة لدقائق أو لساعات.

- المرحلة الثانية: وهي مرحلة إنكار الحدث، حيث يقوم الإنسان كوسيلة دفاع نفسية داخلية بالإنكار، وعدم الاعتراف مع نفسه بخسارة ذلك الشخص العزيز.

- المرحلة الثالثة: وهي الاحتجاج والرفض والتذمر (وهي ما تمرين به الآن)، وكأنّ الإنسان يرفض مع ذاته وفاة قريبه، وهي حالة نفسية عابرة ومؤقتة، وليس لها علاقة بضعف الإيمان بقضاء الله -كما تُفسّر غالباً اجتماعياً-.

- المرحلة الرابعة: وهي الكآبة والحزن وضيق الصدر، ويُعبّر عنها كل شخص بطريقته، فمنهم بالانطواء على النفس، ومنهم بالبكاء الشديد، وهذه المرحلة بالرغم من أنها مؤلمة جداً إلا أنها مهمة جداً للتعافي.

- المرحلة الخامسة: وهي القبول، أي قبول الحدث الصادم والبدء بالتخطيط للعودة إلى الحياة الطبيعية ومسؤولياتها، مع الحفاظ الكامل على الوفاء لذكرى الشخص المُتوفّى.

الفكرة التي أريد قولها هنا: من الصحة النفسية أن تنتقلي من مرحلة إلى المرحلة اللاحقة وصولاً إلى مرحلة القبول، وحتى تتمكني من ذلك عليكِ ألا تتجاوزي أية مرحلة دون أن تعطيها وقتها وحقك بأن تعيشيها، وألا تجبري نفسك على الانتقال إلى المرحلة التالية دون أن تعيشي المرحلة السابقة وتعطيها حقها من التفهم، وأيضاً من المهم ألّا تتثبّتي مُطولاً عند مرحلة معينة دون تجاوزها والانتقال للمرحلة التالية.

معرفتك لهذه المراحل والنقاط الهامة ستجعلك أكثر تفهماً واستبصاراً بذاتك، وكيف تتفاعلين مع وفاة والدكِ، وبالتالي أكثر وعياً لتجاوز الأمر بسلام.

• خلاصة ما أريد قوله: أنت تمرين الآن بالمرحلة الثالثة من مراحل تجاوز الصدمة، وهي التذمر ورفضك أن تعترفي بوفاة والدك سواء مع نفسك أو أمام الناس، وهذا ما يجعلك ترفضين البكاء وترفضين أيضاً مقابلة الناس، وما حَدَثَ معك هو أنك بحاجة حقيقية للانتقال إلى المرحلة الرابعة وهي الحزن والبكاء، ومن ثم المرحلة الخامسة وهي القبول والرضا، ولكن ذلك ما زال صعباً عليك.

• بعض الاقتراحات والنصائح لتجاوز هذه المرحلة الصعبة من حياتكِ بسلام، وتمكنك من الانتقال إلى مرحلة الحداد ومن ثم مرحلة الرضا:
- اصبري على نفسك، فالأوجاع والآلام تحتاج إلى الوقت لتلتئم، وكل ما عليك هو إعطاء نفسك ذلك الوقت، مع احتوائك لها في هذه الحالة.

- اطلبي الدعم الذي تحتاجينه من المُقرّبين لكِ من العائلة والأصدقاء، فوجود دائرة الدعم حول الشخص تُعينه كثيراً على تجاوز مراحل الصدمة بسرعة أكبر وبسلام، ومن المفيد جداً تحدثكِ مع المقربين عن المشاعر التي تنتابكِ، لذا رجاءً لا تعيشي مشاعر الحزن بداخلك وحدك، اختاري أي شخص مقرب لك وبادري بالتفريغ له عما تشعرين به (صوت أو كتابة أو أي أسلوب يشعرك بالراحة)، واطلبي منه أن يُعينك على ذلك وأن يصغي لك، حتى لو لم تتمكني من التكلم.

- خذي وقتك للتفريغ عن كل ما تشعرين به في هذه المرحلة من التذمر والرفض، وخذي وقتك لتفهم كل ما تشعرين به، وتقبلي مشاعرك أياً كانت، بعيداً عن لوم وجلد ذاتك وإطلاق الأحكام على نفسك، فهذه الخطوات هي من أهم الخطوات للتعافي والشفاء من الألم والحزن الناتج عن الصدمة، وتذكّري أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد حزن وبكى على وفاة ابنه إبراهيم حين قال: (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)، رواه البخاري.

- اقضي وقتاً أكبر مع عائلتكِ هذه الفترة، فوجعكم واحد، وهم أكثر من سيفهم ألمك، وتفريغكم للمشاعر سوف يُسرّع من عملية الاستشفاء الذاتي، وخاصة عندما يجمع بين أفراد الأسرة المحبة والتفاهم.

- جلوسك مع أهلك إضافة إلى أنه سيفيدكِ، إلّا أنه قد يفيدهم كذلك، فقد يكونون بحاجة لكِ كنوع من الدعم (أمك وأخوتكِ)، فلا تستخفّي بدورك ومكانتكِ لديهم وقدرتكِ على التأثير الإيجابي عليهم حتى ولو كنتِ في حالتكِ هذه، فلا يوجد أجمل من تعاضد أفراد الأسرة مع بعضها في المواقف الصعبة.

- فكّري بالأثر الإيجابي الكبير الذي تركه لكم والدكم، وكم من البذور الجميلة التي زرعها بداخلكم، ومن المؤكد أنها ستثمر على مدار السنوات، وهذه الثمرات من أعمال صالحة وأولاد صالحين، هم أجمل أثر وأكبر عدّاد للحسنات سيبقى مفتوحاً له دون أية توقف.

- إن الموت هو سنة الحياة ولا مهرب منه، بل إن دار الدنيا ليست إلا محطة عبور للمؤمن أثناء ذهابه إلى الدار الآخرة، لذا إيماننا بالموت هو جزء من إيماننا بالله وبرسالتنا، وبمغزى وجودنا في هذه الحياة، وإكمالك في مسيرة حياتك بعد وفاة عزيز لك لا يعني أبدا أنك قد نسيته أو غاب عن تفكيرك، بل يعني أنك مدركة تماماً لرسالتك في الحياة، وبأننا جميعاً راجعون إلى الله -عزّ وجل-.

- أخيراً: -ولله الحمد- أنّ ديننا الحنيف قد علّمنا كيفية مواجهة هذه المواقف الصعبة، وذلك من خلال التسليم لله بقولنا بعد بسم الله الرحمن الرحيم: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156 من سورة البقرة)، فمن قالها وصبر على حزنه ومصيبته أخذ -بإذن الله- ثواب الصابرين الذي وعدهم الله تعالى به بقوله: (واصبروا إنّ الله مع الصابرين)، وقوله أيضاً (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، أدعو الله لك عزيزتي أن يقويك ويعينك على الصبر والاحتساب وأن يجزيك عن ذلك خير الجزاء.

تفكيرك بهذه الخطوات ومحاولتك لتطبيقها سيساعدك على إخراج مشاعرك المكبوتة، وهذا ما تحتاجينه، فعدم قدرتك على البكاء الآن يعكس كم أنك قد كتمت مشاعرك وحزنك جرّاء صدمتك بوفاة والدك، ومن الهام جدا والصحي لنفسيتك أن تساعدي نفسك على إظهار وإخراج والتفريغ عن كل ما تشعرين به من أحاسيس متناقضة.

ختاماً: أسأل الله تعالى أن يقويكِ بقوة الإيمان، وأن يجعلكِ من الصابرين المحتسبين، وأن يجزيك عن ذلك خير الجزاء، أنتِ وعائلتك جميعاً، وأتمنى أن لا تترددي في مُراسلتنا مُجدّداً في حال وجود أية استفسارات أخرى، وللاطمئنان عنك عن قريب.

برعاية الله وحفظه.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً