الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أتعالج من وساوس العقيدة؟

السؤال

السلام عليكم.

أعاني من وسواس قهري في العقيدة، أحاول جاهدا التغلب عليه لكن دون جدوى، بدأت رحلتي مع المرض في النية وتحولت معي إلى العقيدة، ثم تحولت الآن إلى سب وشتم كل ما يتعلق بالدين، كرهت كل شيء، مشكتلي الاسترسال لا أستطيع التغلب عليه، لا أعرف ماذا أريد من هذه الحياة، إني تائه، هل العلاج الدوائي كافي مع أني كنت أتناول الدواء لكن دون فائدة، أرشدوني.

جزاكم الله خيرا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ مريش حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أرحب بك في الشبكة الإسلامية، وأسأل الله تعالى لك العافية والشفاء.

الوساوس الدينية كثيرة جدًّا، ومنتشرة، وهي بالفعل مزعجة لنفس المؤمن، والوساوس ليست أمرًا جديدًا، فقد اشتكى منها بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضًا، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُحَدِّثُ نَفْسِي بِالشَّيْءِ، لَأَنْ أخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ سول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيَدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ)، وَجَاءَه نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فقَالَ صلى الله عليه وسلم: (وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ)، وفي رواية: شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَجِدُونَ مِنَ الْوَسْوَسَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ بِالشَّيْءِ لَأَنْ يَكُونَ أَحَدُنَا يَخِرُّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. فَقَالَ: (ذَلِكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ).

والرسول -صلى الله عليه وسلم- نصح مَن يُصاب بهذه الوساوس أن يقولوا (آمنت بالله)، فقد قال: (فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ)، وقال: (فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ) بمعنى ألَّا يُحاور الوسواس، وألَّا يُناقش الوسواس، وألَّا يسترسل مع الوسواس.

نعم الوساوس مُلحَّة ومستحوذة، لكن إرادة الإنسان يمكن أن تكون أقوى منها، ونحن نقول أن الوساوس حتى وإن كانت خنَّاسية مصدرها الشيطان في بعض الأحيان قد تتحول إلى وساوس طبية مصدرها نقص في بعض المواد الكيميائية في الدماغ، والعلاج هو علاج دوائي ونفسي واجتماعي وإسلامي.

هذه الأربع محاور من العلاج – أخي الكريم – يجب أن تكتمل.

العلاج الدوائي مفيد جدًّا على المدى القريب، لكن بعد التوقف منه قد ينتكس الإنسان إذا لم يقم بالتدرُّب على الآليات السلوكية، والتي تقوم على ثلاث محاور: المحور الأول هو بعد أن يتم تحليل الوساوس ويكتبها الإنسان في ورقة يبدأ بأضعفها، ثم يتدرّج حتى يصل إلى أشدها، ثم بعد ذلك ينتقي ويختار الفكرة الأولى ويتعامل معها من خلال: التحقير والتجاهل، وعدم الخوض في نقاشه أو تحليله، ومن ثمَّ تطبيق ما يُسمَّى بـ (إيقاف الأفكار)، أن تُخاطب الفكرة أمامك، تتصور أنها متجسدة أمامك دون أن تحاورها، وتقول: (قف، قف، قف، أنتَ وسواس حقير، ...) وهكذا، يُكرَّرُ هذا حتى تحسّ بشيء من الإجهاد.

التمرين الثاني هو تمرين (صرف الانتباه)، تفكّر في الفكرة الوسواسية كخاطرة، ودون أن تُحلِّلها في بداياتها، وبعد ذلك تصرف انتباهك وتقول: (لماذا لا أتأمَّل أو أتفكّر في شيء أفضل منها؟) وتدخل فيما يُسمَّى بـ (الاستغراق الذهني) مثلاً تبدأ في عدِّ التنفُّس لديك، مع تأمُّلٍ حول الرئتين والأكسجين والدم، وهذه المسارات العظيمة في جهاز التنفس لديك، تتأمَّل في ذلك لدقيقتين إلى ثلاثة، ويمكن أيضًا أن تُغيّر مكانك، وأن تُغيّر وضعك، هذا يُسمَّى بـ (صرف الانتباه)، وهو علاج مستنبط من السُّنَّة المطهرة.

وتمرين ثالث يُسمَّى (تمرين التنفير)، أن تنفِّر الفكرة من خلال ربطها بتفاعل أو فكرة قبيحة مضادة لها. علماء السلوك وجدوا أن الأشياء المضادة لا تلتقي في حيِّزٍ فكريٍّ وجدانيٍ إنسانيٍّ واحد، مثلاً تقوم بجلب الفكرة الوسواسية ثم تُدخل عليها فكرة أخرى مكروهة للنفس، كتذكُّر حادث بشع أو احتراق طائرة مثلاً، أو تقوم بشمِّ رائحة كريهة وفي ذات الوقت تستجلب الفكرة الوسواسية، أو تقوم مثلاً بالضرب على يدك على جسم صلب كسطح الطاولة حتى تحس بألمٍ شديدٍ، وتربط هذا الألم مع الفكرة الوسواسية.

تكرار هذه التمارين بدقة وقناعة قطعًا سوف يُنفّر الفكرة الوسواسية.

طبعًا سوف تمسك هذه الأفكار واحدة بعد أخرى، واحدة واحدة، وتُطبق عليها هذه التمارين - تمارين إيقاف الأفكار، وتمارين صرف الانتباه، وتمارين التنفير - بصفة يومية.

الأمر الآخر هو: حُسن إدارة الوقت، الإنسان يصرف نفسه عن الوساوس من خلال أن يرفع من شأن أنشطته الأخرى، الفكر الإنساني يكون في طبقات، والفعل الإنساني أيضًا يكون في درجات، والعواطف الإنسانية تكون في مراحل، فإذا وضعت ما هو أعلى وأفضل في سلسلة أفكارك؛ هذا سوف يُسيطر على الخانة التي كان يملأها الوسواس. فكّر في شيء آخر، مثلاً أن تتحصل على درجة الماجستير، أن تقوم بأي عملٍ ما، مشروع لحفظ القرآن الكريم، هذه سوف تعلو من ناحية التدرُّج الفكري ممَّا يزيح الأفكار الوسواسية غير المُجدية.

فهذه كلها نوع من التمارين الذهنية المعرفية التي وُجدت مفيدة جدًّا في علاج الوساوس القهرية.

فإذًا الآن أفدناك بتفاصيل كثيرة، أرجو أن تطبقها وتستفيد منها، ويأت بعد ذلك العلاج الدوائي كعلاج مكمّل، والدواء في حالة الوساوس القهرية يجب أن تكون الجرعة هي الجرعة العلاجية الصحيحة، الجرعة الكاملة أو على الأقل الجرعة الوسطية، مثلاً عقار مثل الـ (بروزاك) والذي يُسمَّى (فلوكستين) عقار رائع جدًّا، الجرعة في حالة الوساوس حتى أربع كبسولات في اليوم، وإن كان معظم الناس يستفيدون كثيرًا من كبسولتين إلى ثلاثة في اليوم.

فإذًا تناول الدواء بانضباط، وبدقة، وللمدة المعلومة.

أنت ذكرت أنك تناولت الدواء فيما سبق، ولم توضح هذا الدواء، أنا أعطيتك مثالًا عن عقار (فلوكستين/بروزاك)، وأقول لك جرعته تبدأ بكبسولة واحدة في اليوم - أي عشرين مليجرامًا - تتناولها لمدة أسبوعين، ثم تجعلها كبسولتين يوميًا - أي أربعين مليجرامًا - وتستمر عليها لمدة شهرٍ، ثم تجعلها ثلاث كبسولات يوميًا - أي ستين مليجرامًا - تتناولها كجرعة واحدة - أو كبسولة صباحًا وكبسولتين مساءً - وهذه الجرعة العلاجية تستمر عليها لمدة ثلاثة أشهر، وهذه مدة كافية جدًّا، ثم خفض الجرعة بعد ذلك إلى كبسولتين يوميًا لمدة ثلاثة أشهر أخرى، ثم اجعلها كبسولة واحدة يوميًا لمدة ستة أشهر، وهذه هي الجرعة الوقائية. بعد ذلك اجعلها كبسولة يومًا بعد يومٍ لمدة شهرٍ، ثم توقف عن تناول الدواء.

الدواء سليم وفاعل وغير إدماني، وطبعًا توجد أدوية كثيرة أخرى، لذا مراجعتك ومتابعتك مع الطبيب سوف تكون مهمّة جدًّا، لأننا في بعض الأحيان نحتاج أن ندعم الدواء بدواء ثانٍ أو حتى ثالث، المجال العلمي كبير جدًّا في هذا السياق، والحمد لله تعالى الآن توجد أدوية ذات فائدة وفعالية كبيرة جدًّا.

أسأل الله لك التوفيق والسداد، وأشكرك على الثقة في إسلام ويب.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً