باب ذكر الإقرار بالدين للوارث
أجمع كل من نحفظ قوله من علماء الأمصار، من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر وغيرهم، على أن لا وصية لوارث، وجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه . "أن لا وصية لوارث"
واختلفوا في . إقرار المريض للوارث بدين
فقالت طائفة: ذلك جائز، كذلك قال ، عطاء بن أبي رباح ، وبه قال والحسن البصري ، إسحاق بن راهويه . وأبو ثور
وروينا عن شريح، ، أنهما أجازا إقرار الرجل في مرضه لامرأته بالصداق، أو ببعضه. وبه قال والحسن البصري . الأوزاعي
وقالت طائفة: لا يجوز . إقرار المريض في مرضه للوارث
كذلك قال شريح، [ ص: 130 ] وأبو هاشم، وابن أذينة، وروي ذلك عن والنخعي، القاسم بن محمد ، ، وبه قال وسالم بن عبد الله بن عمر يحيى الأنصاري ، ، وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل، والنعمان، وأصحابه .
وقد كان رحمه الله إذ هو الشافعي بالعراق يجيز الإقرار للوارث في المرض بالدين، ثم رجع عنه بمصر، فقال: لا يجوز .
وفيه قول ثالث: قاله قال مالك، : سألت [مالكا] عن رجل حضره الموت، وله عرض كثير فذكر أن جميع ذلك لامرأته، وأنه من مالها، ولم يسمع ذلك منه في حياته. قال: إن كان يتهم على ذلك لم يصدق، وإن كان لا يتهم على ما ذكر نظر في ذلك . ابن وهب
قال في إقرار المريض بالدين للوارث: لا يجوز إلا ببينة، قيل له: فالرجل يقر في مرضه لامرأته بالمهر يكون عليه، أو بالدين، قال: ينظر في ذلك، فإن كان لا يعرف منه إليها ناحية ولا انقطاع، وله ولد من [ ص: 131 ] غيرها جاز. وإن كان يعرف منه انقطاعا إليها ومودة، وقد كان الذي بينه وبين ولده متفاقما فلا أرى أن يجوز ذلك . ابن القاسم
وكان يقول: إذا أقر بدين لوارث في مرضه لم يجز إلا أن يقر لامرأته بصداق . الحسن بن صالح
قال احتج بعض من أبطل إقرار المريض بالدين للوارث في المرض بأن الوصية للوارث لما لم تجز، فكذلك الإقرار في المرض بالدين للوارث لا يجوز. وقال غيره: يتهم المريض إذا أقر بالدين للوارث أنه أراد بذلك الوصية وقال من خالفهم فيمن يجيز إقرار المريض في مرضه الذي يموت فيه بالدين للوارث، بأن الوصية شيء ينفصل به المرء من ماله، وله الرجوع عن ذلك ما دام حيا والدين لازم في جميع المال، وليس لصاحبه أن يرجع عنه عاش أو مات، ولا اختلاف بينهم أن رجلا لو أوصى لوارثه في صحته أن الوصية باطل، ولو أقر بدين في صحته لزمه ذلك . أبو بكر:
وقال بعضهم: يقال لمن قال: إني أبطل إقراره بالدين للوارث من جهة التهمة، أرأيتم لو أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا، وخيار المهاجرين والأنصار، أو [لو] أن ، أيوب السختياني وابن عون، ويونس بن عبيد، والثوري، أقر بعضهم في مرضه لبعض ورثته بعشرة دراهم، أكنتم تبطلون إقراره، وتتهمونه، وهم المعروفون بالعدالة، والثقة، والصدق، والأمانة، فإن قالوا: لا، قيل: [ ص: 132 ] فما الفرق بينهم وبين غيرهم ممن هو دونهم، ولزمهم أن يفرقوا بين الناس في أحكام الله - جل ذكره. وإن قالوا: نتهمهم، قيل: من أباح لكم الظن بهؤلاء الأئمة، وسوء الظن بالعامة لا يجوز، فكيف بهؤلاء، وقال الله - جل ذكره - : ( وابن المبارك، اجتنبوا كثيرا من الظن ) الآية .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: . "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"
والأغلب من أمور المسلمين أن الرجل إذا حضره الموت تاب وندم على ما فرط فيه، واستغفر ربه من ذنوبه السالفة، وأمر برد المظالم إلى أهلها، واستحل من لم يمكنه رد مظلمته عليه، فكيف يجوز أن يظن بمسلم أنه يقصد عند خروجه من الدنيا وانقضاء أجله، وقدومه على خالقه إلى معصية ربه، هذا مما لا ينبغي لمسلم أن يظنه بأخيه، ولو جاز أن يساء الظن بأحد ما جاز أن يحقق ذلك، ويحكم به عليه .
وقد أجمع أهل العلم على أن أن رجوعه عن الوصية جائز، ولا يقبل رجوعه عن الإقرار بالدين . رجلا لو أوصى لوارثه بوصية، وأقر له بإقرار في صحته، ثم رجع عن ذلك
وأجمع أهل العلم على أن أن ذلك جائز . [ ص: 133 ] رجلا لو أقر لأجنبي بدين يحيط بجميع ماله في مرضه، ومات،
ولو أوصى بماله كله ثم مات، بطل منه ما زاد على الثلث .
ويقال لمن خالف هذا القول: أرأيتم إن هو لو أقر لوارث بدين، وأوصى لوارث آخر بثلث ماله ثم رجع عن الوصية وعن الإقرار للوارث ثم أوصى لأجنبي بثلث ماله، ثم قال: قد رجعت عن ذلك كله، ثم صح. فمن قولهم: إن الوصية تبطل بالرجوع، والإقرار لازم له لا يقبل رجوعه ففرقوا بين الإقرار، وبين الوصية على ألسنتهم .