342 - حدثنا حدثني أبي ، حدثنا عبد الله ، إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه ، أخبرنا عبد الصمد بن معقل قال : سمعت قال : " وهب بن منبه موسى عليه السلام النار ، انطلق يسير حتى وقف منها قريبا ، فإذا هو بنار عظيمة ، تفور من فرع شجرة خضراء ، شديدة الخضرة ؛ لا تزداد النار فيما يرى إلا عظما وتضرما ، ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسنا ، فوقف ينظر ؛ لا يدري علام يضع أمرها ؟ إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحترق ، وأوقد إليها موقد فالها ، فاحترقت ، فإنه إنما يمنع النار شدة خضرتها ، وكثرة مائها ، وكثافة ورقها ، وعظم جذعها ، فوضع أمرها على هذا ، فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء يقتبسه ، فلما طال ذلك عليه ، أهوى إليها بضغث في يده ؛ وهو يريد أن يقتبس من لهبها ، فلما فعل ذلك موسى مالت نحوه ؛ كأنها تريده ، فاستأخر عنها وهاب ، ثم عاد فطاف بها ، فلم تزل تطمعه ويطمع فيها ، ولم يكن شيء بأوشك من خمودها ، فاشتد عند ذلك عجبه ، وفكر موسى في أمرها ، وقال : هي نار ممتنعة ، لا يقتبس منها ، ولكنها تتضرم في جوف شجرة فلا تحرقها ، ثم خمودها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين ، فلما رأى ذلك موسى قال : إن لهذه النار لشأنا ، ثم وضع أمرها على أنها مأمورة ، أو مصنوعة ، لا يدري من أمرها ، ولا بم أمرت ؟ ولا من صنعها ، ولا لم صنعت ؟ فوقف متحيرا ، لا يدري أيرجع أم يقيم ؟ فبينما هو على ذلك إذ رمى طرفه نحو فرعها ، فإذا هو أشد ما كان خضرة ، وإذا الخضرة ساطعة في السماء ، ينظر إليه ، يغشى الظلام ، ثم لم تزل الخضرة تنور وتصفر وتبياض ، حتى صارت نورا ساطعا ، عمودا بين السماء والأرض عليه مثل شعاع الشمس تكل دونه الأبصار ؛ كلما نظر إليه يكاد يخطف بصره ، فعند ذلك اشتد خوفه وحزنه ، فرد يده على عينيه ، ولصق بالأرض ، وسمع الخفق والوجس ، إلا أنه يسمع حينئذ شيئا لم يسمع السامعون بمثله عظما ، فلما بلغ موسى الكرب ، واشتد عليه الهول ، وكاد أن يخالط في عقله في شدة الخوف لما يسمع ويرى ، نودي من الشجرة ؛ فقيل : يا موسى فأجاب سريعا ، وما يدري من دعاه ؟ وما كان سرعة إجابته إلا استئناسا بالأنس ، فقال : لبيك ، مرارا إني أسمع صوتك ، وأوجس وجسك ، ولا أرى مكأنك ، [ ص: 55 ] فأين أنت ؟ فقال : أنا فوقك ومعك وأمامك وأقرب إليك منك فلما سمع هذا موسى علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه جل وعز ، فأيقن به ، فقال : كذلك أنت يا إلهي ، فكلامك أسمع أم رسولك ؟ قال عز وجل : بل أنا الذي أكلمك ، فادن مني فجمع موسى يديه في العصا ، ثم تحامل ، حتى استقل قائما ، فرعدت فرائصه ، حتى اختلفت واضطربت رجلاه ، وانقطع لسانه ، وانكسر قلبه ، ولم يبق منه عظم يحمل آخر ، فهو بمنزلة الميت إلا أن روح الحياة تجري فيه ، ثم زحف على ذلك ، وهو مرعوب ، حتى وقف قريبا من الشجرة التي نودي منها قال له الرب تبارك وتعالى : إلى ما تلك لما رأى وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي قال : وما تصنع بها ؟ ولا أحد أعلم بذلك منه قال موسى عليه السلام : أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى .
وكان لموسى في العصا مآرب ؛ كانت لها شعبتان ومحجن تحت الشعبتين قال له الرب تبارك وتعالى : ألقها يا موسى فظن موسى أنه يقول : ارفضها فألقاها على وجه الرفض ، ثم حانت منه نظرة ، فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون ، يدب يلتمس ؛ كأنه يبتغي شيئا يريد أخذه ، يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل ، فيقتلعها ، ويطعن بأنياب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة ، فتجتثها ، عيناه توقدان نارا ، وقد عاد المحجن عرفا فيه شعر مثل النيازك ، وعاد الشعبتان فما مثل القليب الواسع ، وفيه أضراس وأنياب لهما صريف فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرا ولم يعقب فذهب حتى أمعن ، فرأى أنه قد أعجز الحية ، ثم ذكر ربه ، فوقف استحياء منه ، ثم نودي : يا موسى ، إلي ارجع حيث كنت ، فرجع وهو شديد الخوف ، فقال : خذها بيمينك ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف ، قد خلها بخلال من عيدان ، فلما أمره بأخذها ، ثنى طرف المدرعة على يده ، فقال له ملك : أورأيت يا موسى لو أذن لنا الله عز وجل لما تحاذر ، أكانت المدرعة تغني عنك شيئا ؟ قال : لا ولكني ضعيف ، ومن ضعف خلقت فكشف عن يده ، ثم وضعها في في الحية ، حتى سمع حس الأضراس والأنياب ، ثم قبض ، فإذا هي عصاه التي عهدها ، وإذا يده في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين ، فقال له الله عز وجل : ادن فلم يزل يدنيه ، حتى أسند ظهره بجذع الشجرة ، فاستقر ، وذهب عنه الرعدة ، وجمع يديه في العصا ، وخضع برأسه وعنقه ، ثم قال له : إني قد أقمتك اليوم مقاما لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك ؛ أدنيتك وقربتك حتى سمعت كلامي ، وكنت بأقرب الأمكنة مني ، فانطلق برسالتي ، فإنك بعيني وسمعي ، وإن معك يدي ونصري ، وإني قد ألبستك جنة من سلطاني ، تستكمل بها القوة في أمري ، فأنت جند عظيم من جنودي ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي ؛ بطر نعمتي ، وأمن مكري ، وغرته الدنيا عني ، حتى جحد حقي ، وأنكر ربوبيتي ، وعبد دوني ، وزعم أنه لا يعرفني ، وإني أقسم بعزتي ، لولا العذر والحجة اللذان وضعت بيني وبين [ ص: 56 ] خلقي لبطشت به بطشة جبار ، يغضب لغضبه السماوات والأرض والجبال والبحار ؛ فإن أمرت السماء حصبته ، وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت الجبال دمرته ، وإن أمرت البحار غرقته ، ولكنه هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي ، واستغنيت بما عندي ، وحق لي أني أنا الغني ؛ لا غني غيري ، فبلغه رسالاتي ، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي ، وإخلاص اسمي ، وذكره بأيامي ، وحذره نقمتي وبأسي ، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي ، وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا ؛ فإن ناصيته بيدي ، ليس يطرف ، ولا ينطق ، ولا يتنفس إلا بإذني ، قل له : أجب ربك ؛ فإنه واسع المغفرة ، وإنه قد أمهلك أربعمائة سنة ، وفي كلها أنت مبارز لمحاربته ، تشبه وتمثل به ، وتصد عباده عن سبيله ، وهو يمطر عليك السماء ، وينبت لك الأرض ، لم تسقم ، ولم تهرم ، ولم تفتقر ، ولم تغلب ، ولو شاء أن يعجل ذلك لك ، أو يسلبكه فعل ، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم وجاهده بنفسك وأخيك ، وأنتما محتسبان لجهاده ، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف ، الذي أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة ولا قليل مني تغلب الفئة الكثيرة بإذني ، ولا يعجبكما زينته ، ولا ما متع به ، ولا تمدان إلى ذلك أعينكما ؛ فإنها زهرة الحياة الدنيا ، وزينة المترفين ، وإني لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها ، أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما ، فعلت ، ولكني أرغب بكما عن ذلك ، وأزويه عنكما ، وكذلك أفعل بأوليائي ، وقديما ما خرت لهم في ذلك ، فإني لأذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة ، وإني لأجنبهم سلوتها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة ، وما ذلك لهوانهم علي ؛ ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفورا ، لم تكلمه الدنيا ، ولم يطفه الهوى ، واعلم أنه لم يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ من الزهد في الدنيا ؛ فإنها زينة المتقين عليهم منها لباس ، يعرفون به من السكينة والخشوع ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، أولئك أوليائي حقا ، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك ، وذلل لهم قلبك ولسانك ، واعلم أنه من أهان لي وليا ، أو أخافه ، فقد بارزني بالمحاربة وبادأني ، وعرض بنفسه ، ودعاني إليها ، فأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ؟ أويظن الذي يغازيني أن يعجزني ؟ أويظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني ؟ وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة ؛ لا أكل نصرتهم إلى غيري ؟ " قال : " فأقبل موسى عليه السلام إلى فرعون في مدينة قد جعل حولها الأسد في غيضة قد غرسها ، فالأسد فيها مع سياسها ، إذا أشلتها على أحد أكلته ، وللمدينة أربعة أبواب في الغيضة ، فأقبل موسى عليه السلام من الطريق الأعظم الذي يراه فرعون ، فلما رأته الأسد صاحت صياح الثعالب فأنكر ذلك الساسة ، وفرقوا من فرعون ، وأقبل موسى حتى [ ص: 57 ] انتهى إلى الباب الذي فيه فرعون ، فقرعه بعصاه ، وعليه جبة صوف وسراويل ، فلما رآه البواب ، عجب من جرأته ، فتركه ، ولم يأذن له ، وقال : هل تدري باب من أنت تضرب ؟ إنما تضرب باب سيدك قال : أنا وأنت وفرعون عبيد لربي تبارك وتعالى فأنا ناصره فأعلمه البواب السابق ، فأخبر البواب الذي يليه والبوابين ، حتى بلغ ذلك أدناهم ، ودونه سبعون حاجبا ، كل حاجب منهم تحت يديه من الجنود ما شاء الله ؛ كأعظم أمير اليوم إمارة ، حتى خلص الخبر إلى فرعون ، فقال : أدخلوه علي فأدخل ، فلما أتاه قال له فرعون : أعرفك ؟ قال : نعم ، قال : ألم نربك فينا وليدا فرد عليه موسى الذي ذكر الله عز وجل ، قال فرعون : خذوه ، فبادأهم موسى ، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فحملت على الناس ، فانهزموا منها ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ؛ قتل بعضهم بعضا ، وقام فرعون منهزما ، حتى دخل البيت ، فقال لموسى : اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فيه فقال له موسى : لم أومر بذلك ؛ وإنما أمرت بمناجزتك ، وإن أنت لم تخرج إلي دخلت إليك فأوحى الله ، عز وجل إلى موسى أن اجعل بينك وبينه أجلا ، وقل له أن يجعله هو ، ثم قال فرعون : اجعله لي أربعين يوما ففعل ، وكان فرعون لا يأتي الخلاء إلا في أربعين يوما مرة ، فاختلف ذلك اليوم أربعين مرة " قال : " وخرج موسى عليه السلام من المدينة ، فلما مر بالأسد مصعت بأذنابها ، وسارت مع موسى تشيعه ، ولا تهيجه ، ولا أحدا من بني إسرائيل " .