فلما كانت بدر فقتل الله فيها صناديد الكفار ، قال : كفار وقعة قريش : إن ثأركم بأرض الحبشة فابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يدفع إليهما من عنده من قريش فنقتلهم بمن قتل منكم يوم بدر .
ففي هذا الحديث أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا هاجروا إلى أرض الحبشة لم يخرجوا عنها حتى جعل الله - عز وجل - لهم دار هجرة أخرى سواها وهي المدينة .
وفيه أيضا أن عثمان الذي ذكر أن قدومه كان مع قدوم محمد بن إسحاق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود بمكة ، إنما كان بالمدينة ، وهؤلاء الذين رووا هذا الحديث فهم أصحاب المغازي الذين أخذ محمد المغازي عمن أخذها عنهم ، وهو ولا [ ص: 219 ] سيما إن كان الذي ذكر أن قدوم الزهري ، على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ابن مسعود بمكة ، نقول : أن منقطع يقوم مقام المتصل . ابن المسيب
وقد روي عن رضي الله عنها ما يدل على هذا المعنى أيضا . عائشة
411 - حدثنا يونس ، قال : حدثني قال حدثني ابن وهب ، يونس ، عن قال : حدثني ابن شهاب ، عروة ، أن رضي الله عنها ، قالت : عائشة بمكة للمسلمين : " قد أريت دار هجرتكم ، فرأيت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، ورجع إلى المدينة بعض من هاجر إلى أرض الحبشة .
412 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا قال : سمعت محمد بن كثير ، معمرا يحدث ، عن عن الزهري ، عن عروة ، رضي الله عنها ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله . عائشة
ففي هذا الحديث ما يدل على أن الحبشة لم يرجعوا إلا إلى دار هجرة سواها ، وكيف يجوز أن يقال : إنهم رجعوا إلى دار قد هاجروا منها وذلك مما قد منعوا منه ، ألا ترى إلى ما قد روى المسلمين الذين هاجروا إلى أرض رضي الله عنه - ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . العلاء بن الحضرمي -
413 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا أنس بن عياض الليثي ، عن قال : سمعت عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه - ، يسأل عمر بن عبد العزيز - السائب بن يزيد مكة ؟ ما سمعت في سكنى
فقال : قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " ثلاث للمهاجر بعد الصدر " . العلاء بن الحضرمي :
414 - حدثنا قال : حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثني حبان بن هلال ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، فذكر بإسناده مثله . عبد الرحمن بن حميد ،
415 - حدثنا قال : حدثنا ابن أبي داود ، الوحاظي ، قال : حدثنا قال حدثني سليمان بن بلال ، فذكر بإسناده مثله ، وزاد كأنه يقول : لا يزيد عليها [ ص: 220 ] . عبد الرحمن بن حميد ،
أفلا ترى أكثر من المدة التي وقتها لهم في حديث العلاء الذي ذكرناه . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص للمهاجرين في الإقامة في الدار التي هاجروا منها
416 - ولقد حدثنا يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبيه ، أنه قال : مرضت عام الفتح مرضا أشفيت منه على الموت ، فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني ، فقلت : يا رسول الله ، أخلف عن هجرتي ، قال : " إنك لن تخلف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ، ولعلك أن تخلف بعدي حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم " ، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات عامر بن سعد بن أبي وقاص ، بمكة . عن
أفلا ترى أن سعدا قد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أخلف عن هجرتي لكراهية المقام في غير دار هجرته ، وإلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سعد بن خولة ما قد قاله فيه لموته في غير دار هجرته .
417 - ولقد حدثني قال : حدثنا محمد بن علي بن داود ، عفان ، قال : حدثنا قال : حدثنا وهيب بن خالد ، عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عمرو بن القاري ، عن أبيه ، عن جده عمرو بن القاري ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة ، فخلف سعدا مريضا حين خرج إلى حنين ، فلما قدم من الجعرانة معتمرا دخل عليه وهو وجع ، فقال : يا رسول الله ، أميت أنا في الدار التي خرجت منها ؟ قال : " إني لأرجو أن يرفع الله - عز وجل - بك أقواما وينتفع بك آخرون ، يا عمرو بن القاري ، إن مات سعد بعدي فادفنه هاهنا نحو طريق المدينة وأشار بيده هكذا " . عن
أفلا ترى أن سعدا ، قال : يا رسول الله ، أميت أنا في الدار التي خرجت منها ، يعني : للهجرة إلى غيرها ، أي : أن ذلك مكروه ، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم لعمرو القاري : " إن مات سعد بعدي فادفنه نحو طريق المدينة " أي : نحو الطريق إلى الدار التي هاجر إليها . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وكيف يجوز لأحد بعد هذا أن يظن بالمهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم تركوا دار هجرتهم التي اختارها الله - عز وجل - لهم على الدار التي كانوا فيها ، ورجعوا إلى الدار التي كانوا فيها ، إن هذا من القول لعظيم [ ص: 221 ] .