فصل :
151 - قال ابن قتيبة في كلام ذكره ، قال : ويقول : ومما يدل على صدقه أن الأعمال تدل على صدق أهلها ، ومما يوجب تصديقه أنه كان أشرف الأشراف ، وأحلم الحلماء ، وأجود الأجواد ، وأنجد الأنجاد ، وأزهد الزهاد ، كان يرقع ثوبه ، ويخصف نعله ، ويصلح خصه ، ويتوسد يده ، ويمهن أهله ، ويأكل بالأرض ، ويلبس العباء ، ويجالس المساكين ، ويمشي في الأسواق ، ولم ير ضاحكا ملء فيه ، ولا آكلا وحده ، ولا ضاربا بيده إلا في سبيل ربه ، وقام حتى تورمت قدماه ، وكان يسمع لجوفه إذا قام بالليل للصلاة أزيز كأزيز المرجل من البكاء ، وقال شيبتني هود ، وأخواتها ، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : اللهم ارزقني عينين هطالتين تذرفان الدموع تشفياني من مخافتك قبل أن تكون الدموع دما ، والأضراس جمرا ، وأقص صلى الله عليه وسلم من نفسه ، وقبض ودرعه مرهونة على شعير اقترضه لطعمه ، ولم يورث ولده ، وقال : إنا معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة ، وقد مدحه الله بجميع أخلاقه ، فقال : ( إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد ، وإنك لعلى خلق عظيم ) فمن استبعد منهم هذه الأشياء ، واتهم بعض هذه الأخبار ، فهذه حجرته التي كان ينزل فيها هو وأهله ، وبها مقبره ، وهذه برده التي يلبسها الخلفاء في الأعياد ، وهذا قدحه الذي كان يشرب فيه ، وهذه نعله ، وهذه كتبه في أكارع الأديم .
قال ابن قتيبة : وهذه شريعته أسهل الشرائع ، وأطيبها ، أحل فيها الطيبات ، وحرم الخبائث ، وأمر ببر الوالدين ، وصلة الرحم ، والصدقة ، والعفو ، والأمر بالمعروف ، والصفح عن الجاهلين ، ومجانبة الغيبة ، والكذب ، والنميمة ، والفواحش ، وشرب الخمر ، والقمار ، وحض على كل حسن ، وردع عن كل قبيح ، وبين للناس ما يأخذون ، وما يتقون في فرائضهم ، وأحكامهم ، وزكاتهم ، وطلاقهم ، وعتقهم ، وحجهم ، ومعاملاتهم ، وسائر أمور دينهم ، وأغناهم عن جميع الأمم ، وعن أهل الكتب ، وأحوج المخالفين لهم إلى ما عندهم ، فالنصارى تستعمل في كثير من المواريث فرائضهم ، وتستعمل في المعاملات أحكامهم ، وكذلك اليهود تلجأ في أحكام إلى حكماء المسلمين ، وليس أمة من الأمم إسناده كإسنادهم رجل ، عن رجل ، وثقة ، عن ثقة ، عن ثقة [ ص: 139 ] حتى يبلغ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحابته يبين الصحيح ، والسقيم ، والمنقطع ، والسليم ، قال : وفي بعض ما اقتصصنا كفاية لمن عقل ، وبلاغ لمن اعتبر ، وشفاء لمن شك ، فما يمنع من كانت له أذن تسمع ، وقلب يفقه ، وعين تبصر أن يفيء إلى الله تعالى ، وينيب إلى الحق قبل الفوت بمفاجأة الموت ، فإنه ليس من الدين عوض ، ولا من الله مهرب ، ولا بعد الموت مستعتب ، ولا دار إلا الجنة ، أو النار .