108 - فصل
في استئجارهم واستئجار المسلم نفسه منهم .
أما فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه استأجر دليلا يدله على طريق الهجرة ، وكان مشركا فأمنه ودفع إليه راحلته هو استئجارهم . والصديق
[ ص: 562 ] وأما إيجارهم نفسه فهي مسألة تفصيل ، ونحن نذكر نصوص أحمد .
قال إسحاق بن إبراهيم : سمعت أبا عبد الله وسأله رجل بناء : أبني للمجوس ناووسا ؟ قال : لا تبن لهم ، ولا تعنهم على ما هم فيه .
وقال محمد بن الحكم : سألت أبا عبد الله عن الرجل المسلم يحفر [ ص: 563 ] لأهل الذمة قبرا بكراء ، قال : لا بأس به وليس هذا باختلاف رواية .
قال شيخنا : والفرق بينهما أن الناووس من خصائص دينهم الباطل فهو كالكنيسة ، بخلاف القبر المطلق ؛ فإنه ليس في نفسه معصية ولا من خصائص دينهم .
وقال : قيل إسحاق بن منصور لأبي عبد الله : ؟ قال : لا بأس نعم ] . يؤاجر الرجل نفسه [ من اليهودي والنصراني
[ حدثنا مهنا قال : قلت لأحمد : هل تكره للمسلم يؤاجر نفسه ] للمجوسي ؟ قال : لا .
[ ص: 564 ] قال : وسألت أحمد قلت : ، ويذهب في حوائجه ؟ قال : لا بأس ، قلت له : فيقول له : " لبيك " إذا دعاه ؟ قال : لا . يكري الرجل نفسه لمجوسي يخدمه
وقد قال في رواية الأثرم : إن آجر نفسه من الذمي في خدمته لم يجز وإن كان في عمل شيء جاز .
وقال في رواية أحمد بن سعيد : لا بأس أن يؤاجر نفسه من الذمي .
[ ص: 565 ] فهذه ثلاث روايات عنه : رواية مطلقة بالجواز ، ورواية مصرحة بالمنع في الخدمة خاصة ، ورواية مصرحة بالجواز في الخدمة .
قولان في إجارة نفسه له للخدمة . وللشافعي
وقد اختلف أصحاب أحمد في ذلك ، فمنهم من منع إجارة نفسه منه إجارة العين مطلقا للخدمة وغيرها ، وجوز إجارة نفسه منه على عمل في الذمة .
ومنهم من منع إجارة الخدمة خاصة ، وجوز إجارة العمل ، وهذه طريقة أكثر أصحابنا ، وفرقوا بينهما بأن إجارة الخدمة تتضمن حبس نفسه على خدمته مدة الإجارة ، وذلك فيه نوع إذلال للمسلم وإهانة له تحت يد الكافر فلم يجز ، كبيع العبد المسلم له .
قالوا : ويحققه أن عقد الإجارة للخدمة يتعين فيه حبسه مدة الإجارة واستخدامه ، والبيع لا يتحقق فيه ذلك ، فإذا منع منه فالمنع من الإجارة أولى .
قالوا : ولأنها بيع منافعه ، والمنافع تجري مجرى الأعيان فلا يجوز بيع رقبته ولا بعضها ولا منافعه من الذمي .
قالوا : وهذا بخلاف الإجارة على الذمة ، فإنها لم تتضمن ذلك ، وإنما هي التزام لعمل مضمون في الذمة .
[ ص: 566 ] وتلخيص مذهبه : أن ثلاثة أنواع : إجارة المسلم نفسه للذمي
أحدها : إجارة على عمل في الذمة ، فهذه جائزة .
الثانية : إجارة للخدمة ، فهذه فيها روايتان منصوصتان أصحهما المنع منها .
الثالثة : إجارة عينه منه لغير الخدمة ، فهذه جائزة علي رضي الله عنه نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة ، وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك التمر . وقد آجر
[ ص: 567 ] [ ص: 568 ] [ ص: 569 ] هذا كله إذا كان الإيجار لعمل لا يتضمن تعظيم دينهم وشعائره ، فإن كانت الإجارة على عمل يتضمن ذلك لم يجز ، كما نص عليه أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم وقد سأله رجل بناء : أبني ناووسا للمجوس ؟ فقال : لا تبن لهم .
وقال في " كتاب الجزية " من " الأم " : وأكره للمسلم أن يعمل بناء أو نجارة أو غير ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم . الشافعي
وقال أبو الحسن الآمدي : لا يجوز أن ونحوه ، رواية واحدة . يؤجر نفسه لعمل ناووس
فإن قيل : فقد قال الخلال : أخبرني أبو نصر إسماعيل بن عبد الله بن [ ص: 570 ] ميمون العجلي قال : قال أبو عبد الله فيمن حمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصارى : يكره أكل كرائه ، ولكنه يقضي للحمال بالكراء ، وإذا كان للمسلم فهو أشد كراهية .
قيل : اختلف الأصحاب في هذا النص على ثلاث طرق :
إحداها : إجراؤه على ظاهره ، وأن المسألة رواية واحدة .
قال ابن أبي موسى في " الإرشاد " : وكره أحمد أن ، فإن فعل قضي له بالكراء ، وإن أجر نفسه لحمل محرم لمسلم كانت الكراهية أشد ، ويأخذ الكراء ، وهل يطيب له على وجهين أوجههما أنه لا يطيب له ، وليتصدق به . يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني
وهكذا ذكر أبو الحسن الآمدي قال : إذا آجر نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة كره ؛ نص عليه أحمد ، وهذه كراهة تحريم ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن حاملها .
إذا ثبت هذا فيقضى له بالكراء ، وغير ممتنع أن يقضى له بالكراء وإن كان محرما كإجارة الحجام ، فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح .
الطريقة الثانية : تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها ، وجعل المسألة رواية واحدة : أن هذه الإجارة لا تصح وهي طريقة ضعيفة ، فإنه صنف [ ص: 571 ] " المجرد " قديما ، ورجع عن كثير منه في كتبه المتأخرة .
الطريقة الثالثة : تخرج هذه المسألة على روايتين :
إحداهما : أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة .
والثانية : لا تصح الإجارة ، ولا يستحق بها أجرة وإن حملها .
وقد قال : قلت إسحاق بن منصور لأبي عبد الله : سئل عن الأوزاعي ، فكره ذلك . الرجل يؤجر لنطارة كرم النصراني
فقال أحمد : ما أحسن ما قال ؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر فلا بأس . هذا لفظه ، فقد منع مرة إجارة نفسه لحفظ الكرم الذي يتخذ للخمر ، فأولى أن يمنع من إجارة نفسه على حمل الخمر .
وهذه طريقة القاضي في التعليق ، وطريقة أصحابه .
وهذا قياس مذهب أحمد ونصوصه في الخمر : أنه لا يجوز إمساكها ، ويجب إراقتها .
[ ص: 572 ] وقد قال في رواية أبي طالب : إذا أسلم وله خمر أو خنزير يصب الخمر ويسرح الخنزير قد حرما عليه ، وإن قتلها فلا بأس ، فقد نص على أنه لا يجوز إمساكها ، وفي حملها إمساك لها .
وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاملها ، فكيف تصح الإجارة على حملها ؟ وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد . [ ص: 573 ] هذا كله فيما إذا استأجر الخمر والميتة ، حيث لا يجوز إقرارها .
أما إن استأجره لحملها للإراقة أو الإلقاء في الصحراء ، فإنه تجوز الإجارة على ذلك ; لأنه عمل مباح لكن إن كانت الأجرة لجلد الميتة لم تصح ، واستحق أجرة المثل ، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه رده على صاحبه وهذا مذهب مالك . والشافعي
قال شيخنا : والأشبه طريقة ابن أبي موسى ، فإنها أقرب إلى مقصود أحمد ، وأقرب إلى القياس ، وذلك " " ، فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق العوض وليست محرمة في نفسها ، وإنما حرمت بقصد المعتصر والمستحمل ، فهو كما لو باع عنبا أو عصيرا لمن يتخذه خمرا ، وفات العصير والعنب في يد المشتري ، فإن مال البائع لا يذهب مجانا ، بل يقضي له بعوضه ، كذلك هاهنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانا ، بل يعطى بدلها ، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر ، لا من جهته . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه
ثم نحن نحرم الإجارة عليه لحق الله سبحانه ، لا لحق المستأجر والمشتري ، بخلاف من استؤجر للزنا أو التلوط أو السرقة ونحو ذلك ، فإن نفس هذا الفعل محرم في نفسه ، فهو كما لو باعه ميتة أو خمرا أو خنزيرا ، فإنه لا يقضى له بثمنها ; لأن نفس هذه العين محرمة .
ومثل هذه الإجارة والجعالة لا توصف بالصحة مطلقا ، ولا بالفساد [ ص: 574 ] مطلقا بل يقال : هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر ، بمعنى أنه تجب عليه الأجرة والجعل ، فاسدة بالنسبة إلى الآجر ، يعني أنه يحرم عليه الانتفاع بالمال ولهذا في الشريعة نظائر .
ونص أحمد على كراهة نطارة كرم النصراني لا ينافي هذا ، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن ثمنه ، ثم نقضي له بكرائه ، ولو لم يفعل هذا لكان فيه منفعة عظيمة ، وإعانة للعصاة ، فإن من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه ، ثم لا يعطونه شيئا ، وإذا أخذ منهم العوض ينزع منه ثم يرد إليهم هنيئا موفرا .
فإن قيل : فما تقولون فيمن سلم إليهم المنفعة المحرمة التي استأجروه عليها كالغناء والنوح والزنا واللواط ؟
قيل : إن كان لم يقبض منهم العوض لم يقض له به ، باتفاق الأمة ، وإن كان قد قبض له لم يطب له أكله ولم يملكه بذلك ، والجمهور يقولون : يرده عليهم لأنه قبضه قبضا فاسدا ، وهذا فيه روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد :
إحداهما : أنه يرده عليهم .
والثانية : لا يأكله ولا يرده ، بل يتصدق به .
قال شيخنا : وأصح الروايتين أنه لا يرده عليه ، ولا يباح للأخذ ، ويصرف في مصالح المسلمين كما نص عليه أحمد في أجرة حمال الخمر .
ومن ظن أنها ترد على الباذل المستأجر ; لأنها مقبوضة بعقد فاسد ، فيجب ردها عليه كالمقبوض بعقد الربا ونحوه من العقود الفاسدة ، قيل له : [ ص: 575 ] المقبوض بالعقد الفاسد يجب فيه التراد من الجانبين ، فيرد كل منهما على الآخر ما قبضه منه كما في عقود الربا ، وهذا عند من يقول : المقبوض بالعقد الفاسد لا يملك ، فأما إذا تلف المعوض عند القابض وتعذر رده فلا يقضى له بالعوض الذي بذله ، ويجمع له بين العوض والمعوض ، فإن الزاني واللائط ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم ، واستوفوا عوضه المحرم ، وليس التحريم الذي فيه لحقهم ، وإنما هو لحق الله ، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض ، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين يرد الآخر ، فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال الذي بذله في استيفائها .
وأيضا فإن هذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته وعوضها جميعا ، بخلاف ما لو كان العوض خنزيرا أو ميتة فإن ذلك لا ضرر عليه في فواته ، فإنه لو كان باقيا أتلفناه عليه ، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه ، بحيث يتمكن من صرفها في أمر آخر ، أعني القوة التي عمل بها .
فإن قيل : فيلزمكم على هذا أن تقضوا له بها إذا طالب بقبضها ، قيل : نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها ، كعقود الكفار المحرمة ، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم نحكم بالرد ، لكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة ; لأنه كان معتقدا لتحريمها بخلاف الكافر ، فإذا طلب الأجرة قلنا له : أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل محرم ، فلا يقضى له بالأجرة ، فإذا قبضها ثم قال الدافع : هذا المال اقضوا لي برده ، فإنه قبض مني باطلا ، قلنا له : أنت دفعته بمعاوضة رضيت بها ، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ منك فاردد إليه ما أخذته منه ، فإن في بقائه معه منفعة له . [ ص: 576 ] فإن قال : قد تعذر رد المنفعة التي استوفيتها منه ، قيل له : فلا يجمع لك بين ما استمتعت به من منفعته وبين العوض الذي بذلته فيها .
فإن قال : أنا بذلت ما لا يجوز بذله ، وهو أخذ ما لا يجوز أخذه ، قيل : وهو بذل لك من منفعته ما لا يجوز له بذله ، واستوفيت أنت ما لا يجوز استيفاؤه ، فكلاكما سواء فما الموجب لرجوعك عليه ، ولا يفوت عليك شيء ، وتفوت المنفعة عليه ، وكلاكما راض بما بذل مستوف لعوضه ؟
فإن قال : ما بذلته أنا عين يمكن الرجوع فيها فيجب ، وما بذله منفعة لا يمكن الرجوع فيها ، إذا أمكن الرجوع في معوضها الذي بذلت في مقابلته ، أو إذا لم يمكن : الأول مسلم ، والثاني هو محل النزاع ، فكيف يجعل مقدمته من مقدمات الدليل ؟ وقياسه على المقبوض عوضا عن الخمر والميتة لا يصح كما عرف الفرق بينهما .
على أنا لا نسلم أن مشتري الخمر إذا قبض ثمنها وشربها ثم طلب أن يعاد إليه المال أن يقضي له به ، بل الأوجه ألا يرد إليه الثمن ، ولا يباح للبائع أيضا لاسيما ونحن نعاقب الخمار يبيع الخمر بأن يحرق الحانوت التي يباع فيها : نص عليه أحمد وغيره من العلماء ، فإن رضي الله عنه حرق حانوتا يباع فيها الخمر ، عمر بن الخطاب حرق قرية يباع فيها الخمر . وعلي بن أبي طالب
وهذا على أصل من يرى جواز العقوبات المالية أطرد ، فإنه إذا جاز عقوبته بمال ينزع منه يفسده عليه ويحول بينه وبينه ، فأن لا يقضى له بمال أخرجه في المعصية ويمنع من استرجاعه أولى وأحرى ، وبالله التوفيق .