[ ص: 1071 ] ذكر  أحكام أطفالهم في الآخرة   واختلاف الناس في ذلك ، وحجة كل طائفة على ما ذهبت إليه ، وبيان الراجح من أقوالهم .  
فذهبت طائفة من أهل العلم إلى التوقف في جميع الأطفال ، سواء كان آباؤهم مسلمين ، أو كفارا ، وجعلوهم بجملتهم في المشيئة .  
وخالفهم في ذلك آخرون ، فحكموا لهم بالجنة ، وحكوا الإجماع على ذلك .  
قال الإمام  أحمد     : لا يختلف فيهم أحد أنهم من الجنة .  
واحتج أرباب التوقف بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث   عبد الله بن مسعود  ،   وأنس بن مالك  ، وغيرهما : "  إن الله وكل بالرحم ملكا ، فإذا أراد الله أن يقضي خلقه قال الملك : يا رب ، أذكر أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيكتب كذلك ، وهو في بطن أمه     " .  
وكذلك قوله في حديث   ابن مسعود     : "  ثم يرسل إليه الملك ، فيؤمر بأربع كلمات : يكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد     " متفق على صحته .  
 [ ص: 1072 ] ووجه الدلالة من ذلك أن جميع من يولد من بني آدم - إذا كتب السعداء منهم ، والأشقياء قبل أن يخلقوا - وجب علينا التوقف في جميعهم ، لأنا لا نعلم هذا الذي توفي منهم هل هو ممن كتب سعيدا في بطن أمه ، أو كتب شقيا .  
واحتجت هذه الطائفة بما رواه  مسلم  في " صحيحه " عن  عائشة  أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت :  دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله طوبى لهذا ! عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل السوء ولم يدركه ! قال : أو غير ذلك يا  عائشة  ؟ إن الله خلق للجنة أهلا : خلقهم لها ، وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا : خلقهم لها ، وهم في أصلاب آبائهم     " .  
وفي لفظ آخر : "  وما يدريك يا عائشة  ؟ " .  
قالوا : فهذا الحديث صحيح صريح في التوقف فيهم ، فإن الصبي كان من أولاد المسلمين ، ودعي النبي ] صلى الله عليه وسلم  
[ ليصلي عليه كما جاء ذلك منصوصا عليه .  
قال الآخرون : لا حجة لكم في شيء مما ذكرتم .  
أما حديث   ابن مسعود  ،  وأنس  فإنما يدل على أن  الله سبحانه كتب سعادة الأطفال ، وشقاوتهم ، وهم في بطون أمهاتهم   ، ولا ننفي أن تكون الشقاوة والسعادة بأشياء علمها سبحانه منهم - وإنهم عاملوها لا محالة -      [ ص: 1073 ] تفضي بهم إلى ما كتبه ، وقدره ، إذ من الجائز أن يكتب سبحانه شقاوة من يشقيه منهم بأنه يدرك ، ويعقل ويكفر باختياره ، فمن يقول : " أطفال المؤمنين في الجنة " يقول : " إنهم لم يكتبوا في بطون أمهاتهم أشقياء " ، إذ لو كتبوا أشقياء لعاشوا حتى يدركوا زمن التكليف ، ويفعلوا الأسباب التي قدرت وصلة إلى الشقاوة التي تفضي بصاحبها إلى النار ، فإن النار لا تدخل إلا جزاء على الكفر ، والتكذيب الذي لا يمكن إلا من العاقل المدرك .  
والدليل على ذلك قوله تعالى : (  فأنذرتكم نارا تلظى   لا يصلاها إلا الأشقى   الذي كذب وتولى      ) ، وقوله : (  وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا      ) ، وقوله : (  كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير   قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء      ) ، وقوله لإبليس : (  لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين      ) ، إلى غير ذلك من النصوص التي هي صريحة في أن النار جزاء الكافرين المكذبين .  
وأما حديث  عائشة     - رضي الله عنها - وإن كان  مسلم  رواه في " صحيحه " - فقد ضعفه   الإمام أحمد  وغيره .  
 [ ص: 1074 ] وذكر   ابن عبد البر  علته بأن : "  طلحة بن يحيى  انفرد به عن عمته   عائشة بنت طلحة  ، عن  عائشة  أم المؤمنين ،  وطلحة  ضعيف .  
 [ ص: 1075 ] وقد قيل : إن  فضيل بن عمرو  رواه عن   عائشة بنت طلحة  كما رواه  طلحة بن يحيى  سواء " هذا كلامه .  
قال  الخلال     : أخبرني  منصور بن الوليد  أن   جعفر بن محمد  حدثهم قال :  سمعت  أبا عبد الله  يسأل عن أطفال المسلمين ؟ فقال : ليس فيه اختلاف أنهم في الجنة     . أخبرنا  أحمد بن محمد بن حازم  أن   إسحاق بن منصور  حدثهم قال :  قال   إسحاق بن راهويه     : أما أولاد المسلمين فإنهم من أهل الجنة     .  
أخبرني   عبد الملك الميموني     : أنهم ذاكروا  أبا عبد الله  في أطفال المؤمنين ، وذكروا له حديث  عائشة     - رضي الله عنها - في قصة الأنصاري ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، وإني سمعت  أبا عبد الله  يقول غير مرة : " وهذا حديث ضعيف " وذكر  
[ فيه ] رجلا ضعفه ، وهو  طلحة  ، وسمعته يقول غير مرة : " وأحد يشك أنهم في الجنة " .  
ثم أملى علينا الأحاديث فيه ، وسمعته غير مرة يقول : " هو يرجى لأبويه ، كيف يشك فيه ؟ " .  
وقال  أبو عبد الله     : واختلفوا في أطفال المشركين ،   فابن عباس  يقول : كنت أقول : "  
[ هم ] مع آبائهم " حتى لقيت رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثني عن رجل آخر من أصحاب النبي - صلى الله عليه      [ ص: 1076 ] وسلم - أنه سئل عنهم ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين     " .  
وقال  الحسن بن محمد بن الحارث     : سمعت  أبا عبد الله  يسأل عن  السقط إذا لم تنفخ فيه الروح   ، فقال : في الحديث " يجيء السقط محبنطئا     " .  
قال  الخلال     : سألت  ثعلبا  عن " السقط محبنطئا " فقال : غضبان ، ويقال : قد ألقى نفسه .  
وقد أجبت عنه بعد التزام صحته بأن هذا القول كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يعلمه الله بأن  أطفال المؤمنين في الجنة   ، وهذا جواب      [ ص: 1077 ]  ابن حزم  وغيره .  
وأجاب طائفة أخرى عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رد على  عائشة     - رضي الله عنها - لكونها حكمت على غيب لم تعلمه ، كما فعل  بأم العلاء  إذ قالت حين مات   عثمان بن مظعون     : شهادتي عليك أن الله أكرمك ، فأنكر عليها وقال لها : " وما يدريك أن الله أكرمه ؟ " ثم قال : " أما هو فقد جاءه اليقين ، وأنا أرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به     " ، وأنكر عليها جزمها وشهادتها على غيب لا تعلمه ، وأخبر عن نفسه - صلى الله عليه وسلم - أنه يرجو له الخير .  
ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : "  إن كان أحدكم مادحا أخاه فليقل : أحسب فلانا إن كان يرى أنه كذلك ، ولا أزكي على الله أحدا     " .  
وقد يقال : إن من ذلك قوله في  حديث   لسعد بن أبي وقاص     - رضي الله عنه - حين قال له : أعطيت فلانا ، وتركت فلانا ، وهو مؤمن - فقال : " أو مسلم     " ، فأنكر عليه الشهادة له بالإيمان لأنه غيب ، دون الإسلام ، فإنه ظاهر .  
وإذا كان الأمر هكذا فيحمل قوله  لعائشة     - رضي الله عنها - : "  وما      [ ص: 1078 ] يدريك يا  عائشة     " على هذا المعنى ، كأنه يقول لها : إذا خلق الله للجنة أهلا ، وخلق للنار أهلا ، فما يدريك أن ذلك الصبي من هؤلاء ، أو من هؤلاء ؟  
وقد يقال : إن  أطفال المؤمنين إنما حكم لهم بالجنة تبعا لآبائهم لا بطريق الاستقلال   ، فإذا لم يقطع للمتبوع بالجنة كيف يقطع لتبعه بها ؟  
يوضحه أن الطفل غير مستقل بنفسه بل تابع لأبويه ، فإذا لم يقطع لأبويه بالجنة لم يجز أن يقطع له بالجنة ، وهذا في حق المعين ، فإنا نقطع للمؤمنين بالجنة عموما ، ولا نقطع للواحد منهم بكونه في الجنة ، فلهذا - والله أعلم - أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على  أم العلاء  حكمها على   عثمان بن مظعون  بذلك .  
واحتجوا أيضا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "  كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ، حتى تكونوا أنتم تجدعونها ؟ " قالوا : يا رسول الله ، أرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين     " ، فلم يخصوا بالسؤال طفلا من طفل ، ولم يخص عليه السلام بالجواب بل أطلق الجواب كما أطلقوا السؤال ، ولو افترق الحال في الأطفال لفصل وفرق بينهم في الجواب .  
وهؤلاء لو تأملوا ألفاظه ، وطرقه لأمسكوا عن هذا الاحتجاج ، فإن هذا الحديث روي من طرق متعددة :  
فمنها حديث  أبي بشر  ، عن   سعيد بن جبير  ، عن   ابن عباس     - رضي الله      [ ص: 1079 ] عنهما - :  سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين - أو أطفال المشركين - فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم     " ، رواه عن  أبي بشر  جماعة منهم :  شعبة  ،  وأبو عوانة     .  
ومنها حديث   الزهري  ، عن  عطاء بن يزيد الليثي  ، عن   أبي هريرة     - رضي الله عنه - :  سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن  أولاد المشركين   ، فقال : " الله أعلم إذ خلقهم ما كانوا عاملين     " .  
ومنها حديث   الوليد بن مسلم  ، عن  
  [ عتبة ] بن ضمرة  أنه سمع  عبد الله بن قيس مولى 
[ غطيف ] بن عفيف  قال :  سألت عائشة - رضي الله عنها - عن أولاد المشركين ، فقالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين     " .  
 [ ص: 1080 ]  [ ص: 1081 ] وهذه كلها صحاح تبين أن السؤال إنما وقع عن أولاد المشركين ، وقد جاء مطلقا في الحديث الآخر : "  أرأيت من يموت وهو صغير     " ، على أنه لو كان السؤال عن حكم الأطفال مطلقا لكان هذا الجواب غير ذلك على استواء أطفال المسلمين ، والمشركين ، بل أجاب عنهم جملة من جملة بقوله : "  الله أعلم بما كانوا عاملين     " ، فإذا كان سبحانه يعلم أن أطفال المسلمين لو عاشوا عملوا بطاعته ، وأطفال المشركين - أو بعضهم - لو عاشوا لكانوا كفارا ، كان الجواب مطابقا لهذا المعنى .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					