196 - فصل  
المذهب الثاني :  أنهم في النار      .  
وهذا قول جماعة من المتكلمين ، وأهل التفسير ، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد ، وحكاه القاضي نصا عن أحمد ، وغلطه شيخنا كما سيأتي بيان ذلك .  
واحتج هؤلاء بحجج : منها حديث  أبي عقيل يحيى بن المتوكل  ، عن  بهية  ، عن  عائشة     - رضي الله عنها - قالت :  سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المسلمين : أين هم ؟ قال : " في الجنة " وسألته عن أولاد المشركين : أين هم يوم القيامة ؟ قال : " في النار " فقلت : لم يدركوا      [ ص: 1093 ] الأعمال ، ولم تجر عليهم الأقلام ، قال : " ربك أعلم بما كانوا عاملين ، والذي نفسي بيده لئن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار     " .  
ولكن هذا الحديث قد ضعفه جماعة من الحفاظ .  
 [ ص: 1094 ] قال  أبو عمر     :  أبو عقيل  هذا لا يحتج بمثله عند أهل النقل . وهذا الحديث لو صح لاحتمل من الخصوص ما احتمل غيره .  
قال : ومما يدل على أنه خصوص لقوم من المشركين قوله : "  لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار     " ، وهذا لا يكون إلا فيمن قد مات ، وصار في النار .  
قال : وقد عارض هذا الحديث ما هو أقوى منه من الآثار .  
قلت : مراد  أبي عمر     : أن هذا خاص ببعض أطفال المشركين الذين ماتوا ، ودخلوا النار ، ولا يلزم منه أن يكون هذا حكما عاما لجميع الأطفال .  
وهذا صحيح يتعين المصير إليه جمعا بينه وبين حديث  سمرة  الذي رواه   البخاري  في " صحيحه " ، وهو صريح بأنهم في الجنة كما سيأتي .  
 [ ص: 1095 ] واحتجوا بحديث   عمر بن ذر  ، عن  يزيد بن أمية  أن   البراء بن عازب     - رضي الله عنه - أرسل إلى  عائشة     - رضي الله عنها - يسألها عن الأطفال ، فقالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت : يا رسول الله ، ذراري المؤمنين ؟ قال : " من آبائهم " ، قلت : بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " قلت : يا رسول الله ، فذراري المشركين ؟ قال : " هم من آبائهم " ، قلت : يا رسول الله ، بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين     " هكذا قال  مسلم بن قتيبة     .  
 [ ص: 1096 ] وقد رواه غيره ، عن   عمر بن ذر  ، عن  يزيد  ، عن رجل ، عن  البراء     .  
ورواه  أحمد  من حديث  عتبة بن ضمرة بن حبيب  ، حدثني  عبد الله بن قيس مولى 
[ غطيف بن ] عفيف  أنه سأل  عائشة     - رضي الله عنها - ،  وعبد الله  هذا ينظر في حاله ، وليس بالمشهور .  
وبالجملة ، فلا حجة في الحديث على أنهم في النار ؛ لأنه إنما أخبر بأنهم " من آبائهم " في أحكام الدنيا ، كما تقدم .  
 [ ص: 1097 ] واحتجوا بما رواه  عبد الله بن أحمد  في " مسند " أبيه : حدثنا   عثمان بن أبي شيبة  ، عن   محمد بن فضيل بن غزوان  ، عن  محمد بن عثمان ،  عن  زاذان  ، عن  علي  قال :  سألت   خديجة     - رضي الله عنها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ولدين لها ماتا في الجاهلية ، فقال : " هما في النار " ، فلما رأى الكراهية في وجهها قال : " لو رأيت مكانهما لأبغضتهما " ، قالت : يا رسول الله ، فولدي منك ! قال : " إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار " ثم قرأ : (  والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم      )     .  
 [ ص: 1098 ] وهذا الحديث معلول من وجهين :  
أحدهما : أن  محمد بن عثمان  هذا مجهول .  
والثانية : أن  زاذان  لم يدرك  عليا     .  
وقال  الخلال     : أخبرنا  
[  حفص بن عمرو الربالي     ] ، ثنا  أبو زياد سهل بن زياد  ، ثنا  الأزرق بن قيس  ، عن   عبد الله بن الحارث بن نوفل  ،  عن   خديجة بنت خويلد     - رضي الله عنها - أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : يا رسول الله ، أين أطفالي من أزواجي من المشركين ؟ قال : " في النار " ، وقالت : بغير عمل ؟ قال : " قد علم الله ما كانوا عاملين     " .  
 [ ص: 1099 ]  [ ص: 1100 ] قال شيخنا : وهذا حديث موضوع ، لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الذي غر   القاضي أبا يعلى  حتى حكى عن  أحمد     " أنهم في النار " ؛ لأن  أحمد  نص في رواية  بكر بن محمد  ، عن أبيه : أنه سأله عن أولاد المشركين ، فقال : أذهب إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "  الله أعلم بما كانوا عاملين     " ، فتوهم القاضي أن  أحمد  أراد هذا الحديث ،  وأحمد  أعلم بالسنة من أن يحتج بمثل هذا الحديث ، وإنما أراد  أحمد  حديث  عائشة  ،   وابن عباس  ،   وأبي هريرة     - رضي الله عنهم - .  
واحتجوا أيضا بحديث   داود بن أبي هند  ، عن   الشعبي  ، عن   علقمة بن قيس  ،  عن  سلمة بن يزيد الجعفي  قال : أتيت أنا وأخي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : إن أمنا ماتت في الجاهلية ، وكانت تقري الضيف ، وتصل الرحم ، فهل ينفعها من عملها ذلك شيء ؟ قال : " لا " قلنا له : فإن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث ، فقال : الموءودة ، والوائدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم     " رواه جماعة كثيرة عن داود .  
 [ ص: 1101 ] وقال   محمد بن نصر     : ثنا  أبو كريب  ، حدثنا  معاوية 
[ بن ] هشام  ، عن  شيبان  ، عن  جابر  ،  
[ عن ]  عامر  ، عن   علقمة بن قيس  ، عن  سلمة بن يزيد الجعفي  قال :  قلنا يا رسول الله ، إن أمنا كانت تصل الرحم ، وتقري الضيف ، وتطعم الطعام ، وإنها كانت وأدت في الجاهلية فماتت قبل الإسلام ، فهل ينفعها عمل إن عملنا عنها ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه      [ ص: 1102 ] وسلم - : " لا ينفع الإسلام إلا من أدرك ، أمكم وما وأدت في النار     " .  
وروى  أبو إسحاق عن عامر  ، عن  علقمة  ، عن  عبد الله  ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "  الوائدة والموءودة في النار     " وهذا لا يدل على أنهم      [ ص: 1103 ] كلهم في النار ، بل يدل على أن بعض هذا الجنس في النار ، وهذا حق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .  
وقد رد بعضهم على الحديث بأنه مخالف لنص القرآن قال تعالى : (  وإذا الموءودة سئلت   بأي ذنب قتلت      ) ، سواء كان المعنى أنها      [ ص: 1104 ] تسأل سؤال توبيخ لمن وأدها ، أو تطلب ممن وأدها كما تطلب الأمانة ممن اؤتمن عليها .  
وعلى التقديرين ، فقد أخبر سبحانه أنه لا ذنب لها تقتل به في الدنيا ، قتلة واحدة ، فكيف تقتل في النار قتلات دائمة ، ولا ذنب لها ؟ فالله أعدل ، وأرحم من ذلك ؛ لأنه إذا كان قد أنكر على من قتلها بلا ذنب ، فكيف يعذبها تبارك وتعالى بلا ذنب ؟ وهذا المعنى حق لا يعارض نص القرآن ، فإنه لم يخبر أن الموءودة في النار بلا ذنب ، فهذا لا يفعله الله قطعا ، وإنما يدخلها النار بحجته التي يقيمها يوم القيامة إذا ركب في الأطفال العقل ، وامتحنهم ، وأخرجت المحنة منهم ما يستحقون به النار .  
واحتجوا بما روى   البخاري  في " صحيحه " في احتجاج الجنة ، والنار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "  وأما النار فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها     " ، قالوا : فهؤلاء ينشئون للنار بغير عمل ، فلأن يدخلها من ولد في الدنيا بين كافرين أولى .  
قال شيخنا : وهذه حجة باطلة ، فإن هذه اللفظة وقعت غلطا من بعض الرواة ، وبينها   البخاري     - رحمه الله تعالى - في الحديث الآخر الذي هو      [ ص: 1105 ] الصواب ، فقال في " صحيحه " ثنا  عبد الله بن محمد  ، ثنا  عبد الرزاق  ، ثنا  معمر  ، عن  همام  ، عن   أبي هريرة     - رضي الله عنهم - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :  تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين ، والمتجبرين ، وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس ، وسقطهم ؟ ! قال الله - عز وجل - للجنة : " أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي " ، وقال للنار : " أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها " .  
فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول : قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحدا .  
وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا     " هذا هو الذي قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا ريب ، وهو الذي ذكره في " التفسير " .  
وقال في باب ما جاء في قول الله عز وجل : (  إن رحمة الله قريب من المحسنين      ) .  
 [ ص: 1106 ] ثنا  
[  عبيد الله ] بن سعيد  ، ثنا  يعقوب  ، ثنا أبي ، عن   صالح بن كيسان  ، عن   الأعرج  ، عن   أبي هريرة     - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "  اختصمت الجنة والنار إلى ربهما ، فقالت الجنة : يا رب ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم ؟ وقالت النار : ما لها لا يدخلها إلا المتجبرون ؟ فقال للجنة : " أنت رحمتي " ، وقال للنار : " أنت عذابي أصيب بك من أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها     " .  
قال : فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا ، وإنه ينشئ للنار من يشاء ، فيلقون فيها ، فتقول : هل من مزيد ؟ ! ويلقون فيها ، وتقول : هل من مزيد ؟ ! ثلاثا ، حتى يضع قدمه فيها فتمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض ، وتقول : قط قط . "  
فهذا غير محفوظ ، وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعا كما انقلب على بعضهم : "  إن  بلالا  يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن   ابن أم مكتوم     " فجعلوه : " إن   ابن أم مكتوم  يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن  بلال     " ، وله نظائر من الأحاديث المقلوبة من المتن .  
 [ ص: 1107 ]  [ ص: 1108 ] وحديث   الأعرج  ، عن   أبي هريرة  هذا لم يحفظ كما ينبغي ، وسياقه يدل على أن راويه لم يقم متنه ، بخلاف حديث  همام  ، عن   أبي هريرة     .  
واحتجوا بما في " الصحيح " من حديث  الصعب بن جثامة  أنه  سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ، ونسائهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هم منهم " ، وفي لفظ : " هم من آبائهم     " ، فقال   الزهري     : ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عن قتل النساء والولدان .  
ولا حجة لهم في هذا فإنه إنما سئل عن أحكام الدنيا ، وبذلك أجاب ، والمعنى : أنهم إن أصيبوا في التبييت ، والغارة فلا قود ولا دية على من      [ ص: 1109 ] أصابهم لكونهم أولاد من لا قود ولا دية لهم ، وعلى ذلك مخرج الحديث سؤالا وجوابا .  
واحتجوا أيضا بقول الله تعالى : (  والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم      ) ، وهذا يدل على أن  ذرية الكافرين تلحق بهم ولا يلحقون بالمؤمنين وذرياتهم   ، فإن الله تعالى شرط في الإلحاق إيمان الآباء ، وهذا لا حجة فيه لأن الله تعالى إنما أخبر عن إلحاق ذرية المؤمنين بآبائهم ، ولم يخبر عن ذرية الكفار بشيء ، بل الآية حجة على نقيض ما ادعوه من وجهين :  
أحدهما : إخباره أنه لم ينقص الآباء بهذا الإلحاق من أعمالهم شيئا ، فكيف يعذب هذه الذرية بلا ذنب ؟  
الثاني : أنه سبحانه نبه على أن هذا الإلحاق مختص بأهل الإيمان ، وأما الكفار فلا يؤاخذون إلا بكسبهم ، فقال تعالى : (  كل امرئ بما كسب رهين      ) .  
واحتجوا أيضا بقوله تعالى إخبارا عن  نوح   أنه قال : (  ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا      ) ، والفاجر والكفار من أهل النار ، وهذا لا حجة فيه ؛ لأنه إنما أراد به كفار أهل زمانه قطعا ، وإلا فمن بعدهم من الكفار قد ولد بعضهم الأنبياء ، كما ولد آزر  إبراهيم الخليل      .  
وأيضا فقوله : " فاجرا كفارا " حال مقدرة ، أي من إذا عاش كان      [ ص: 1110 ] فاجرا كفارا ، ولم يرد به أن أطفالهم حال سقوطهم يكونون فجرة كفرة ، كما تقدم بيانه .  
				
						
						
