المجلس الثاني والثلاثون 
في فضل  عائشة  وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم  
الحمد لله الواحد القديم ، الماجد العظيم ، المنان الكريم ، الرحمن الرحيم ، أنعم بالعطايا فإنعامه عميم ، وستر الخطايا فهو الغفور الرحيم ، ابتلى بما شاء وهو بما يكون عليم ، فالواجب في بلائه الرضا والتسليم ، سافرت  عائشة  مع الرسول وكان يخصها بالتقديم فانتزحت لشغلها وانشغل بها عظيم ، فحملوا هودجها ظنا أن في الكناس الريم ، فصادفها صفوان فصدر الرجل سليم ، فبلغها قول من بات يأفك ويهتك الحريم ، فما زال السليم يبكي بكاء السليم ، حتى بدا هلال الهدى في ليل البلاء البهيم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم   . 
أحمده كلما عمت الغافلين غفلاتهم ، وأصلي على رسوله محمد  الذي هلكت به عزاهم ولاتهم ، وعلى صاحبه  أبي بكر  الذي سلمت إليه قبل الموت صلاتهم ، وعلى  عمر  الذي تقومت بعدله حالاتهم ، وعلى  عثمان  مقبول المال إذ مالت بالبخلاء آفاتهم ، وعلى  علي  الزاهد في الدنيا إذ منعت أربابها شهواتهم ، وعلى أزواج النبي الطاهرات اللاتي نزهت جهاتهم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم  وعلى عمه  العباس  آخذ البيعة له على الأنصار إذ حمدت مسعاتهم . 
قال الله تعالى : إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم  أجمع المفسرون على أن هذه الآية وما يتعلق بها بعدها نزلت في قصة  عائشة .  والإفك : الكذب . والعصبة : الجماعة .  
وفي المخاطب بقوله لا تحسبوه شرا لكم  قولان : أحدهما :  عائشة   وصفوان بن المعطل .  والثاني : رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأبو بكر   وعائشة .  والمعنى : أنكم تؤجرون فيه ، والأجر يغطي المكروه . 
وفي هذا تسلية للإنسان لما يصيبه من المكاره ، وليعلم أنه ما سلم أحد من شر الناس . 
 [ ص: 370 ] لكل امرئ منهم  يعني من المعصية الكاذبة ما اكتسب من الإثم  أي جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه . 
واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقدم  عائشة  على جميع أزواجه . 
وفي الصحيحين من حديث  عائشة  قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيتك في المنام ورجل يحملك في سرقة من حرير فيقول : هذه امرأتك . فأقول : إن يك من عند الله عز وجل يمضه " . 
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج  خديجة  أول من تزوج فولدت له القاسم  وعبد الله وهو الطيب والطاهر  ولد في الإسلام فلقب باللقبين . ومن الإناث :  زينب   ورقية   وأم كلثوم   وفاطمة  ، ولم يتزوج على  خديجة  حتى ماتت فتزوج  سودة بنت زمعة  ثم  عائشة .  ولما كبرت  سودة  أراد طلاقها فسألته أن يدعها في أزواجه وجعلت ليلتها  لعائشة .  وتزوج  عائشة  وهي بنت ست سنين وتزوج  حفصة  فطلقها تطليقة فقال له جبريل :  إن الله يأمرك أن تراجع  حفصة  فإنها صوامة قوامة . فراجعها وتزوج  أم سلمة   وأم حبيبة   وزينب بنت جحش   وزينب بنت خزيمة   وجويرية بنت الحارث .  وكان قد أصابها في غزاة بني المصطلق .  فوقعت في سهم  ثابت بن قيس  فكاتبها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها فلما سمع الناس بذلك : أرسلوا ما في أيديهم من سبايا بني المصطلق  فأعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت . وتزوج  صفية بنت حيي   وميمونة بنت الحارث  وبنى بها بسرف وقدر الله موتها في ذلك الموضع . 
ولما تعبت  خديجة  في تربية الأولاد أتاه جبريل  فقال له :  " اقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب   " . 
ولما خطب  زينب بنت جحش  قالت : ما أنا صانعة شيئا حتى أؤامر ربي . فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن في نكاحها . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها . وكانت صوامة قوامة تعمل بيدها وتتصدق .  ولما تزوج  أم حبيبة  قدم  أبو سفيان  المدينة  في الحديبية فطوت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : إنك نجس .  
وكان آثر الكل عنده  عائشة  لأنها جمعت الجمال والكمال في الذكاء والفطنة والعلم والفصاحة ، فبنى بها وهي بنت تسع سنين . 
وفي أفراد  البخاري  من حديث  عائشة  أنها قالت : " يا رسول الله أرأيت لو نزلت واديا  [ ص: 371 ] فيه شجرة قد أكل منها ووجدت شجرا لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك ؟ قال : في التي لم يرتع منها " . تعني أنه لم يتزوج بكرا غيرها . 
أخبرنا يحيى بن علي  ، أنبأنا ابن المسلمة  ، أخبرنا المخلص  ، أخبرنا  البغوي  ، أخبرنا  وهب بن بقية  ، حدثنا خالد بن عبد الله الطحان  ، عن  خالد الحذاء  ، عن  أبي عثمان النهدي  ، عن  عمرو بن العاص  أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من أحب الناس إليك يا رسول الله ؟ قال  عائشة .  قال : فمن الرجال ؟ قال : أبوها .  قال : ثم من ؟ قال :  عمر   " . 
أخرجاه في الصحيحين . 
أخبرنا  أبو منصور القزاز  ، أنبأنا عبد العزيز بن علي الجريجي  ، حدثنا المخلص  ، حدثنا  البغوي  ، حدثنا  أبو بكر بن خلاد  ، حدثنا  يحيى بن سعيد  ، حدثنا  شعبة  ، عن عمر بن مرة  ، عن  أبي موسى  ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضل  عائشة  على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " . أخرجاه في الصحيحين . 
وفيهما من حديث  عائشة  أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم  عائشة  يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . 
وفيهما من حديثها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كنت لك كأبي زرع لأم زرع " . 
وفيهما من حديثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه أين أنا غدا ؛ أين أنا غدا ؟ يريد يوم  عائشة .  فأذن له أزواجه يكون حيث شاء ، فكان في بيت  عائشة  حتى مات عندها . 
وفي أفراد  البخاري  من حديث  عائشة  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال  لأم سلمة :   " لا تؤذيني في  عائشة  فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها " . 
وقال  أبو موسى  ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عنه  عائشة  إلا وجدنا عندها منه علما . 
 [ ص: 372 ] وقال  عروة :  ما رأيت أحدا من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة ، ولا بحلال ولا بحرام ، ولا بشعر ، ولا بحديث العرب ولا بنسب من  عائشة .  
وكانت غزيرة الكرم . قسمت يوما سبعين ألفا وهي ترقع درعها . 
وكانت كثيرة التعبد وكانت لها فصاحة . 
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ  ، أخبرنا  ثابت بن بندار  ، أخبرنا محمد بن أحمد بن غالب البرقاني  ، قال : قرأت على أحمد بن حباب الخوارزمي  ، حدثنا أبو يعقوب البغدادي  ، حدثنا الحسين بن علي العجلي  ، حدثنا  أبو أسامة  ، عن  هشام بن عروة  ، لا أدري ذكره عن أبيه أم لا - الشك من أبي يعقوب   - قال : بلغ  عائشة  أن أقواما يتناولون  أبا بكر  فأرسلت إلى أزفلة " جماعة " منهم فلما حضروا أسدلت أستارها ثم دنت فحمدت الله تعالى وصلت على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم  وعذلت وقرعت ثم قالت : أبي وما أبيه ! أبي والله لا يعطوه الأبد ، ذاك طود منيف وفرع مديد ، هيهات كذبت الظنون أنجح إذ أكديتم وسبق إذ ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد - الغاية - فتى قريش  ناشئا وكهفها كهلا ، يفك عانيها ، ويريش مملقها فقيرها ويرأب شعبها حتى حلبته قلوبها ، استشرى في الله تعالى فما برحت شكيمته وحميته في ذات الله تعالى حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيي فيه ما أمات المبطلون . 
وكان رحمه الله غزير الدمعة وقيذ الجوارح شجي النشيج ، فانقضت إليه نسوان مكة  وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون  فأكبرت ذلك رجالات قريش  فحجنت له قسيها وفوقت له سهامها وانتثلوه غرضا ، فما فلوا له صفاة ولا قصفوا له قناة ، ومر على سيسائه . 
حتى إذا ضرب الدين بجرانه وألقى بركه ورست أوتاده ودخل الناس فيه أفواجا ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتا اختار الله لنبيه ما عنده ، فلما قبض الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم نصب الشيطان رواقه ومد طنبه ونصب حبائله ، وظن رجال أن قد تحققت أطماعهم ولات حين الذي يرجون فأنى والصديق بين أظهرهم ! فقام حاسرا مشمرا ، فجمع حاشيته ورفع قطريه فرد نشز الإسلام على غرب ، ولم شعثه بطبه ، وأقام أوده بثقافه ، فابذقر النفاق بوطأته ، وانتاش الدين فنعشه ، فلما أزاح الحق إلى أهله وقرر الرؤوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها أتته منيته ، فسد ثلمته بنظيره في الرحمة وشقيقه في السيرة والمعدلة ، ذاك ابن الخطاب ، لله در أم حملت به ودرت عليه ، فقد أوحدت به ، ففنخ الكفرة وديخها ، وشرد  [ ص: 373 ] الشرك شذر مذر ، ونفج الأرض ونخعها ، فقامت أكلها ولقطت حبها ، ترأمه ويصدف عنها ، وتصدى له ويأباها ، ثم زرع فيها وودعها كما صحبها ، فأروني ما تريبون ، أي يوم تنقمون : أيوم إقامته إذ عدل فيكم ؟ أم يوم ظعنه فقد نظر لكم ؟ أستغفر الله لي ولكم . 
وفي هذا الحديث من الغريب : الأزفلة : الجماعة . ويعطوه : ينالوه . وأكديتم خبتم . وونيتم : فترتم . والأمد : الغاية . والمملق : الفقير . ويرأب : يجمع . والشعب : المتفرق . واستشرى : احتد وانكمش . فما برحت : أي ما زالت شكيمته ، وهي الأنفة والحمية . والوقيذ : العليل . والشجي : الحزين . والنشيج : صوت البكاء . وانتثلوه : أي مثلوه غرضا للرمي . وفلوا : كسروا . والصفاة : الصخرة الملساء . وقولها على سيسائه : أي على حده . والجران : الصدر . وهو البرك . ومعنى : فرفع حاشيته وجمع قطريه : تحزم للأمر وتأهب . والقطر : الناحية . فرد نشز الإسلام على غرب : كذا وقع في الرواية . والصواب على غرة أي ظنة . والطب : الدواء . والأود : العوج . والثقاف : تقويم الرماح . وابذقر : تفرق . وانتاش الدين : أزال عنه ما يخاف عليه . ونعشه : رفعه . والأهب : جمع إهاب وهو الجلد . وأوحدت : أي جاءت به منفردا لا نظير له . ففنخ الكفرة : أذلها . وديخها : أي دوخها . ومعنى شذر مذر : التفريق . ونخع : شق . ومثله نفج . والأكل : الخير . وترأمه : تعطف عليه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					