قوله تعالى :
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا
معنى التسبيح : التنزيه عن كل سوء . واعلم أن الله تعالى سبح نفسه عند كل عظيم لما كان اختلاف الليل والنهار من عجائب الأمور ومما لا يقدر عليه غيره ، ثم ادعى المشركون وجود شريك معه نزه نفسه عن ذلك فقال : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ولما اختار عائشة لنبيه فقذفت سبح نفسه أن يختار للمختار إلا خيرة فقال : سبحانك هذا بهتان عظيم ولما أسرى بنبيه صلى الله عليه وسلم فكذبه الكفار سبح نفسه لأن قدرته لا تعجز . والمنعم عليه بذلك أهل فقال : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا .
وأسرى بمعنى سير عبده . ويقال : سريت وأسريت ، إذا سرت ليلا . وقد جاءت اللغتان في القرآن . قال تعالى : والليل إذا يسر .
والمراد بعبده ها هنا : محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله سبحانه وتعالى : من المسجد الحرام فيه قولان :
أحدهما أنه من نفس المسجد قاله الحسن وقتادة ويؤيده ما ذكرنا في حديث مالك بن صعصعة : " بينا أنا في الحطيم أو في الحجر " .
الثاني : أنه أسري به من بيت أم هانئ . ذكر جماعة من المفسرين فعلى هذا يعني بالمسجد الحرام والحرم كله مسجد .
وأما المسجد الأقصى فهو بيت المقدس . وقيل له الأقصى لبعد المسافة بين المسجدين . ومعنى باركنا حوله أن الله تعالى أجرى الأنهار وأنبت الأشجار . وقيل [ ص: 440 ] إنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة . قال أبو هريرة دخل بيت المقدس وصلى فيه بالأنبياء ثم عرج به إلى السماء .
واعلم أن الإسراء كان إلى بيت المقدس والمعراج من هنالك إلى السماء ، وإنما جعل كذلك لأربعة فوائد :
الفائدة الأولى : أنه لو أخبر بصعوده إلى السماء في بدء الحديث لاشتد إنكارهم ولو وصفها لهم لم يكن عندهم علم بذلك ، فلما أخبرهم ببيت المقدس ووصفه لهم دل صدقه في ذلك على صدقه في حديث المعراج .
وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه " . وروى عروة عن عائشة قالت لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يحدث الناس بذلك فسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر فقالوا : هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس ؟ قال : وقد قال ذلك ؟ قالوا : نعم . قال : إن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : تصدقه أنه ذهب إلى الشام في ليلة وجاء قبل أن يصبح ؟ قال : نعم إني لأصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة . فلذلك سمي أبو بكر الصديق .
الفائدة الثانية : أنه سيره في الأرض يستأنس ثم درج إلى الصعود إلى السماء ، فهو نظير قوله : وما تلك بيمينك يا موسى فلما أنس بالخطاب حمل الرسالة إلى فرعون .
الفائدة الثالثة : أن الأنبياء جمعوا هنالك فصلى بهم فبان فضله بالتقديم عليهم في دار التكليف . وكان ائتمامهم به مشيرا إلى نسخ شرائعهم بشرعه .
الفائدة الرابعة : أنه مر بالنواحي التي كلم عندها موسى ، ثم صعد فكلم في السماوات ليظهر التفاوت بتقديمه .
ومذهب أهل السنة أنه رأى ربه ليلة المعراج . وقد ذكرنا ذلك عن ابن عباس وكعب .
أخبرنا ابن المذهب أخبرنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت ربي تبارك وتعالى " .
[ ص: 441 ] وقد تعلق من أنكر ذلك بإنكار عائشة أن يكون رآه . والجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه رأي منها لا رواية ، فلا يقاوم رواية من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " رأيت ربي " .
والثاني : أنها نفت والعمل على الإثبات .
والثالث : أنها كانت في زمن المعراج صغيرة ولم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقول الرجال العلماء من الصحابة مقدم .


