( ( فصل في
nindex.php?page=treesubj&link=25008_9965_9966ذكر من قيل بعدم قبول إسلامه من طوائف أهل العناد والزندقة والإلحاد ) )
اعلم - وفقني الله وإياك - أن علماءنا ذكروا تحتم قتل جماعة من
الزنادقة وأهل الإلحاد ; لعدم قبول إسلامهم بحسب الظاهر كالزنديق ، ومن تكررت ردته ، أو كفر بسحره ، أو سب الله ، أو رسوله ، أو تنقصه ، وأما حكمهم في الآخرة ، فإن صدقوا قبل بلا خلاف ، وعن الإمام
أحمد - رضي الله عنه - رواية ثانية أن توبتهم تقبل كغيرهم وهذا الذي نختاره ; ولهذا قال :
( ( وقيل في الدروز والزنادقة وسائر الطوائف المنافقة ) ) ( ( وكل داع لابتداع يقتل
كمن تكرر نكثه لا يقبل ) ) ( ( لأنه لم يبد من إيمانه
إلا الذي أذاع من لسانه ) ) ( ( كملحد وساحر وساحرة
وهم على نياتهم في الآخرة ) ) ( ( قلت وإن دلت دلائل الهدى
كما جرى للعيلبوني اهتدى ) ) ( ( فإنه أذاع من أسرارهم
ما كان فيه الهتك عن أستارهم ) ) ( ( وكان للدين القويم ناصرا
فصار منا باطنا وظاهرا ) ) ( ( فكل زنديق وكل مارق
وجاحد وملحد منافق ) ) ( ( إذا استبان نصحه للدين
فإنه يقبل عن يقين ) )
[ ص: 391 ] ( ( وقيل ) ) وهو المذهب فقها ( ( في ) ) طوائف ( ( الدروز ) ) من
الحمزاوية أتباع
حمزة ، المدعو عندهم
بهادي المستجيبين ،
والبرذعي ،
والدرزي وغيرهم ، من الحاكميين القائلين بإلهية
الحاكم العبيدي ، وكان أخصهم بالحاكم وأعجبهم إليه
حمزة المدعو بهادي المستجيبين ، وهو حمزة اللباد وكان أعجميا من الزورى فأظهر الدعاء إلى
عبادة الحاكم ، وزعم أن الإله حل فيه واجتمع إليه جماعة من
غلاة الإسماعيلية ، وكثر جمعه ومن دخل في دعوته وشاع ذلك فظهر . وكان
الحاكم إذا ركب إلى تلك الجهة التي هو بها ، فإنه كان مقيما في المسجد الذي عند
سقاية زيدان بظاهر
باب النصر من
مصر ؛ خرج إليه من المسجد وانفرد به ويقف
الحاكم له راكبا ، فيحادثه ويفاوضه وارتفع شأن هذا الملعون ، واتخذ لنفسه خواصا لقبهم بألقاب ، منهم رجل لقبه بسفير القدرة وجعله رسولا ، فكان يرسله لأخذ البيعة على ما يعتقده الحاكم ، ثم نبغ شاب من موالي
الأتراك اسمه أنوشتكين
البخاري ، ويعرف بالدرزي فسلك طريق
الزوري ، فكثر تبعه والمنتابون إليه ، وإليه تنسب
طائفة الدروز ، وكان أيضا يقف للحاكم ويخلو به ويقرر معه ما يفعله ، وسمى نفسه سيد الهادين وحياة المستجيرين ، وهؤلاء وأتباعهم ومن نحا نحوهم هم الطائفة الموسومة
بالإسماعيلية .
قال الإمام
شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - :
الإسماعيلية كانوا
ملوك مصر القاهرة ، وكانوا يزعمون أنهم خلفاء علويون فاطميون ، وهم عند أهل العلم من ذرية
عبيد الله القداح ، وقال فيهم
nindex.php?page=showalam&ids=14847الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه الذي صنفه عليهم : ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض . وقد جزم
شيخ الإسلام بكفر
الإسماعيلية في محلات متعددة من مصنفاته ، وأنهم من
القرامطة النصيرية ، وأنهم أشد كفرا من الغالية الذين يقولون بإلهية أمير المؤمنين
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ونبوته .
وعبيد الله هو الملقب بالمهدي أول العبيدين ، والمحققون ينكرون دعواه في نسبته لآل البيت ويقولون : إن اسمه
سعيد ولقبه عبيد الله ، وزوج أمه
الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن ميمون القداح ، وسمي قداحا ; لأنه كان كحالا يقدح العين التي ينزل فيها الماء ، وسموا
بالإسماعيلية نسبة إلى
عبيد الله بن محمد بن إسماعيل [ ص: 392 ] بن جعفر . وهو أبو طاهر المنصور بن القائم بن المهدي صاحب إفريقية ، وهم أهل هذه البدعة ، ويقال إن جدهم كان يهوديا ، ولا مزيد على ما هم عليه من الكفر ، والإلحاد ، والزندقة ، والعناد ، وقد فشت نحلتهم وانتشرت بدعتهم ، وكثرت وعظم ضررها واستفحل كفرها وشررها ، ولا سيما في
شوف ابن معن ونواحي
كسروان ، وفي
الكرمل ونواحي
عكا وتلك البلدان ، والله المستعان .
( (
والزنادقة ) ) جمع زنديق ، قال في المطلع : الزنديق فارسي معرب وجمعه زنادقة ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : الهاء في زنادقة بدل من ياء زناديق . قال
الجوهري : وقد تزندق ، والاسم الزندقة . قال
ثعلب : ليس زنديق ولا فرزين من كلام العرب ، إنما يقولون : زندق وزندقي إذا كان شديد البخل .
وفي القاموس : الزنديق بالكسر من الثنوية أو القائل بالنور والظلمة ، أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية ، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان ، أو معرب " زن دين " أي دين المرأة ، قال : والجمع زنادقة ، أو زناديق . انتهى .
قال
الإمام الموفق في المغني :
nindex.php?page=treesubj&link=25005الزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر وكان يسمى منافقا ، ويسمى اليوم زنديقا . ومن ثم قال : ( ( وسائر ) ) أي بقية ( ( الطوائف ) ) جمع طائفة ، وهي القطعة أو الواحد فصاعدا ، أو إلى الألف ، أو أقلها رجلان ، أو رجل ، فيكون بمعنى النفس - كله في القاموس . وقال في النهاية : الطائفة الجماعة من الناس ، ويقع على الواحد كأنه أراد نفسا طائفة ، قال : وسئل
nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق بن راهويه عنه فقال : الطائفة دون الألف ( ( المنافقة ) ) من النفاق وهو إبطان الكفر وإظهار الإيمان ، قال في النهاية : قد تكرر في الأحاديث ذكر النفاق وما تصرف منه اسما وفعلا ، قال : وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به - وهو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه - ، وإن كان أصله في اللغة معروفا ، يقال : نافق ينافق منافقة ونفاقا ، وهو مأخوذ من النافقاء إحدى جحرة اليربوع ، إذا طلب من واحد هرب من الآخر وخرج منه ، قيل : وهو من النفق وهو السرب الذي يستتر فيه ؛ لستره كفره . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه التفرقة بين الإيمان والزندقة : فأما ما يتعلق بهذا الجنس - يعني التأويلات البعيدة بأصول العقائد المهمة - قال : وأصول الإيمان ثلاثة : الإيمان بالله وبرسوله وباليوم
[ ص: 393 ] الآخر ، وما عداه فروع ، فيجب تكفير من يغير الظاهر بغير برهان قاطع ، كالذي ينكر العقوبات الحسية في الآخرة بظنون وأوهام واستبعادات من غير برهان قاطع ، فيجب تكفيره قطعا . ويجب تكفير من قال منهم أن الله - عز وجل - لا يعلم إلا نفسه ، أو لا يعلم إلا الكليات فأما الأمور الجزئية المتعلقة بالأشخاص فلا يعلمها ; لأن ذلك تكذيب للرسول - صلى الله عليه وسلم - قطعا ، وليس من قبيل الدرجات التي يسوغ فيها التأويل إذ أدلة القرآن والأخبار على تفهيم حشر الأجساد ، وتفهيم علم الله - تعالى - لكل ما يجري على الإنسان - مجاوزة حدا لا يقبل التأويل ، وهم معترفون بأن هذا ليس من التأويل ، قالوا : ولكن لما كان صلاح الخلق في أن يعتقدوا حشر الأجساد لقصور عقولهم عن فهم المعاد العقلي ، وكان صلاحهم في أن يعتقدوا أن الله عالم بما يجري عليهم ، ورقيب عليهم ليورث ذلك رغبة ورهبة في قلوبهم ، جاز للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يفهمهم ذلك ، قالوا : وليس بكاذب من أصلح غيره ، فقال ما فيه صلاحه ، وإن لم يكن كما قاله ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي : وهذا القول باطل قطعا ; لأنه تصريح بالتكذيب ، ويجب إجلال منصب النبوة عن هذه الرزيلة ، ففي الصدق وإصلاح الخلق به مندوحة عن الكذب ، قال : وهذه أول درجات الزندقة ، وهي رتبة بين الاعتزال وبين الزندقة المطلقة ، فإن المعتزلة تقرب مناهجهم من مناهج الفلاسفة إلا في هذا الأمر الواحد ، وهو أن المعتزلي لا يجوز الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا ، بل يئول الظاهر مهما ظهر له بالبرهان خلافه ، والفلسفي لا يقتصر مجاوزته للظواهر على ما يقبل التأويل على قرب أو بعد ، قال : وأما الزندقة المطلقة هو أن ينكر أصل المعاد بنوع عقلي مع نفي الآلام ، واللذات الحسية ، وإثبات الصانع مع نفي علمه بتفاصيل الأمور ، فهي زندقة مقيدة بنوع اعتراف بصدق الأنبياء ، وظاهر ظني ، قال : والعلم عند الله - تعالى - أن هؤلاء المرادون بقوله - صلى الله عليه وسلم - :
" ستفترق أمتي نيفا وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا الزنادقة ، وهي فرقة " قال : وهذا لفظ الحديث في بعض الروايات ، قال : وظاهر الحديث يدل على أنه أراد
الزنادقة من أمته إذ قال :
[ ص: 394 ] "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026248ستفترق أمتي " ومن لم يعترف بنبوته فليس من أمته ، والذين ينكرون أصل المعاد وأصل الصانع ، فليسوا معترفين بنبوته ، إذ يزعمون أن الموت عدم محض ، وأن العالم لم يزل كذلك موجودا لنفسه من غير صانع ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، وينسبون الأنبياء إلى التلبيس ، فلا يمكن نسبتهم إلى الأمة ، فإذا لا معنى لزندقة هذه الأمة إلا ما ذكرناه . انتهى .
أقول : أما هذا الحديث الذي ذكره ، فلا أصل له ، وتقدم الكلام عليه في صدر الكتاب ، وقول
شيخ الإسلام ابن تيمية - طيب الله مثواه - بأنه موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ، ولم يروه أحد من أهل الحديث المعروفين بهذا اللفظ ، بل الحديث الذي في كتب السنن ، والمسانيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026249ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة في الجنة واثنان وسبعون في النار " وروي عنه أنه قال : "
هي الجماعة " وفي حديث آخر "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026064هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " وتقدم الحديث والكلام عليه مستوفى عند قوله :
بأن ذي الأمة سوف تفترق بضعا وسبعين اعتقادا والمحق
الأبيات . قال
شيخ الإسلام ابن تيمية : وأيضا لفظ الزندقة لا يوجد في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كما لا يوجد في القرآن ، وهو لفظ أعجمي معرب من كلام
الفرس بعد ظهور الإسلام ، وقد تكلم به السلف والأئمة في توبة الزنديق ونحو ذلك ، قال : والزنديق الذي تكلم الفقهاء في قبول توبته في الظاهر - المراد به عندهم المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، وإن كان مع ذلك يصلي ويصوم ويحج ويقرأ القرآن ، وسواء كان في باطنه يهوديا ، أو نصرانيا ، أو مشركا ، أو وثنيا ، وسواء كان معطلا للصانع وللنبوة ، أو للنبوة فقط ، أو لنبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقط ، فهذا زنديق وهو منافق ، وما في القرآن والسنة من ذكر المنافقين يتناول هذا بإجماع المسلمين ، وقد قال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=145إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=146إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما قال : ومثل هؤلاء المنافقين كفار في الباطن باتفاق المسلمين ، وإن كانوا مظهرين للشهادتين
[ ص: 395 ] والإقرار بما جاء به الرسول ومؤدين للواجبات الظاهرة ، فإن ذلك لا ينفعهم في الآخرة إذا لم يكونوا مؤمنين بقلوبهم باتفاق المسلمين . قال
شيخ الإسلام : وبهذا يظهر ضعف ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي من أنه لا معنى لزندقة هذه الأمة إلا ما ذكره من الزندقة المقيدة ، التي هي مذهب
الفلاسفة المشائين ، فإن الزندقة في هذه الأمة وغيرها باتفاق أئمة المسلمين أعم من هذا كما ذكره الفقهاء كلهم في باب توبة الزنديق وسائر أحكامه ، وإن لم يكن لفظ الزنديق واردا في الكتاب والسنة ، بل معناه عندهم المنافق ، وجميع من بلغته دعوة نبينا
محمد - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أصناف : مؤمن وكافر ومنافق ، والمنافق كافر في الباطن مسلم في الظاهر ، وقد أنزل الله - تعالى - وصف الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة ، فأنزل أربع آيات في المؤمنين ، وآيتين في الكافرين وبضع عشرة آية في المنافقين .
قال
شيخ الإسلام - قدس الله روحه - : وعامة ما يوجد النفاق في أهل البدع ، فإن الذي ابتدع الرفض كان منافقا زنديقا ، وكذلك يقال عن الذي ابتدع التجهم ، وكذلك رءوس
القرامطة وأمثالهم لا ريب أنهم من أعظم المنافقين ، وهؤلاء لا يتنازع المسلمون في كفرهم ; ولهذا قال :
( ( فَصْلٌ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=25008_9965_9966ذِكْرِ مَنْ قِيلَ بِعَدَمِ قَبُولِ إِسْلَامِهِ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ ) )
اعْلَمْ - وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ عُلَمَاءَنَا ذَكَرُوا تَحَتُّمَ قَتْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ
الزَّنَادِقَةِ وَأَهْلِ الْإِلْحَادِ ; لِعَدَمِ قَبُولِ إِسْلَامِهِمْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ كَالزِّنْدِيقِ ، وَمَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ ، أَوْ كَفَرَ بِسِحْرِهِ ، أَوْ سَبِّ اللَّهِ ، أَوْ رَسُولِهِ ، أَوْ تَنَقُّصِهِ ، وَأَمَّا حُكْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، فَإِنْ صَدَقُوا قُبِلَ بِلَا خِلَافٍ ، وَعَنِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ تُقْبَلُ كَغَيْرِهِمْ وَهَذَا الَّذِي نَخْتَارُهُ ; وَلِهَذَا قَالَ :
( ( وَقِيلَ فِي الدُّرُوزِ وَالزَّنَادِقَةِ وَسَائِرِ الطَّوَائِفِ الْمُنَافِقَةِ ) ) ( ( وَكُلِّ دَاعٍ لِابْتِدَاعٍ يَقْتُلُ
كَمَنْ تَكَرَّرَ نَكْثُهُ لَا يُقْبَلُ ) ) ( ( لِأَنَّهُ لَمْ يَبْدُ مِنْ إِيمَانِهِ
إِلَّا الَّذِي أَذَاعَ مِنْ لِسَانِهِ ) ) ( ( كَمُلْحِدٍ وَسَاحِرٍ وَسَاحِرَةْ
وَهُمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ فِي الْآخِرَةْ ) ) ( ( قُلْتُ وَإِنْ دَلَّتْ دَلَائِلُ الْهُدَى
كَمَا جَرَى لِلْعَيْلَبُونِيِّ اهْتَدَى ) ) ( ( فَإِنَّهُ أَذَاعَ مِنْ أَسْرَارِهِمْ
مَا كَانَ فِيهِ الْهَتْكُ عَنْ أَسْتَارِهِمْ ) ) ( ( وَكَانَ لِلدِّينِ الْقَوِيمِ نَاصِرَا
فَصَارَ مِنَّا بَاطِنًا وَظَاهِرَا ) ) ( ( فَكُلُّ زِنْدِيقٍ وَكُلُّ مَارِقِ
وَجَاحِدٍ وَمُلْحِدٍ مُنَافِقِ ) ) ( ( إِذَا اسْتَبَانَ نُصْحُهُ لِلدِّينِ
فَإِنَّهُ يُقْبَلُ عَنْ يَقِينِ ) )
[ ص: 391 ] ( ( وَقِيلَ ) ) وَهُوَ الْمَذْهَبُ فِقْهًا ( ( فِي ) ) طَوَائِفِ ( ( الدُّرُوزِ ) ) مَنِ
الْحَمْزَاوِيَّةِ أَتْبَاعِ
حَمْزَةَ ، الْمَدْعُو عِنْدَهُمْ
بِهَادِي الْمُسْتَجِيبِينَ ،
وَالْبَرْذَعِيِّ ،
وَالدُّرْزِيِّ وَغَيْرِهِمْ ، مِنَ الْحَاكِمِيينَ الْقَائِلِينَ بِإِلَهِيَّةِ
الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ ، وَكَانَ أَخُصَّهُمْ بِالْحَاكِمِ وَأَعْجَبُهُمْ إِلَيْهِ
حَمْزَةُ الْمَدْعُو بِهَادِي الْمُسْتَجِيبِينَ ، وَهُوَ حَمْزَةُ اللَّبَّادُ وَكَانَ أَعْجَمِيًّا مِنَ الزَّوْرَى فَأَظْهَرَ الدُّعَاءَ إِلَى
عِبَادَةِ الْحَاكِمِ ، وَزَعَمَ أَنَّ الْإِلَهَ حَلَّ فِيهِ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ
غُلَاةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ وَمَنْ دَخَلَ فِي دَعْوَتِهِ وَشَاعَ ذَلِكَ فَظَهَرَ . وَكَانَ
الْحَاكِمُ إِذَا رَكِبَ إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا ، فَإِنَّهُ كَانَ مُقِيمًا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي عِنْدَ
سِقَايَةِ زَيْدَانَ بِظَاهِرِ
بَابِ النَّصْرِ مِنْ
مِصْرَ ؛ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَانْفَرَدَ بِهِ وَيَقِفُ
الْحَاكِمُ لَهُ رَاكِبًا ، فَيُحَادِثُهُ وَيُفَاوِضُهُ وَارْتَفَعَ شَأْنُ هَذَا الْمَلْعُونِ ، وَاتَّخَذَ لِنَفْسِهِ خَوَاصًا لَقَّبَهُمْ بِأَلْقَابٍ ، مِنْهُمْ رَجُلٌ لَقَّبَهُ بِسَفِيرِ الْقُدْرَةِ وَجَعَلَهُ رَسُولًا ، فَكَانَ يُرْسِلُهُ لِأَخْذِ الْبَيْعَةِ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَاكِمُ ، ثُمَّ نَبَغَ شَابٌّ مِنْ مَوَالِي
الْأَتْرَاكِ اسْمُهُ أَنُوشْتِكِينَ
الْبُخَارِيُّ ، وَيُعْرَفُ بِالدُّرْزِيِّ فَسَلَكَ طَرِيقَ
الزَّوْرِيِّ ، فَكَثُرَ تَبِعُهُ وَالْمُنْتَابُونَ إِلَيْهِ ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ
طَائِفَةُ الدُّرُوزِ ، وَكَانَ أَيْضًا يَقِفُ لِلْحَاكِمِ وَيَخْلُو بِهِ وَيُقَرِّرُ مَعَهُ مَا يَفْعَلُهُ ، وَسَمَّى نَفْسَهُ سَيِّدَ الْهَادِينَ وَحَيَاةَ الْمُسْتَجِيرِينَ ، وَهَؤُلَاءِ وَأَتْبَاعُهُمْ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ هُمُ الطَّائِفَةُ الْمَوْسُومَةُ
بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ .
قَالَ الْإِمَامُ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ كَانُوا
مُلُوكَ مِصْرَ الْقَاهِرَةِ ، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ خُلَفَاءُ عَلَوِيُّونَ فَاطِمِيُّونَ ، وَهُمْ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ ذُرِّيَّةِ
عُبَيْدِ اللَّهِ الْقَدَّاحِ ، وَقَالَ فِيهِمُ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ عَلَيْهِمْ : ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمُ الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ . وَقَدْ جَزَمَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِكُفْرِ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ فِي مَحَلَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ مُصَنَّفَاتِهِ ، وَأَنَّهُمْ مِنَ
الْقَرَامِطَةِ النَّصِيرِيَّةِ ، وَأَنَّهُمْ أَشَدُّ كُفْرًا مِنَ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنُبُوَّتِهِ .
وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ الْمُلَقَّبُ بِالْمَهْدِيِّ أَوَّلُ الْعُبَيْدِينَ ، وَالْمُحَقِّقُونَ يُنْكِرُونَ دَعْوَاهُ فِي نِسْبَتِهِ لِآلِ الْبَيْتِ وَيَقُولُونَ : إِنَّ اسْمَهُ
سَعِيدٌ وَلَقَبَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ ، وَزَوْجُ أُمِّهِ
الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحُ ، وَسُمِّي قَدَّاحًا ; لِأَنَّهُ كَانَ كَحَّالًا يَقْدَحُ الْعَيْنَ الَّتِي يَنْزِلُ فِيهَا الْمَاءُ ، وَسُمُّوا
بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ نِسْبَةً إِلَى
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ [ ص: 392 ] بْنِ جَعْفَرَ . وَهُوَ أَبُو طَاهِرٍ الْمَنْصُورُ بْنُ الْقَائِمِ بْنِ الْمَهْدِيِّ صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ ، وَهُمْ أَهْلُ هَذِهِ الْبِدْعَةِ ، وَيُقَالُ إِنَّ جَدَّهُمْ كَانَ يَهُودِيًّا ، وَلَا مَزِيدَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ ، وَالْإِلْحَادِ ، وَالزَّنْدَقَةِ ، وَالْعِنَادِ ، وَقَدْ فَشَتْ نِحْلَتُهُمْ وَانْتَشَرَتْ بِدْعَتُهُمْ ، وَكَثُرَتْ وَعَظُمَ ضَرَرُهَا وَاسْتَفْحَلَ كُفْرُهَا وَشَرَرُهَا ، وَلَا سِيَّمَا فِي
شَوْفِ ابْنِ مَعْنٍ وَنَوَاحِي
كَسْرُوَانَ ، وَفِي
الْكَرْمَلِ وَنَوَاحِي
عَكَّا وَتِلْكَ الْبُلْدَانِ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
( (
وَالزَّنَادِقَةِ ) ) جَمْعُ زِنْدِيقٍ ، قَالَ فِي الْمَطْلَعِ : الزِّنْدِيقُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَجَمْعُهُ زَنَادِقَةٌ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ : الْهَاءُ فِي زَنَادِقَةٍ بَدَلَ مِنْ يَاءِ زَنَادِيقَ . قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ : وَقَدْ تَزَنْدَقَ ، وَالِاسْمُ الزَّنْدَقَةُ . قَالَ
ثَعْلَبٌ : لَيْسَ زِنْدِيقٌ وَلَا فَرْزِينٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ ، إِنَّمَا يَقُولُونَ : زَنْدَقٌ وَزَنْدَقِيُّ إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْبُخْلِ .
وَفِي الْقَامُوسِ : الزِّنْدِيقُ بِالْكَسْرِ مِنَ الثَّنَوِيَّةِ أَوِ الْقَائِلُ بِالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ ، أَوْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَبِالرُّبُوبِيَّةِ ، أَوْ مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ ، أَوْ مُعَرَّبُ " زَنْ دِينَ " أَيْ دِينُ الْمَرْأَةِ ، قَالَ : وَالْجَمْعُ زَنَادِقَةٌ ، أَوْ زَنَادِيقُ . انْتَهَى .
قَالَ
الْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي :
nindex.php?page=treesubj&link=25005الزِّنْدِيقُ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ وَكَانَ يُسَمَّى مُنَافِقًا ، وَيُسَمَّى الْيَوْمَ زِنْدِيقًا . وَمِنْ ثَمَّ قَالَ : ( ( وَسَائِرِ ) ) أَيْ بَقِيَّةِ ( ( الطَّوَائِفِ ) ) جَمْعُ طَائِفَةٍ ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ أَوِ الْوَاحِدُ فَصَاعِدًا ، أَوْ إِلَى الْأَلْفِ ، أَوْ أَقَلُّهَا رَجُلَانِ ، أَوْ رَجُلٌ ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى النَّفْسِ - كُلُّهُ فِي الْقَامُوسِ . وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : الطَّائِفَةُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ ، وَيَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ كَأَنَّهُ أَرَادَ نَفْسًا طَائِفَةً ، قَالَ : وَسُئِلَ
nindex.php?page=showalam&ids=12418إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ عَنْهُ فَقَالَ : الطَّائِفَةُ دُونَ الْأَلْفِ ( ( الْمُنَافِقَةِ ) ) مِنَ النِّفَاقِ وَهُوَ إِبِطَانُ الْكُفْرِ وَإِظْهَارُ الْإِيمَانِ ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ : قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْأَحَادِيثِ ذِكْرُ النِّفَاقِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ اسْمًا وَفِعْلًا ، قَالَ : وَهُوَ اسْمٌ إِسْلَامِيٌّ لَمْ تَعْرِفْهُ الْعَرَبُ بِالْمَعْنَى الْمَخْصُوصِ بِهِ - وَهُوَ الَّذِي يَسْتُرُ كُفْرَهُ وَيُظْهِرُ إِيمَانَهُ - ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مَعْرُوفًا ، يُقَالُ : نَافَقَ يُنَافِقُ مُنَافَقَةً وَنِفَاقًا ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّافِقَاءِ إِحْدَى جِحَرَةِ الْيَرْبُوعِ ، إِذَا طُلِبَ مِنْ وَاحِدٍ هَرَبَ مِنَ الْآخَرِ وَخَرَجَ مِنْهُ ، قِيلَ : وَهُوَ مِنَ النَّفَقِ وَهُوَ السَّرَبُ الَّذِي يُسْتَتَرُ فِيهِ ؛ لِسَتْرِهِ كُفْرَهُ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالزَّنْدَقَةِ : فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْجِنْسِ - يَعْنِي التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةَ بِأُصُولِ الْعَقَائِدِ الْمُهِمَّةِ - قَالَ : وَأُصُولُ الْإِيمَانِ ثَلَاثَةٌ : الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِالْيَوْمِ
[ ص: 393 ] الْآخِرِ ، وَمَا عَدَاهُ فُرُوعٌ ، فَيَجِبُ تَكْفِيرُ مَنْ يُغَيِّرُ الظَّاهِرَ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ قَاطِعٍ ، كَالَّذِي يُنْكِرُ الْعُقُوبَاتِ الْحِسِّيَّةَ فِي الْآخِرَةِ بِظُنُونٍ وَأَوْهَامٍ وَاسْتِبْعَادَاتٍ مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ قَاطِعٍ ، فَيَجِبُ تَكْفِيرُهُ قَطْعًا . وَيَجِبُ تَكْفِيرُ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَعْلَمُ إِلَّا نَفْسَهُ ، أَوْ لَا يَعْلَمُ إِلَّا الْكُلِّيَّاتِ فَأَمَّا الْأُمُورُ الْجُزْئِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَشْخَاصِ فَلَا يَعْلَمُهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطْعًا ، وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الدَّرَجَاتِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا التَّأْوِيلُ إِذْ أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارُ عَلَى تَفْهِيمِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ ، وَتَفْهِيمِ عِلْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِكُلِّ مَا يَجْرِي عَلَى الْإِنْسَانِ - مُجَاوِزَةٌ حَدًّا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ ، وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ التَّأْوِيلِ ، قَالُوا : وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ صَلَاحُ الْخَلْقِ فِي أَنْ يَعْتَقِدُوا حَشْرَ الْأَجْسَادِ لِقُصُورِ عُقُولِهِمْ عَنْ فَهْمِ الْمَعَادِ الْعَقْلِيِّ ، وَكَانَ صَلَاحُهُمْ فِي أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ ، وَرَقِيبٌ عَلَيْهِمْ لِيُورِثَ ذَلِكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ، جَازَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُفَهِّمَهُمْ ذَلِكَ ، قَالُوا : وَلَيْسَ بِكَاذِبٍ مَنْ أَصْلَحَ غَيْرَهُ ، فَقَالَ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَالَهُ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيُّ : وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِالتَّكْذِيبِ ، وَيَجِبُ إِجْلَالُ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ عَنْ هَذِهِ الرَّزِيلَةِ ، فَفِي الصِّدْقِ وَإِصْلَاحِ الْخَلْقِ بِهِ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ ، قَالَ : وَهَذِهِ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الزَّنْدَقَةِ ، وَهِيَ رُتْبَةٌ بَيْنَ الِاعْتِزَالِ وَبَيْنَ الزَّنْدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ ، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَقْرُبُ مَنَاهِجُهُمْ مِنْ مَنَاهِجِ الْفَلَاسِفَةِ إِلَّا فِي هَذَا الْأَمْرِ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَزِلِيَّ لَا يُجَوِّزُ الْكَذِبَ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ هَذَا ، بَلْ يَئَوِّلُ الظَّاهِرَ مَهْمَا ظَهَرَ لَهُ بِالْبُرْهَانِ خِلَافُهُ ، وَالْفَلْسَفِيُّ لَا يَقْتَصِرُ مُجَاوَزَتُهُ لِلظَّوَاهِرِ عَلَى مَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ عَلَى قُرْبٍ أَوْ بَعْدٍ ، قَالَ : وَأَمَّا الزَّنْدَقَةُ الْمُطْلَقَةُ هُوَ أَنْ يُنْكِرَ أَصْلَ الْمَعَادِ بِنَوْعٍ عَقْلِيٍّ مَعَ نَفْيِ الْآلَامِ ، وَاللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ ، وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ مَعَ نَفْيِ عِلْمِهِ بِتَفَاصِيلِ الْأُمُورِ ، فَهِيَ زَنْدَقَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِنَوْعِ اعْتِرَافٍ بِصِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَظَاهِرٍ ظَنِّيٍّ ، قَالَ : وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
" سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي نَيِّفًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الزَّنَادِقَةَ ، وَهِيَ فِرْقَةٌ " قَالَ : وَهَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ، قَالَ : وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ
الزَّنَادِقَةَ مِنْ أُمَّتِهِ إِذْ قَالَ :
[ ص: 394 ] "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026248سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي " وَمَنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِنُبُوَّتِهِ فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِهِ ، وَالَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَصْلَ الْمَعَادِ وَأَصْلَ الصَّانِعِ ، فَلَيْسُوا مُعْتَرِفِينَ بِنُبُوَّتِهِ ، إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَوْتَ عَدَمٌ مَحْضٌ ، وَأَنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ مَوْجُودًا لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ صَانِعٍ ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَيَنْسُبُونَ الْأَنْبِيَاءَ إِلَى التَّلْبِيسِ ، فَلَا يُمْكِنُ نِسْبَتُهُمْ إِلَى الْأُمَّةِ ، فَإِذًا لَا مَعْنَى لِزَنْدَقَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ . انْتَهَى .
أَقُولُ : أَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ ، فَلَا أَصْلَ لَهُ ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ ، وَقَوْلُ
شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - طَيَّبَ اللَّهُ مَثْوَاهُ - بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ ، بَلِ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي كُتُبِ السُّنَنِ ، وَالْمَسَانِيدِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026249سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ " وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : "
هِيَ الْجَمَاعَةُ " وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026064هِيَ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي " وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى عِنْدَ قَوْلِهِ :
بِأَنَّ ذِي الْأُمَّةَ سَوْفَ تَفْتَرِقُ بِضْعًا وَسَبْعِينَ اعْتِقَادًا وَالْمُحِقُّ
الْأَبْيَاتَ . قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَأَيْضًا لَفْظُ الزَّنْدَقَةِ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ ، وَهُوَ لَفْظٌ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ مِنْ كَلَامِ
الْفُرْسِ بَعْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بِهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، قَالَ : وَالزِّنْدِيقُ الَّذِي تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ فِي الظَّاهِرِ - الْمُرَادُ بِهِ عِنْدَهُمُ الْمُنَافِقُ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَحُجُّ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي بَاطِنِهِ يَهُودِيًّا ، أَوْ نَصْرَانِيًّا ، أَوْ مُشْرِكًا ، أَوْ وَثَنِيًّا ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُعَطِّلًا لِلصَّانِعِ وَلِلنُّبُوَّةِ ، أَوْ لِلنُّبُوَّةِ فَقَطْ ، أَوْ لِنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَطْ ، فَهَذَا زِنْدِيقٌ وَهُوَ مُنَافِقٌ ، وَمَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ يَتَنَاوَلُ هَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=145إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=146إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا قَالَ : وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانُوا مُظْهِرِينَ لِلشَّهَادَتَيْنِ
[ ص: 395 ] وَالْإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمُؤَدِّينَ لِلْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِقُلُوبِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَبِهَذَا يَظْهَرُ ضَعْفُ مَا ذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِزَنْدَقَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الزَّنْدَقَةِ الْمُقَيَّدَةِ ، الَّتِي هِيَ مَذْهَبُ
الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ ، فَإِنَّ الزَّنْدَقَةَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهَا بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ فِي بَابِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُ الزِّنْدِيقِ وَارِدًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، بَلْ مَعْنَاهُ عَنْدَهُمُ الْمُنَافِقُ ، وَجَمِيعُ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ نَبِيِّنَا
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَمُنَافِقٌ ، وَالْمُنَافِقُ كَافِرٌ فِي الْبَاطِنِ مُسْلِمٌ فِي الظَّاهِرِ ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَصْفَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فَأَنْزَلَ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي الْمُؤْمِنِينَ ، وَآيَتَيْنِ فِي الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي الْمُنَافِقِينَ .
قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - : وَعَامَّةُ مَا يُوجَدُ النِّفَاقُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ ، فَإِنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ الرَّفْضَ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ عَنِ الَّذِي ابْتَدَعَ التَّجَهُّمَ ، وَكَذَلِكَ رُءُوسُ
الْقَرَامِطَةِ وَأَمْثَالِهِمْ لَا رَيْبَ أَنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَافِقِينَ ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَتَنَازَعُ الْمُسْلِمُونَ فِي كُفْرِهِمْ ; وَلِهَذَا قَالَ :