الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وقال أبو محمد بن حزم في كتابه في [1] " الملل والنحل " [2] اختلف الناس في الإمامة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت [3] طائفة : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف أحدا ، ثم اختلفوا [4] فقال بعضهم : [ لكن ] [5] لما استخلف أبا بكر [6] على الصلاة كان ذلك دليلا على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة على الأمر [7] . وقال بعضهم : لا ، ولكن كان أبينهم [8] فضلا فقدموه لذلك .

                  وقالت طائفة : بل نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على استخلاف أبي بكر بعده على أمور الناس نصا جليا .

                  قال أبو محمد : وبهذا نقول لبراهين ، أحدها إطباق الناس كلهم ، [ ص: 494 ] وهم الذين قال الله فيهم : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [ سورة الحشر : 8 ] .

                  فقد اتفق [9] هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار - رضي الله عنهم - على أن سموه خليفة رسول - الله صلى الله عليه وسلم - .

                  ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه المرء لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه [ هو ] [10] ، لا يجوز غير هذا ألبتة في اللغة بلا خلاف . تقول : [11] استخلف فلان فلانا يستخلفه فهو خليفة [12] ومستخلفه ، فإن قام مكانه دون أن يستخلفه [13] لم يقل إلا : خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف .

                  قال [14] : " ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لوجهين ضرورين : أحدهما : أنه لم [15] يستحق أبو بكر قط [16] هذا الاسم على [ ص: 495 ] الإطلاق في حياة رسول الله [17] - صلى الله عليه وسلم - ، وهو حينئذ خليفته [ على الصلاة ] [18] ، فصح [ يقينا ] [19] أن خلافته المسمى بها [20] هي غير خلافته على الصلاة .

                  والثاني أن كل من استخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته كعلي في غزوة تبوك ، وابن أم مكتوم في غزوة الخندق ، وعثمان بن عفان في غزوة ذات الرقاع ، وسائر من استخلفه على البلاد باليمن والبحرين والطائف وغيرها ، لم يستحق أحد منهم قط بلا خلاف بين أحد من الأمة [21] أن يسمى خليفة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] [22] ، فصح يقينا بالضرورة التي لا محيد عنها أنها الخلافة [23] بعده على أمته .

                  ومن المحال [24] أن يجمعوا على ذلك وهو [25] لم يستخلفه نصا ، ولو لم يكن هاهنا [26] إلا استخلافه في الصلاة [27] لم يكن [28] أبو بكر أولى بهذه التسمية [29] من سائر من ذكرنا [30] " .

                  [ ص: 496 ] قال [31] : " وأيضا فإن الرواية قد صحت أن [32] امرأة قالت : يا رسول الله أرأيت إن رجعت فلم [33] أجدك ؟ كأنها تعني [34] الموت . قال : فأتى أبا بكر " قال [35] : " وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر " .

                  قال [36] : " وأيضا فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة [37] في مرضه الذي توفي فيه [38] : " لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك ، وأكتب كتابا وأعهد عهدا ، لكيلا [39] يقول قائل : أنا أحق ، أو يتمنى متمن ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر [40] .

                  ( * وروي [41] : ويأبى الله ورسوله والمؤمنون [ إلا أبا بكر ] [42] * ) [43] . وروي [ ص: 497 ] [ أيضا ] [44] : ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر " قال : [45] " فهذا نص جلي على استخلافه - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر على ولاية الأمة " بعده .

                  قال [46] : " واحتج من قال : لم يستخلف [ أبا بكر ] [47] بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن عمر [48] ، أنه قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني - يعني أبا بكر - وإلا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني ، يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وبما روي عن عائشة [ رضي الله عنها ] [49] إذ [50] سئلت : من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفا لو استخلف ؟ [51] " .

                  [ ص: 498 ] قال [52] " ومن المحال [53] أن يعارض إجماع الصحابة الذي [54] ذكرنا عنهم [55] ، والأثران الصحيحان المسندان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لفظه ، بمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة [56] - رضي الله عنهما - [57] مما لا تقوم به [58] حجة ظاهرة [59] ، من أن [60] هذا الأثر خفي على عمر [61] كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالاستئذان [62] [ ص: 499 ] وغيره ، أو أنه [63] أراد استخلافا بعهد مكتوب ، ونحن نقر أن استخلاف أبي بكر [64] لم يكن بعهد مكتوب [65] .

                  وأما الخبر في ذلك عن عائشة [66] فكذلك أيضا [67] . وقد يخرج كلاهما [68] على سؤال سائل ، وإنما الحجة في روايتهما لا في قولهما [69] . " .

                  قلت : والكلام في تثبيت خلافة أبي بكر وغيره مبسوط في غير هذا الموضع ، وإنما المقصود هنا البيان لكلام الناس في خلافته : هل حصل عليها نص جلي أو نص خفي ؟ [70] وهل ثبتت بذلك أو بالاختيار من أهل الحل والعقد ؟

                  فقد تبين أن كثيرا من السلف والخلف قالوا فيها بالنص الجلي أو الخفي ، وحينئذ فقد بطل قدح الرافضي في أهل السنة بقوله : إنهم يقولون : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينص على إمامة أحد ، وأنه مات من غير وصية ، وذلك [71] أن هذا القول لم يقله جميعهم ، فإن كان [ ص: 500 ] حقا فقد قاله بعضهم ، وإن كان الحق هو نقيضه فقد قال بعضهم ذلك . فعلى التقديرين لم يخرج الحق عن أهل السنة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية