وقال في كتابه في أبو محمد بن حزم [1] " الملل والنحل " [2] اختلف الناس في الإمامة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت [3] طائفة : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف أحدا ، ثم اختلفوا [4] فقال بعضهم : [ لكن ] [5] لما استخلف أبا بكر [6] على الصلاة كان ذلك دليلا على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة على الأمر [7] . وقال بعضهم : لا ، ولكن كان أبينهم [8] فضلا فقدموه لذلك .
وقالت طائفة : بل بعده على أمور الناس نصا جليا أبي بكر . نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على استخلاف
قال أبو محمد : وبهذا نقول لبراهين ، أحدها إطباق الناس كلهم ، [ ص: 494 ] وهم الذين قال الله فيهم : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [ سورة الحشر : 8 ] .
فقد اتفق [9] هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار - رضي الله عنهم - على أن سموه خليفة رسول - الله صلى الله عليه وسلم - .
ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه المرء لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه [ هو ] [10] ، لا يجوز غير هذا ألبتة في اللغة بلا خلاف . تقول : [11] استخلف فلان فلانا يستخلفه فهو خليفة [12] ومستخلفه ، فإن قام مكانه دون أن يستخلفه [13] لم يقل إلا : خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف .
قال [14] : " ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لوجهين ضرورين : أحدهما : أنه لم [15] يستحق قط أبو بكر [16] هذا الاسم على [ ص: 495 ] الإطلاق في حياة رسول الله [17] - صلى الله عليه وسلم - ، وهو حينئذ خليفته [ على الصلاة ] [18] ، فصح [ يقينا ] [19] أن خلافته المسمى بها [20] هي غير خلافته على الصلاة .
والثاني أن كل من استخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته في غزوة كعلي تبوك ، في غزوة وابن أم مكتوم الخندق ، في غزوة وعثمان بن عفان ذات الرقاع ، وسائر من استخلفه على البلاد باليمن والبحرين والطائف وغيرها ، لم يستحق أحد منهم قط بلا خلاف بين أحد من الأمة [21] أن يسمى خليفة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] [22] ، فصح يقينا بالضرورة التي لا محيد عنها أنها الخلافة [23] بعده على أمته .
ومن المحال [24] أن يجمعوا على ذلك وهو [25] لم يستخلفه نصا ، ولو لم يكن هاهنا [26] إلا استخلافه في الصلاة [27] لم يكن [28] أولى بهذه التسمية أبو بكر [29] من سائر من ذكرنا [30] " .
[ ص: 496 ] قال [31] : " وأيضا فإن الرواية قد صحت [32] امرأة قالت : يا رسول الله أرأيت إن رجعت فلم [33] أجدك ؟ كأنها تعني [34] الموت . قال : فأتى أبا بكر " قال أن [35] : " وهذا نص جلي على استخلاف " . أبي بكر
قال [36] : " وأيضا فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة لعائشة [37] في مرضه الذي توفي فيه [38] : " لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك ، وأكتب كتابا وأعهد عهدا ، لكيلا [39] يقول قائل : أنا أحق ، أو يتمنى متمن ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال [40] .
( * وروي [41] : أبا بكر ] ويأبى الله ورسوله والمؤمنون [ إلا [42] * ) [43] . وروي [ ص: 497 ] [ أيضا ] [44] : أبا بكر " قال : ويأبى الله والنبيون إلا [45] " فهذا نص جلي على استخلافه - صلى الله عليه وسلم - على ولاية الأمة " بعده . أبا بكر
قال [46] : " واحتج من قال : لم يستخلف [ ] أبا بكر [47] بالخبر المأثور عن عن عبد الله بن عمر عمر [48] ، أنه قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني - يعني - وإلا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني ، يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وبما روي عن أبا بكر [ رضي الله عنها ] عائشة [49] إذ [50] سئلت : من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفا لو استخلف ؟ [51] " .
[ ص: 498 ] قال [52] " ومن المحال [53] أن يعارض إجماع الصحابة الذي [54] ذكرنا عنهم [55] ، والأثران الصحيحان المسندان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لفظه ، بمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة [56] - رضي الله عنهما - [57] مما لا تقوم به [58] حجة ظاهرة [59] ، من أن [60] هذا الأثر خفي على عمر [61] كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالاستئذان [62] [ ص: 499 ] وغيره ، أو أنه [63] أراد استخلافا بعهد مكتوب ، ونحن نقر أن استخلاف أبي بكر [64] لم يكن بعهد مكتوب [65] .
وأما الخبر في ذلك عن عائشة [66] فكذلك أيضا [67] . وقد يخرج كلاهما [68] على سؤال سائل ، وإنما الحجة في روايتهما لا في قولهما [69] . " .
قلت : والكلام في تثبيت خلافة وغيره مبسوط في غير هذا الموضع ، وإنما المقصود هنا أبي بكر ؟ البيان لكلام الناس في خلافته : هل حصل عليها نص جلي أو نص خفي [70] وهل ثبتت بذلك أو بالاختيار من أهل الحل والعقد ؟
فقد تبين أن كثيرا من السلف والخلف قالوا فيها بالنص الجلي أو الخفي ، وحينئذ فقد بطل قدح الرافضي في أهل السنة بقوله : إنهم يقولون : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينص على إمامة أحد ، وأنه مات من غير وصية ، وذلك [71] أن هذا القول لم يقله جميعهم ، فإن كان [ ص: 500 ] حقا فقد قاله بعضهم ، وإن كان الحق هو نقيضه فقد قال بعضهم ذلك . فعلى التقديرين لم يخرج الحق عن أهل السنة .